خارج الصندوق


(1)
قبل مدة قامت كوكبة من العلماء والمشايخ والدعاة بزعامة اللجنة الدائمة ، بإصدار بيانً يُندد ويُطالب بوقف هجمة الإلحاد المُنتِنة والتي ظهرت في بلاد الحرمين.
ما كانوا يبغون من وراء ذلك إلا الآجر والمثوبة ، والحفاظ على حَّياض الدين ، ومآرب آخرى أن يهِشوا بالبيان على القطيع حتى لا يهرب بعيداً عن السياج .. فخروج القطيع عن السياج معناه ضياع كل المكاسب التي تحصل عليها الراعي سابقاً وضياع المكاسب التي ما يزال يقطف ثمارها !
إذاً .. جانبً كبيراً من المسألة يدور حول تجنب الخسائر المادية والإجتماعية ، فالأرباح يسيل لها اللعاب والوجاهة تستحق التمسح بالدين ، وطالما الدين بات بضاعة لاتبور فمرحباً بالتخلف و أهلاً وسهلاً .

(2)
والسؤال الذي يُطرح أحياناً : هل في بلاد الحرمين إلحاد بمعنى إلحاد ؟
حسناً .. مجتمعنا ليس أفضل من مجتمع (خير القرون) ، فينا الفاسق والتقي ، فينا الفاجر والورِّع ، فينا المؤمن ومن يُخفي كُفره .. وغالبيتنا لا تهتم .
غير أننا المجتمع الوحيد الذي يآبى الإعتراف بأنه مجتمعً طبيعي ، ولهذا نًصِر جميعً على إدعاء أفلاطونية ليست فينا وتنزيه حاضرنا عن كل الرزايا .. نًصِر أن نُظهِّر إسلامنا أنه أشد وأقوى من إسلام الصحابة والتابعين وتابعي التابعين !
وتلك مسألة طبيعية بالنسبة لأي مجتمع تكثر فيه العيوب والتناقضات ، أن يدعي الطُهر والعفاف تمويهاً للناظرين .
لهذا كله سيكون جواب السؤال ، بسؤال : هل ما نراه اليوم كإلحاد هو في حقيقته إلحاد أم محاولة للخروج عن السائد ؟

(3)
( زنديق .. فاجر .. كافر .. ملعون .. عميل .. مُلحِد ...... )
إن عملية الخروج عن السائد مُؤلمة ، والجديد دائمً في عُرف المجهول ، والإنسان في طبعه الخوف من المجهول.
لذلك نستأثر الإنغلاق و الإنزواء و الإبتعاد عن إعمال العقل والتوجس من الأخرين لكي نرضى بالمألوف ، فنحن نعتقد اليوم أن السائد هو الحق المبين ! .. لم ننتبه إلى أن السائد وإن كان فيه من الحق إلا أن عدم التجديد فيه سيجعله مع الوقت آسن ومن يعيش في الأسْن لفترات طويلة سيعتاد الأمر إلى أن تُصبِح كل الممارسات فيه كعادة ، والعادة تِباعاً ستخلق عدم رغبة في التجديد .
سلسلة من عدة حلقات نحن من صنعها بإدعاء الحق .. سلسة إذا ما سقطت فيها حلقة واحدة سينفرط كامل العقد ، هنا يكون الألم الناتج عن إنفراط كامل العقد مؤلم لكن آلامه مؤقتة وعلينا أن نتحملها لأن الرضى بالسائد وإن كانت آلامه أخف إلا أنها ستدوم .
وكمحاولة لتجنب ألم إنفراط العقد نُسارع فوراً بإتهام من يُحاوِل تحريك حلقة واحدة من حلقات السلسلة بالزندقة والفجور والكُفر والإلحاد ، ونلعنه في صلاتنا وسجودنا و نُؤلِب عليه القانون.

(4)
نحن لا نريد أن نسأل أنفسنا : هل الإلحاد أو ما يُشاع أنه ظاهرة باتت تنتشر في المجتمع هل هو أمر ( ديني أم دنيوي ) ؟
فلو أننا نظرنا للواقع من حولنا سنجد أن المجتمع يُعاني جداً في كثيراً من جوانبه الحياتية الدنيوية .. البطالة ، المحسوبية ، الإحتكار، غلاء الأسعار، شُح الأراضي!، الفقر، ...... إلخ من الأمراض التي تندرج ضمن دائرة الفساد ، والمؤسسة الدينية هي جزء من أجزاء هذا المجتمع ساهمت في إفساده كما أنها تأثرت بالفساد.
فأين ومتى وكيف أصبحت مشكلة هذا المجتمع مشكلة دينية ؟
الأقرب للعقل وللباحث بإنصاف أن مظاهر الإنعتاق والإنحلال عن الدين ليست أكثر من صرخات مِن جيلاً مكلوم يُعاني منذ أن يستيقظ إلى المنام .. جيلاً يريد ويسعى إلى إيجاد حلاً يضمن له حياة طبيعية لكن الأبواب أمامه كلها مُغلقة بإحكام ، وتُرِك باب ( لا إله ) مفتوحاً كنوع من التنفيس.
إذاً .. جزءً مما يظهر كملامح إنعتاق عن الدين وصراخ وإنحلال ليس أكثر من لعبة سياسية !
والمسألة مسألة وقت حتى تختفي كلمة ( إلــه ) من صرخاته وتبرز ( لا ) .. لا لأي شكل من أشكال الفساد .. حينها لن يستطيع أحداً الوقوف في وجه لائاتِه .

حضرات الشيوخ الأفاضل إما أنهم لم يعوا الحقيقة أو لا يراد لهم أن يعوها ، حقيقة أنهم وأثناء البحث عن حل لإستشراء ( لا إلـه ) قد خلقوا مشاكل أعظم ، ومرد هذا إلى أن الشيوخ قد إستفردوا بالمواجهة رغم أن ( لا إلـه ) اليوم غالباً ليست موجهة إلى ذات الله إنما إلى من يعيث في الأرض الفساد وهو مُتلحفً برداء المتحدث بإسم الله أو يحميه وكيلاً من وكلاء الله.
كان الأولى أن يتنازل علماء الإجتماع و النفس والإقتصاد و غيرهم من لفيف المثقفين بمعاونة علماء الشريعة للبحث في أبعاد المشكلة ثم مُباشرة الحل .. الحل دنيوياً ثم دنيوياً فإصلاح واقع الفرد في المجتمع خير سبيل لضمان الراحة في أخرته .. هذا إن كان هنا من يهتم بأمر حيّاض الدين .
أما أن يكون البتر هو الخطوة الأولى في العلاج فهذا سيجعل من يتصدر للعلاج أول المتضررين.

(5)
إن المريض إذا ما كممنا فمه لمنعه من إطلاق صرخات الوجع فهذا لا يعني أنه لا يتألم .. إنما يعني شيئاً واحداً لا غير ، وهو أن الذي قد كمم فمه لا يُريد أن يُفتضح أمره ، لا يريد أن يظهر للعلن على حقيقته وأنه دجال وليس معالجاً
كطفلً يضرب أخاه ثم يسارع بوضع يديه على فم أخيه حتى يمنعه من البكاء ، الغاية من هذا التصرف الطفولي هي أن لا ينتبه الأب النائم في الغرفة المجاورة فيُعاقب المُخطيء .
كمعلمٍ يُهدد الطلبة أنه سيتقعد لهم إذا ما أشتكوه عند الإدارة ، حتى لا يتم نقله تأديبياً .
كشاب مستهتر من عائلة غنية يصدم بسيارته أحد المارة ثم يُسارع أبوه إلى دفع الأموال حتى يُلمم الفضيحة.
إن لتكميم الأفواه أشكالاً عديدة !
والأمثلة السابقة تنطبق تمامً على رجل الدين الذي يُسارع إلى قمع أصوات مُخالفيه ، وإتهامهم بالكفر والزندقة والإلحاد .. تصرفه ( ظاهرياً ) هو الخوف على حيّاض الدين ، لكن حقيقته أن رجل الدين يُريد أن يُخفي الحقيقة

(6)
ما يزال بيننا من يثور ويزبد ويرعد ويتوعد .. من أجل صندوق .
ما يزال بيننا من يريد إحكام إغلاق الصندوق وإعادته إلى سابق عهده ، مُغلقً بحُكم الشرع والقانون والعُرف !
ولم ينتبه هؤلاء أن الصندوق قد تكسر وتداعت أركانه ، فماذا سيفعل القفل والمفتاح ؟
من يبكي على الصندوق فليتنعم وحده بالتباكي عليه ، فهذا الجيل لن يكتفي بكسر القفل إنما سيُكسر كامل الصندوق سعياً إلى حياة طبيعية هانئة .. حياة فيها ربً أكبر ورسولً أعظم وإسلامً أوسع وأرحب .. حياةً لا يُحشر فيها المؤمنون في صندوق.

(7)
رسالة أخيرة :
إن ما ترونه يا أصحاب الفضيلة ويا دعاة ويا شيوخ ، يا مُفكرين ويا مثقفين .. بأنه من الكفر و الإلحاد يراه البعض بأنه ليس أكثر من محاولة للفِهم و إعمال العقل و السعي للبحث عن مخرج يُخرجه عن السائد الذي حشرتموه في أساسات الدين .
ومهما إرتأيتم ومهما إرتأى الأخرون ، فلم يُوكلكم الله على هؤلاء ولم يُوكلهم عليكم
يقول الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي :
[ ما من يوم إلا ويستأذن البحر ربه يقول يا رب إأذن لي أن أُغرق ابن ادم فأنة أكل رزقك وعبد غيرك .. وتقول السماوات يا رب إأذن لي أن أطبق على ابن ادم فأنة أكل رزقك وعبد غيرك .. و تقول الأرض يارب إأذن لي أن ابتلع ابن ادم فأنة أكل رزقك وعبد غيرك .. فيقول الله تعالى دعوهم لو خلقتموهم لرحمتموهم ]

فدعونا يا هؤلاء .. للخالق
فأنتم ولله الحمد .. لم تخلقونا