قيمة الجهل



إن كان للعلم قيمة، فما قيمة الجهل؟ هل هو لا شيء، أم شيء لا قيمة له، أم شيء له قيمة لكنها تساوي صفرا؟ إن الجهل هو مصطلح أوجدناه لتعريف العلم عندما تساوي قيمته صفرا، إلى هنا لا تنتهي المسألة، لأن الجهل بهذا المعنى أبداً ليس صفرا، لأن الصفر عدد لا سالب ولا موجب، بينما الجهل أشبه بنبات يتشعب إلى كل الاتجاهات السالبة والموجبة.
كمثال: هنالك جاهل لأنه لا يعلم، وهنالك جاهل يعلم لكنه يكابر ولا يصدق، وهنالك جاهل لأنه لا يريد أن يعلم، وهنالك جاهل لأنه يخاف أن يعلم، كما أن هنالك من لا يعلم عن جهله، وهنالك من يعلم مقدار جهله، وهنالك من آثر الراحة من البداية فأهدى عقله لغيره يقوده كيفما شاء. كل هذه الأمثلة لتوضيح الجهل السالب والموجب، لا لإجابة السؤال عن قيمة الجهل، فما قيمة الجهل؟
حتى نعرف الإجابة، لنتخيل قرية نائية يُخوِف أهلها بعضهم البعض من الأفاعي، الآباء يُخوِفون أبناءهم من الأفاعي حتى يناموا، الزوج يُخوِف زوجته من الأفاعي حتى لا تخرج، وفي المجالس يتبادل الجميع قصصا مخيفة عن الأفاعي، مثل هذه الممارسات من شأنها أن تُحوِل الخوف إلى طبع، ومتى ما تحول الخوف إلى طبع سيكون النظام الاجتماعي قائما على هذا الخوف.
لنتخيل الآن أن شاباً من أهل هذه القرية هرب إلى المدينة، وهناك وجد الأفاعي في عُلب المختبرات يمسك بها الطلبة بلا مبالاة لتشريحها ودراستها، ثم وجد أطفالاً يضعون الأفاعي حول أعناقهم وهم مبتسمون من أجل التصوير، وعازفاً يعزف فترقص لعزفه الأفاعي. سيدرك هذا الشاب بعد فترة أن الأفاعي ليست مخيفة بذاتها إنما بجهل التعامل معها.
الآن أمام الشاب طريقان في حال قرر العودة إلى قريته، أولاً: أن يقوم بتعليم أهل القرية كيفية التعامل مع الأفاعي، إلا أن هذا الخيار ليس سهلاً لأن هنالك نظاما اجتماعيا قائما على هذا الجهل؛ مما يعني أنهم قد يرفضون هذا العلم حِفاظاً على نمط حياتهم. ثانياً: أن يقرر استثمار الجهل كقيمة تُحقِق له عدة منافع، منها وصفه بالعلم والشجاعة وهاتان خِصلتان من شأنهما أن تضمنا له صدر المجلس والمكانة الاجتماعية المرموقة.
إذاً.. للجهل قيمة حتماً، قيمة للجاهل نفسه الذي لا يريد أن يُعكِر نمط حياته بالعلم، قيمة يدركها العالم الذي قرر أن يحقق مصالحه بأي ثمن، قيمة للآباء حتى ينصاع لهم الأبناء، قيمة للزوج حتى تطيعه زوجته، قيمة تبني عليها القرية نظاما تعليميا متكاملا لتأصيل الخوف أكثر.
إن المكانة الاجتماعية التي نالها هذا الشاب تُؤهِله الآن أن يقوم بالإشراف على مواد التعليم، كما وتؤهله أن يزرع مخاوف جديدة تُعزِز الخوف من الأفعى، كالخوف من القرى الأخرى، الخوف من الآخر الغريب، الخوف من الأماكن الضيقة والمظلمة، الخوف من طرح الأسئلة حتى لا تقود الإجابات إلى جحور الأفاعي، سيضع له متسللين ومندسين ومتلصصين في كل مكان لمراقبة خط سير كل هذه المخاوف، إن الجهل بالنسبة له ما عاد قيمة فقط إنما أعلى القيم التي يجب الحفاظ عليها بأي ثمن.
في الأخير، سيجد أهل القرية أنفسهم في متاهة من المخاوف تُسيِّر حياتهم دون أن يعلموا أنهم في جهل، سيخافون حتى من المعرفة؛ لأن العالِم قد كفاهم شر المؤونة وليس عليهم إلا أن يسيروا خلفه، لكن إلى أين إن لم تكن الغاية هي الخروج من متاهة المخاوف التي بنيت حفاظاً على قيمة الجهل؟
ثم تتضح قيمة الجهل أكثر حين ندرك بأنه لو علِم أهل القرية كيفية التعامل مع الأفاعي فإن هذا العلم سيكشف لهم حقائق تاريخية وإجتماعية يشعرون أنهم في غنى عن الكشف عنها، ستتعرى الكثير من قيمهم كقيمة نظامهم الاجتماعي ونمطهم الحياتي وعاداتهم وتقاليدهم بالإضافة إلى قيمة الماضي التي ستتساوى حينها مع قيمتهم حاضراً!، ولا يوجد مجتمع سيتقبل تساقط كل هذه القيم ببساطة، لذلك ستنشأ الصراعات وتتحرك العصابات حتى تسيل الدماء في كل مكان.
بعضهم سيلعن المعرفة التي أوصلتهم إلى ما هم فيه من اقتتال، بعضهم الآخر سيلعن الجهل الذي أوصلهم إلى هذا الحال، ثم سيتقدم طرف ثالث فيخلط المعرفة بالجهل ليُرضي الطرفين ولن يرضى الطرفان بهذا الخلط الغبي. سيُخوِنون من يدعوهم لمزيد من العلم، ويُخوِنون من يدعوهم للعودة إلى الجهل. ستخرج فئة لتستورد الحلول من الماضي، وفئة أخرى لتستورد الحلول من الخارج، ليبدأ صراع جديد داخل الصراع الأول. سيصرخ بعضهم أخيراً: لا حل إلا بقتل الأفاعي!
وهكذا.. إن كانت للعلم قيمة فإن للجهل ألف قيمة وقيمة، إلا أن المدينة المتحضرة قد راهنت على قيمة العلم، بينما راهنت القرية البدائية النائية على الألف ألف قيمة للجهل، والذي يراهن على الألف قيمة للجهل كالذي يراهن على صمود أطنان القش أمام عود ثقاب.

حكاية غذامية


ما الغاية من الوقوف أمام المرآة؟ الجواب ليس ببساطة السؤال، فالغايات جدلية فلسفية متعددة، لكن لنقتصر إلى المتعارف عليه. أولا: بالنسبة للإنسان الفرد فالغالب أنه لا يقف أمام المرآة ليتأمل جماله الآخاذ إنما ليبحث عن عيوبه حتى يعالجها، فيُحسِّن هندامه أو يحف شاربيه، أو تضع -هي- أحمر شفاه، كلها عمليات تجمل فطرية ليبدو الإنسان مقبولاً في نظر الآخرين. ثانياً: بالنسبة للجماعة الإنسانية "دينية، ثقافية، سياسية" ففي الغالب تختار الوقوف أمام المرآة التي لا تعكس عيوبها، والتي يصنعها صُنّاع أجراء يصنعون ما يعكس الأوهام لا الحقيقة، في الغالب أن الجماعة تتجمل بمحاربة كل من يصنع مرايا تعكس الحقيقة بلا زيادة أو نقصان، وهي حين تفعل ذلك تكون قد شجعت على وجود صناع مرايا ناقمين يصنعون مرايا لا تعكس إلا العيوب.
وإن كانت مرآة الإنسان الفرد من زجاج فإن مرآة الجماعة الإنسانية هي النقد ولا شيء آخر سوى النقد، وكل شيء عدا النقد فهو مدح أو قدح أو صمت، النقد وحده هو المِرآة التي تعكس الحقيقة بلا زيادة أو نقصان. بالنسبة للنقد في مجتمعنا السعودي هو أشبه بمِرآة عليها غشاوة، مشروع دخله الكثير من المادحين والناقمين والمعتكفين في صومعة الصمت الذين إن تحدثوا فحديثهم انفعال، تبقى هنالك قِلة من النقاد الحقيقيين، ومن أبرز هؤلاء القلة هو الدكتور "الغذامي". ناقد صريح صادق عميق الطرح واسع الإلمام، والأهم من كل هذا وذاك تواجده على الأرض وتفاعله مع الواقع.
لقد بدأت في قراءة الحكاية الغذامية منذ فترة وما زلت وأظنني سأستمر. المعيار الوحيد الذي جعلني أهيم بقراءة هذه الحكاية -وهو ليس معيارا علميا بالمناسبة- أنه سرقني من عالم "طلال مداح" ليدخلني في عالمه، أسلوبه في الإلقاء عفوي بسيط يوصل المعنى العميق بكل وضوح ومباشرة وصراحة بلا تجميل أو تقبيح، وهو ما جعلني أميل إلى أن خصومه في الحقيقة خصوم أنفسهم من حيث لا يشعرون! لكن -للأسف- كل هذه العفوية والبساطة في الإلقاء، كل هذه المعاني الواضحة والمباشرة خاصة فقط بالوجه المسموع من حكايته "محاضرات، ندوات، لقاءات"، لأن الوجه المقروء من الحكاية "كتب، مقالات" شيء مختلف تماماً، غير مفهوم أبداً، فالمعاني في الجانب المقروء مُلغزة والمفردات غرائبية والمقصود لا يصل إلا بطلوع الروح، هنا أعود ركضا إلى عالم "طلال مداح".
هذا التباين بين وجهي حكاية النقد الغذامية شيء مربك حقاً، هذا التباين هو ما دفعني إلى قراءة الحكاية الغذامية في الأساس، كنت أتخيل أن لها وجهين فتأكدت أن لها وجهين فعلاً، تأكدت أيضاً أن الوجه المسموع حيث البساطة والوضوح والمعاني المباشرة بمثابة العناوين ورؤوس الأقلام، بينما كل الموضوع مبهم وفيه من افتعال الغموض ما يعرقل الإدراك، وهذا يعني أن من سيحاول غدا دراسة المشروع النقدي للغذامي سيواجه ذات الارتباك، مع الأخذ في الاعتبار أن مشروعه النقدي ليس ثانويا بل من المشاريع الرئيسة في ثقافة النقد السعودية.
نأتي إلى "النسق"، هذا المصطلح الذي يتكرر ويتكرر في كل الحكاية الغذامية، حتى ليظن المتابع لكثرة هذا التكرار أنه سيصل إلى مفهوم واضح محدد عن مصطلح "نسق" فإذا جاءه لم يجده شيئا، سيجده مصطلحا عاما مبهما يصف كل شيء، وما يصف كل شيء فهو لا يصف أي شيء! إن "نسق" هو المصطلح المحوري الذي تُبنى عليه كل الحكاية، رغم هذا لا يزال مصطلحا غير واضح المعالم، فقد وصف في موضع أن "الأنساق" هي الفيروسات والأمراض الراسخة في الثقافة، فحمدت الله أنني أخيراً فهمت المقصود من "نسق" حتى جاء في موضع آخر وقال عن نفسه: أنا نسق! فقلت: إذًا، سأربأ بالنسق أن يكون فيروسا!
أما عن المرأة في الحكاية الغذامية، فقد فاق اهتمامه بها اهتمامها بنفسها، ذهب في الحديث عنها إلى أبعد مما ذهبت هي إليه، حديثه عنها حديث ممنهج منظم عميق. لاحق الخلل الذكوري إلى فترات تاريخية بعيدة، ثم وضع الوصفة العلاجية المناسبة للخروج بالمرأة من عنق الثقافة الذكورية، لم يغفل أي جانب من شأنه إضفاء قيمة للمرأة، فلقبها لا بد أن تُؤنثه، ولا بد لها أن تتفرد بأدبها الأنثوي، وأن تستحدث لها فقها نسويا.
واضح من خلال وصفه لمفهوم "المرأة عورة" في كتابه "الجهنية" أن المرأة عنده ليست عورة، اسمها ليس عورة، صوتها ليس عورة، لكن ماذا عن وجهها؟ الملاحظ أن وجهها لا يزال عورة في الجانب المسموع من الحكاية، لأنها إن تحدثت في محاضراته ستظهر كصوت فقط، أما الصورة فتُستبدل بمزهرية -كمثال-! إن المجتمع قد تجاوز هذه المسألة منذ فترة، وراح يتعامل مع المرأة صوتا وصورة في كل المحافل، فإما أن يكون تعامل المجتمع مع وجه المرأة "نسقا"، أو أن يكون حجب وجهها في محاضراته "نسق"، طبعاً من غير الإنصاف هنا أن نقول إن "الغذامي" هو المسؤول، فالمسؤولون عن الجانب التنظيمي للمحاضرة هم المعدون لها، لكن من الإنصاف أن نسأل: إن لم يكن لخطابه ذلك التأثير داخل هذه الدائرة المحدودة -مكان المحاضرة- فما مدى تأثير خطابه في الدائرة الأكبر: "المجتمع"؟
وأخيرا.. الغاية هنا هي تقديم هدية مغلفة بالتقدير والإعجاب -لا أقل ولا أكثر-.. مرآة صغيرة إلى أستاذ صناعة المرايا.

دعوة إلى "اللا إنتماء"



الانتماء يمثل الحضن الدافئ المريح الذي يلجأ إليه الإنسان لإشباع حاجاته النفسية. إن الإنسان كائن اجتماعي بطبيعته فيلجأ للجماعة لا حباً فيها، وإنما كرهاً في الوحدة. يلجأ لها هرباً من الضعف والشعور بالتهميش واللافاعلية، إن الانتماء قالب جاهز مريح يوفر عِدة مزايا للمنتمي إلا أن له عيوبا لا يمكن غض الطرف عنها، أهمها ربط أفكار الفرد بأفكار الجماعة والتقيد بمبادئها وإن خالفت مبادئه وأفكاره.
لقد تغلغلت فكرة الانتماء إلى اللاوعي فينا حتى جعلتنا نؤمن بأننا إن أردنا الانتقال من حالة اللافاعلية إلى الفاعلية فلا سبيل إلا بالبحث عن انتماء، وهي فكرة يعتريها الكثير من الخلل، إنها صحيحة في كون الفاعلية متحققة لكنها فاعلية الجماعة لا الفرد، إنه وإن تميز فسيتميز كنموذج مصغر عن الجماعة يحمل أفكارها وينشر مبادئها التي قد لا تكون بالضرورة أفكاره هو ومبادئه، إنها ضريبة الانتماء!.
الانتماء ضرورة إنسانية ولا مجال أبداً لمنع تحققه، إنه قيمة ولا شك لكن بنظرة سريعة حولنا سنكتشف أنها قد استهلكت تماماً، واستهلاكنا لقيمة الانتماء جعلنا نغفل بل ونستنكر وجود أي قيمة في "اللاانتماء" على الرغم من أن الغالبية في أي مجتمع هم "اللامنتمون"!، إنه المفهوم الأكثر انتشارا والأقل تداولاً.
واليوم، نحن في حاجة إلى البدء في استهلاك قيمة "اللاانتماء" حيث غدت الانتماءات المتعددة من حولنا مجرد أغلال، نحن في حاجة إلى الخروج من عالم الدوائر المليء بالحركة والضجيج بلا اتجاه للأمام، إلى عالم الخطوط المتقاطعة والاتجاهات المتداخلة، في حاجة إلى خلع رداء الانتماء والبدء في التعامل مع الواقع بلا رداء، ومن يفعل سيرى الواقع بعينه لا بعين الجماعة ولن يسره ما سيرى.
ولأن ضريبة "اللاانتماء" تكمن في مواجهة الفرد لوحدته وشعوره بالضعف واللافاعلية، فإن من شأن هذا أن يُولِد فيه الكثير من التوترات والكآبة، لكنها عيوبه هو وعليه مواجهتها والتعايش معها لا الهرب منها إلى حضن الانتماء الدافئ كطفل يرتمي إلى حضن أمه ويغمض عينيه حتى لا يرى، هذا الحضن لن يبدد المخاوف إنما فقط سيمنع من رؤيتها، وبهذا سنجد أن اللاانتماء مرحلة تأتي بعد الانتماء، وعاجلاً أم آجلاً على الطفل أن يبتعد عن هذا الحضن الدافئ إلى توترات الواقع أو لن يبلغ الرشد أبداً.
طبعاً، هذا الحديث لا يشمل كل "لاإنتماء" إنما خاص فقط باللاانتماء هرباً من مآلات الانتماء، اللاانتماء بحثاً عن التحرر ورغبة في رؤية الواقع كما هو بعيداً عن غشاوة الانتماء، هذه الغشاوة التي تجعل الناظر للواقع لا يرى إلا أشكالاً هندسية محددة "دوائر ومربعات" بينما الواقع متاهة من الخطوط المتقاطعة التي تُلغي كل تصورنا عن الاتجاهات التقليدية، في الواقع لا وجود لدخول وخروج والتفاف يمينا وشمالا، إنما خطوط مبعثرة متراكمة تُكوِّن بمجملها لوحة واحدة.
إن اللاانتماء بهذا المفهوم سيُمكِننا من التعامل مع مختلف الأفكار والمعتقدات دون الدخول فيها أو الخروج عنها فهي ما عادت قوالب جاهزة لها مداخل ومخارج محددة إنما خطوط متداخلة متقاطعة تسمح بالمرور فوقها أو عبرها، اللاانتماء بهذا المفهوم يعني اللاانتماء إلى شيء محدد إنما الانتماء لكل شيء، أو بمعنى آخر اللاانتماء إلى الجزئيات إنما الانتماء للمكون الرئيس، إن اللاانتماء بهذا المفهوم سيُلغي أيضاً فكرة "مع أو ضد" فلا حاجة لهذه الفكرة والخطوط كلها متداخلة، هذا إن كان هنالك "ضد"!
لم نخرج يوماً عن عالم المرايا، منذ البدء كانت كل المفاهيم والمعتقدات مجرد انعكاسات لبعضها بعضا، لكننا بالانتماءات لم نر الأصالة متحققة إلا في الانعكاس محور انتمائنا بينما أي انعكاس آخر مجرد زيف يزاحم انعكاسنا على الأصالة! ولا زيف إلا في ادعاء الأصالة.
ختاماً: لماذا الحديث عن "اللاانتماء"؟، لماذا الدعوة إلى "اللاانتماء"؟، لسبب رئيس؛ وهو أن اللاانتماء اليوم يحاكي طبيعة هذا الوقت، ها هي المعلومة تملأ الأثير لتهبط على الفرد من كل اتجاه، وبدوره يصدرها عبر الأثير إلى كل اتجاه بكل تلقائية، هذا الفرد أصبح يتعامل مع الأصوات الصاخبة ذات الإيقاعات المتداخلة بكل بساطة حتى أصبحت سيمفونية اللحن الواحد بالنسبة له نشازا، الواقع أمامه سواء الافتراضي أم الحياتي أصبح مزدحم الألوان والتعابير، ولم يعد يراه مجرد أبيض وأسود، كل هذه الدلالات ألغت المركزية عن حياته، لهذا أراه - وهذا مجرد رأي - أقدر على استيعاب اللاانتماء والتعامل معه بشكل أفضل من أي وقت مضى.
إن أصحاب العقول التقليدية يرون الانتماءات أجمل وأضمن للسلامة؛ لأنهم لا يعيشون اليوم، إنما يعيشون مرحلة سابقة من صفاتها الهدوء ووضوح المعالم، لهذا يرون الواقع فوضويا واللاانتماء تخبطا وضياعا، بينما اللامنتمون يتعاملون مع هذه الفوضوية على أنها نمط حياة، بل إن الفوضى بالنسبة لهم كلها إيجابية رغم كل شيء هذا لا يعني أن اللاانتماء أفضل وأن عقلية اللامنتمي أرقى، فلا أفضلية ولا رقي طالما الزمن يتغير، ينزع بريق الأمس ليهديه لليوم، وغداً يأتي يومٌ أخر سنفقد فيه بريق اليوم.

ماذا لو مات الشيطان؟

سائل يسأل: ماذا لو مات الشيطان؟ فقلت: الشيطان لا يزال على رأس العمل بدلالة "لو" في سؤالك، فأعرض عن هذا. فقال: فما تقول في قول الصديِق "لو أن أحدهم رفع رأسه لرآنا"؟ قلت: لنتجاوز "لو" فهي ليست محور الحديث، ثم أعد السؤال بصيغةً أخرى إني لك من الناصحين، فسأل السائل: ما الذي سيتغير إن مات الشيطان؟
قلت: بادئ ذي بدء، وحتى يأخذ سؤالك حقه من الشرح والتوضيح لا بد أن نستحضر قول الشيخ الشعراوي في أن: "الشيطان يذهب إلى المسجد ولا يذهب إلى الخمّارة، لأن من في الخمّارة شيطانه منه وفيه"، ثم لنُسقط هذا القول على المجتمعات الإنسانية، سيتضح لنا حينها أن الشيطان موجود طيلة يومه في بلاد المؤمنين، معرضا عن بلاد الكفار بما أن شيطانهم منهم وفيهم، ولعدم وجوده هناك جعلهم يقتنعون بأن أنفسهم الأمارة بالسوء هي مصدر كل خطأ، وبالتالي إن أخطأ أحدهم فسيعاقب بالقانون، أما في بلاد المؤمنين فالمخطئ غالبا لا يحاسب لأن المصدر هنا هو شيطان أحمر رجيم مرابط في بلاد المؤمنين بدوام كامل، حينها إن ضاعت بعض الحقوق العامة أو الخاصة فسيقال: عذرا، لم نستطع إحضار الشيطان الرجيم إلى قاعة المحكمة.
لقد انشغل الكفار في بلادهم بمطاردة الفساد في كل دائرة ومؤسسة، بينما انشغل المؤمنون بمطاردة الشيطان من زقاق لزقاق لأنه سبب كل إخفاقاتهم، وهذه المطاردة طويلة الأمد أسفرت عن وجود مطاردين محترفين وهواة وعدائين خبراء، وهكذا أصبحت البضاعة الرائجة في بلاد المؤمنين قائمة على وساوس الشيطان ومكائده، فتخيل حال هذا المجتمع بلا شيطان؟
"ماذا سيتغير إن مات الشيطان؟" أول المتغيرات هي زيادة ملاحظة في أعداد البطالة، وذلك لوجود الكثير من الوظائف المعنية والمختصة بتفويت كل الفرص على الشيطان، والنخب المؤمنة جعلت من التصدي للشيطان عملية ضخمة، رغم كل هذا طلع الشيطان فعلاً "شاطر" كما يقولون، فها هو رغم كل هذا الجهد لا يزال يوسوس في المواطن ولا يزال يغويه على أكمل وجه.. طبعا هنا إن سألت: لماذا إذًا كل هذا المجهود واستنزاف الميزانية فيما لا طائل منه؟ فثق أنه لن يطلع عليك نهار إلا وأنت زنديق زندقة واضحة لا تشوبها شائبة.
ثاني المتغيرات التي ستلاحظ، أنه لن يتغير شيء في طبائع الناس، سيستمرون في الكذب والخداع والنصب والتلاعب بمشاعر بعضهم بعضا، لن تزيد أعداد المصلين، لن يتحول الجميع إلى أولياء لله صالحين، سيبقى كل شيء على ما هو عليه، وهذا من شأنه أن يجعلهم يُدركون أن شيطانهم منذ البدء كان منهم وفيهم، سيدركون أن هنالك من صور لهم أن شيطاناً لعينا كان وراء كل هذا الفساد، وأن من صور لهم هذا أراد أن يفلت من العقاب لا أكثر، "ماذا سيتغير إن مات الشيطان؟" ستنقشع الغشاوة عن أعين المؤمنين.
سيدركون أن الشيطان كان مصدر دخل بالنسبة للكثيرين، وأن وجوده كان يشعر الكثير من الموظفين بالأمان الوظيفي، سيدركون أيضا أنهم أضاعوا أموالاً كثيرة على الزيت والمسك والزعفران، وأضاعوا ما هو أغلى من المال أثناء تلقيهم للنفث والصفع، سيدركون أن "ص ط ق ب 9 م ي 4" مجرد خزعبلات لا معنى لها، إلا أن أناساً أقنعوهم أنه لا قدرة لدفع الأذى إلا عن طريق نفث النافثين وصفعهم وشراء منتجاتهم من زيت ومسك وزعفران بأغلى الأثمان.. إن محاربة الشيطان تجارة رابحة!
ثم عاد السائل محدثا عن شيخ جليل كان يرقي الناس في الطرقات، ويزورهم في بيوتهم للتحصين ضد مكر الشيطان وخبائثه، وأنه -جزاه الله خيرا- لم يكن يشترط مبلغا نظير خدماته إلا إن كان المقابل مجرد هدية لها وزنها وقيمتها في السوق! إن أهل القرية كانوا يعملون في التجارة والزراعة والنجارة ورعي الأغنام، وبهذه الأعمال قد كونوا لهم مجتمعا بسيطا الكل فيه يؤدي خدمة، إلا شخصا كان يكره العمل الشاق فراح يمتهن بيع الوهم مقابل أغلى ثمن.
وفي يوم راح هذا الشخص يتضرع إلى الله بأن يهلك الشيطان الرجيم ويريح العباد منه، فزاره الشيطان وهو يدعو وقال له: مهلا، إنك لا تُدرك عواقب هذا الدعاء، إن استجاب الله لك وأهلكني فعلا فلن تجد ما تصنعه وأنت لا صنعة لك إلا مطاردتي، أنـا إن مت فستزول عنك كل المزايا، حينها ستضطر إلى أن تجد لك عملاً مفيدا، فقال: اطمئن يا لعين، بموتك لن يتغير شيء، فقد دخلت في كل التفاصيل حتى أصبحت ضرورة في حياتنا أكثر من كونك حقيقة.