تعريب تهمة اللاسامية


"اللاساميَّة" ليست مجرد تهمة والسلام، إنها استراتيجية تهدف إلى إحداث تغيير في ثقافة الآخر، تهدف إلى جعله يقتنع داخليا بأن السكوت عن أخطاء اليهود هو الحل الأصوب، استراتيجية تهدف إلى جعل الآخر يستقبح فكرة النقد، يرى أن توجيه أي لوم أو إساءة في حق اليهود مسألة من شأنها أن تًسقِط عنه رداء التحضر.

"اللاسامية" ليست مجرد فوضى كلامية إنما مشروع صهيوني سياسي يتستر باليهودية لتحقيق أطماعه ومصالحه، وقد نجحت الصهيونية تماما في هذا الأمر، فاليوم لا تجد سياسي أو باحث أو مثقف غربي مهما تحلى بالمصداقية والحيادية إلا ويتخوف من إبداء رأيه تجاه إسرائيل أو الشعب اليهودي، لأن الصهيونية نجحت إلى الحد الذي جعل من نقد اليهود -بعبع أخلاقي- يلاحق الناقد في كل مكان إلى أن يتركه بلا قيمة.

إن "اللاسامية" قائمة على فكرة المظلومية، والمظلومية هي حيلة يلجأ إليها اليهود كلما شعروا بأنه قد تم حشرهم في الزاوية، يتصنعون الضعف والاضطهاد وأنهم أقلية من حقهم السعي إلى ضمان حقوقهم، وأن على الأكثرية القيام بصيانة وجودهم، وإن كل هذه مجرد ادعاءات الهدف منها زرع الشعور بالذنب في الآخر الشعور فيحجم حينها -مكرها أو بإرادته- عن الإساءة لليهود وإن أساؤوا إليه.
وليس في الأمر ضعف من الآخر بقدر ما هو تشويه متعمد في قناعاته، تشويهاً جعل من ينتقد يتوهم أنه بالنقد يؤيد الإبادات التي تعرض لها اليهود.

إن العرب أيضا ساميون، لكن لا بأس بمعاداتهم والاستهزاء بهم كيفما كان، فلا أحد سيتهم من يسيء لهم باللاسامية، لا بأس بمعاداة كل الأعراق البشرية، بنقد أفكار ومعتقدات كل البشر، كل هذا يمكن تجاوزه بالقليل من السياسة والكياسة، لكن نقد اليهود هو الذنب الذي لا يغتفر.
المسألة إذا ليست ازدواجية في المعايير كما يتوهم العاطفيون، بل هي قمة الإنصاف، فإن العالم اليوم مريض بداء الإنصاف، لكنه لا ينصف إلا من يملك "المال والإعلام" تحديدا.
إذاً المسألة ليست في كون اليهود هم الساميون وحدهم إنما في أنهم الساميون ذوي النفوذ في عالم المال والإعلام، وبالمال والإعلام، بالتكرار المتواصل لحد الضجيج، بالاحتيال عن طريق التمسكن، بالقدرة على إعادة تدوير أحقاد الأمس، نجحوا في تكسير الأقلام ولي الألسنة وتجفيف حبر النقد في عروق حتى من ينشد المصداقية، نجحوا في تمرير تهمة "اللاسامية" كضامن لحقوق الأقلية ظاهريا بينما الحقيقة أن الأقلية هنا قد نجحت في أن تهب لنفسها حق ممارسة الديكتاتورية.

وبما أن الحديث قد عرج إلى الأقليات تجدر الإشارة هنا أن ليس كل الدول تعترف بحقوق الأقليات، كما أنه ليس كل الأقليات لديها مظلومية تاريخية تبلور عن طريقها مصطلحاتها التي تلوح بها في وجه الأكثرية.
إيران كمثال لا تعترف بحقوق أكبر أقلية في البلاد وهي الأقلية السنية، رغم هذا لا نجد لدى الأقلية السنية استراتيجية تمكنها من التأثير في الأكثرية، بينما نجد الدول العربية ورغم اعترافها بحقوق الأقلية الشيعية إلا أن الشيعة قد بلوروا لأنفسهم استراتيجية يؤثرون بها في الأكثرية.
السر هنا أنه قد تم تعريب "اللاسامية" إلى "الطائفية"، وقد تم العمل بهذا المصطلح المعرب ولا يزال العمل جاريا على قدم وساق، فنجد اليوم أنه من المستغرب جدا أن يتم اتهام من ينتقد السنة أو الإباضية أو الصوفية بأنه طائفي رغم أنهم جميعا طوائف إسلامية، بينما من ينتقد الشيعة سيتهم فورا بالطائفية!
فهل تم تعريب ازدواجية المعايير أيضا؟، أميل لكون المسألة إنصافا لمن يملك، لا من يملك المال والإعلام في الحالة المعربة إنما يملك القدرة على تصنع الضعف وادعاء الاضطهاد، من يملك القدرة على إعادة تدوير المظلومية كلما دعت الحاجة.
ومن باب التوضيح ولأن في التعميم سفه وتجني لا بد من القول بأن الشيعة لا علاقة لهم أبدا بهذه الاستراتيجية إنما هي استراتيجية صفوية، والتشيع الصفوي كما قال عنه "علي شريعتي" هو تشيع أسود قاتم قائم على الحقد والضغينة، أخذ يكبر تحت عناية ورعاية الأجهزة التابعة لقصر (الشاه الصفوي) إلى أن نجح بالتستر جيدا تحت رداء الأئمة الأطهار.
لقد نجح التشيع الصفوي في رفع أئمة الشيعة لمنزلة عالية جدا لا من باب التعظيم إنما لإضعاف صلتهم بالأرض، وكان لا بد للصفوي أن يلجأ إلى هذه الحيلة، أن يجعل الأئمة يحلقون في علياء حتى لا يعود لهم تأثير فعلي على الأرض يُربِك مخططاتهم أو قد يقضي عليها تماماً.
وإنه حين نجح التشيع الصفوي في هذا الفصل بات من السهل عليه أن يقوم بتأمين نفسه أكثر بمنع كل نقد يأتي من الداخل وإلجام كل نقد يأتي من الخارج بـ"الطائفية."

عموما، إن عملية "درء الطائفية" اليوم تسير وهي عرجاء، والدرء الأعرج للطائفية يزيدها استعار، إنه درء أعرج لأن نقد وتعرية الفكر الذي يغذي التطرف من الداخل الشيعي شبه غائب، وإن كل الحلول السياسة والاقتصادية والاجتماعية لن تفيد ما لم يتقدم كل طرف بنقد وتعرية التطرف العالق فيه -نقد جريء واضح وصريح- هذا هو الضامن وما عداه يأتي لاحقا، لا بد وحتى يتحقق التعايش على أرض الواقع أن يتم إخراج حطب الطائفية الصفوي والمخبأ جيدا تحت عباءة الأئمة الأطهار أسوة بالغربلة التي لم تستثني حتى أساسات المذهب السني.

الإستعباط الفكري


لا بأس أن تقول بأن الأرض مجوفة وإن أشباه بشر يعيشون في تجويفاتها.
لا بأس أن تقول بأن الأرض مسطحة كقرص "التميس".
لا بأس أن تقول بأن الأرض ثابتة لا تدور وإنها إن كانت فعلاً تدور فلا بد وأن نشعر بالغثيان.
لا بأس أن تقول بأن النجوم هي أعين الأموات الذين يراقبون أحباءهم على الأرض.
لا بأس أن تقول بأن الشيطان من الكائنات التي تبيض.
لا بأس أن تقول كل هذا الهراء لكن لا تختم الهراء الذي تقوله بالتكبير والتسبيح.

من حقك أن تنتحر عقليا، لكن ليس من حقك أن تنحر العلم باسم الشرع.
الله أعلم بأن رأيك بشري معيب مُعتل ناقص على الدوام، هذه ميزة فيك وليست خللا، يأتي الخلل حين تعتقد بأن رأيك يجب ألا يكون معتلا بأي حال، حينها لا مجال أمامك إلا أن تتحدث بالنيابة عن الله، حينها ستعتقد أن رأيك وحيٌ من السماء!.

**

إن العقول في مواسم القحط الفكري تهاجر كما تهاجر الطيور، وإن عقولنا اليوم قد هاجر بعضها إلى الغرب وبعضها الآخر هاجر إلى الأمس، وبكيفية ما حدث أننا أصبحنا نحتقر ما توصل إليه الغرب مستدلين بما توصل إليه السلف، فلم نتعلم من الغرب شيئا ولم نقتد بالسلف في شيء.

أفكارنا اليوم باتت هجين مشوه منسلخ عن الأمس ويحاول الانسلاخ عن اليوم.
وإن هذا الهجين الفكري المشوه هو نتيجة منطقية لعمليات تسفيه العقل الممنهجة التي جعلتنا ننتهي إلى شتم المخالف بأنه متفلسف عقلاني متمنطق، نعيِّبه بكل ما يُميِّز الإنسان!.
إنه كذلك نتيجة لافتتاننا بمنظر ذلك العالم الذي يجلس في المنتصف وتحيط به حلقات من طلبة العلم الذين يسمعون بخشوع تام لكل كلمة تخرج منه وكأنها الوحي، دون نقاش أو جدال.
نتيجة كذلك لأننا غير منتجين إنما منتظرون للغلال أن تأتي بنفسها، مما سبب لنا بلادة فكرية.

في الأخير، انتهينا إلى الاعتقاد بأنه يحق لمن شاء أن يبحلق في السقف ليخرج بنظريات من كيسه، كالقول بأن الأرض ثابتة بدلالة أن الطائرة تذهب إلى الصين ولو أنها تدور فعلا لجاءت الصين تحت الطائرة.

تستمر البحلقة في السقف لتتوالى النظريات سقوطا فتخرج باهتة لا هدف منها إلا تكذيب كل شيء "لم يصل أحدهم إلى القمر .. لم يتم تصوير الفضاء .. "فيليكس" لم يقفز في الحقيقة .. الأرض لا تزال مركز الكون"
نعم، يحق لمن شاء أن يقول أي شيء شرط أن يكون قوله مدعوما بمنهج علمي يتفق عليه الباحثون في العالم، فإن لم يكن المنهج العلمي مقدورا عليه فالالتزام بالمنطق أضعف الإيمان، وإلا فكل الأقاويل حينها ستكون بلا وزن، مجرد دردشات يستمتع بها الإنسان كما يستمتع بقراءة الصحف الصفراء أو قصص "سوبرمان" أو الذهاب إلى السيرك أو قراءة الكف والفنجان.

إن أحد أهم مسببات هذا "الاستعباط الفكري" هو النظام التعليمي لدينا، هذا النظام الذي يتناسب مع أساليب تكميم العقول، إنه نظام تعليمي تم إعداده لتخريج موظفين لا باحثين، وطالما هذه هي الغاية النهائية فلا معنى لكل هذا الحشر، لأن المعلومة ستُلقى في نفس المكان الذي تُلقى فيه الكتب فور انتهاء الفصل الدراسي.

إن الجاهل ليس من لا يقرأ ولا يكتب، إنما هو من تعلم جيدا ألا يقرأ ولا يكتب إلا وفق المقرر، تعلم أنه من الخطأ أن يُبدي رأياً أو يطرح مفهوماً مخالفاً للمنهج المقرر عليه.
نظام تعليمي في إحدى مقرراته الدراسية –فقرة- تشرح نظرية التطور أنها نظرية تقول إن الإنسان بدأ بجرثومة صغيرة ظهرت على سطح الماء، ثم تحولت إلى حيوان صغير، ثم تدرج إلى ضفدع، فسمكة، ترقت مع الوقت إلى قرد، ثم ترقى هذا القرد وتمدن فصار إنسان.
بناء عليه قم عزيزي الطالب بتلخيص عيوب نظرية التطور في سطرين!
وطبعا سيقوم الطالب بتلخيص عيوب النظرية في سطرين لأنه في الأساس مجرد ناقل هنا لمعلومة حفظها من الكتاب كي يحشرها في موضع آخر من الكتاب في حال طُلِب منه.

كذلك من مسببات هذا الاستعباط الفكري هو نظام العنعنة -عن وعن- حتى أصبحنا نُعنعِن أكثر مما نتكلم، إن الخطأ هنا ليس في من يُنقل عنهم، إنما في أننا لا نعرف أنفسنا إلا أننا ناقلون عنهم، إننا نُخبئ تخلفنا خلف آرائهم، ولا فرق هنا بين من يُعنعِن شرقا أو يُعنعِن غربا، لا فرق بين من يستشهد بـ"ابن تيمية" ومن يستشهد بـ"ديكارت" فكل هذه العنعنة لا هدف منها إلا إخفاء تهافت آرائنا قدر المستطاع.

لقد بحث عقلاء اليابان عن سبب تعرضهم للهزيمة في الحرب العالمية الثانية، فاستخلصوا إلى أن القنبلة النووية لم تكن سبب الهزيمة، إنما السبب الذي عرضهم للهزيمة مبكرا أنهم قاموا بتنحية "المعامل والمختبرات" جانبا، واليوم علينا الاعتراف بأن سبب هذه الموجة من الاستعباط الفكري أننا قمنا بتنحية المعامل والمختبرات والبحوث العلمية، واكتفينا بمضغ المعلومات السريعة التي تخرج من معامل الغرب ومختبراتهم، وخلطنا معها مآثِر السلف على عجالة، ثم أخذنا نبصق باللاءات في كل اتجاه.

فقهاء السبت


إن مشكلة المتشدد دينيا والمائع دينيا ليست في مخالفتهم للشرع إنما في شرعنة مخالفتهم للشرع!
مشكلتهم أنهم بارعون في إيجاد المخارج الشرعية التي تبيح لهم ارتكاب ما نهى الله عنه.
تراهم يلتزمون بتعاليم الدين جداً ولا يخالفون الشرع أبداً حتى وهم يخالفونه صراحة!
تراهم إن لم يجدوا في تعاليم الدين ما يجيز لهم أفعالهم المخالفة للشرع يبتدعون تعاليم شرعية يحتالون بها على الله.

من يقرأ قصة أصحاب السبت لن يجدها تتحدث عن المكر والخداع والحيلة، إنما عن أعلى مراتب المكر والخداع والحيلة، عن تلك المرتبة التي لا يجد فيها المرء بأسا أن يعصي الله، تلك المرتبة التي يريد فيها المرء أن يعصي الله لكنه يخاف أن يعصيه بلا عذر شرعي فيوجد لنفسه العذر الشرعي المناسب حتى يعصي الله وهو مطمئن.
فإن لم يستطع استخراج العذر الشرعي بنفسه سيجد حوله ألف عارف ملم بتعاليم الدين، قادر على استخراج المبررات الشرعية المطلوبة لنزع حالة التردد عن نفسه قبل وبعد وأثناء مخالفته للشرع.

قد أمر الله اليهود ألا يعملوا في يوم السبت، أن يتفرغوا للعبادة والراحة في يوم السبت، إلا أن البحر كان يغري بالصيد لتوفر الأسماك في هذا اليوم دون باقي أيام الأسبوع، واليهود قوم يحبون المال حبا جما، فما الحل؟!
الحل الذي أفتى به فقهاؤهم أن يقوموا بإلقاء شباكهم من يوم الجمعة ثم يسحبونها صبيحة يوم الأحد، وهكذا لن يفوتهم لا الصيد ولا العبادة في يوم السبت، هكذا سيتسنى لهم المعصية في الخفاء والطاعة علنا.
وهكذا تم الأمر وأصدرت الفتوى التي وافقت هوى الصيادين وحافظت على دوران العجلة الاقتصادية في هذه القرية.
وكأني بهم حول علمائهم يلتفون في حلقات، يلتمسون منهم المخرج الشرعي الذي يجيز لهم الصيد المنهي عنه بشكل صريح، وكأني بعلمائهم يعقدون المشاورات والمباحثات ثم يصدرون رأيهم الذي أزال عن نفوس السائلين كل بأس، وهكذا تفرغ الناس للعبادة بينما شباكهم تجمع الصيد في البحر {يخادعون الله وهو خادعهم}

{وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون}
ها هم أهل القرية ينقسمون بعد هذا الرأي الشرعي المبني على حيلة، فقسم راح يصطاد مطمئنا إلى آراء الفقهاء، وقسم تنبه إلى خطأ التحايل على الدين بمخرج شرعي فأخذوا يعظون وينصحون وينهون عن المنكر علانية، وقسم ارتأى أن يلتزم الصمت ويكتم إنكاره.
ثم ازداد الانقسام، حيث بدأ الذين كتموا إنكارهم يعترضون على من كانوا ينكرون علانية، ومن ذهب للصيد مطمئنا أخذ يردد بأن الدين يسر والأمر سعة، وهكذا نجد أن فقه التحايل يمنع المجتمع عن التقدم عبر إدخاله في دوامة من الانقسامات والجدالات والصراعات الفكرية التي تعرقل الجميع على المدى القريب وتشلهم على كل الأصعدة.

إن فقهاء السبت منهم من يقوم بتلوين الشرع لكي لا يغضب السياسيين والإقتصاديين، منهم من يقوم بتلوين الشرع لكي لا يغضب بقية المحتالين، منهم من يختلق مسميات شرعية للعلاقات المحرمة ومنهم من يُخفِف العلاقات المحرمة بمسمى علاقات عاطفية. منهم من يصف جوع الناس وفقرهم بأنه زهد، ومنهم من يصف تكديس المترفين للأموال بأنه فضل من الله.

لقد قالها النبي –عليه الصلاة والسلام- (لتتبعن سنن من كان قبلكم)
إن أصحاب السبت قد احتالوا لأسباب اقتصادية، وحيلة فقهاء السبت اليوم غالبها الحفاظ على عجلة دوران الاقتصاد بحسـب ما يخـدم مصالح التجار والمتنفعين.
وإنـه إن كانـت حيلة أصحاب السبت في يوم السبت، فإن كل أيام المسلمين اليوم غدت سبت.

ختاما.. إن الحديث هنا ليس عن المخارج الشرعية، إنما عن مخالفة ضوابط المخارج الشرعية، عن استغلال بعض الفقهاء للفقه بغرض تطويعه حتى يتوافق مع الواقع، لا تطويع الواقع بما يتوافق مع الشريعة.
الحديث هنا عن التوسع في باب المخارج الشرعية لدرجة أجازت للبعض الخروج عن الشريعة والقانون والأخلاق، بل إن بعضهم قد خرج عن إطار الإنسانية بالكامل، ولا يزال يعتقد بأن لم يُخالِف الشرع!