صداع اللجان المزمن

المشهد الأول.. الزمان قبل 1400 عام، المكان أم القرى، الحدث، قام أبو جهل مكفهرا وقال: "والله إن لي فيه رأياً ما أراكم وقعتم عليه بعد"، قالوا: "وما هو يا أبا الحكم؟"، قال: "أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابا جليدا وسيطا، ثم نعطي كل فتى منهم سيفا صارما، ثم يعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه، فنستريح منه، فإنهم إن فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعا".. واضح من خلال حديث المأفون أبي جهل أنه كان يتحدث عن تكوين "لجنة" لقتل النبي –عليه الصلاة والسلام- فلماذا لجنة؟ الجواب: حتى إذا نجحوا فيما وكِل إليهم، لن يجد بنو عبد مناف لهم غريما يقتصون منه.
المشهد الثاني.. استراحة يتواجد فيها مجموعة متقاعدين تجاوزوا الستين، يبدأ بينهم الحوار التالي. الأول: "يقولون إن مجلة غربية معروفة، درست الوضع في السعودية وتوصلت إلى أنه خلال العشر السنوات القادمة سيكون عدد اللجان أكثر من عدد المواطنين"! الثاني: "الغرب حاقد على الإسلام، لعلمه بأن مسألة تكوين اللجان مسألة حث عليها الإسلام في قوله تعالى (وشاورهم في الأمر)، ومن هنا يتضح أن الشورى في الأمر يحتاج إلى لجان حتى يختفي مفهوم التفرد بالرأي الذي نهى عنه الشرع، فالرأي المنفرد قابل للكسر، أما تجميع الآراء في حزمة واحدة سيجعلها عصية على الكسر"، الثالث: "اللجان من الأسباب الرئيسية في تضارب الآراء تضاربا سيؤدي حتماً إلى ضياع حقوق المواطن وتعطيل مصالحه، مما سيزيد من إحساس المتظلِم بزيادة الظُلم، خصوصاً أن المتظلِم هنا لا يجِد أمامه غريماً حتى يقتص منه"! الرابع: "هل تتمتع اللِجّان بالاستقلالية؟ إن كان الجواب لا، فهذا يعني أنها تتكون من مجموعة أعضاء ينتمون لنفس القطاع منبع الخلل، بمعنى آخر أن أعضاء اللجنة -في العادة- هم أساس المشكلة التي شُكِلت من أجلها اللجنة لحل المشكلة، حينها يُمكِن القول إن الهدف من اللجنة هو تشتيت المشكلة قدر المستطاع، لا حلها"! الخامس -ويبدو أنه من أنصار نظرية التطور: "بناء على قانون الانتخاب الطبيعي فإن اللجان هي المرحلة المنطقية الطبيعية اللاحقة والتي تطورت في الأساس من كائن وحيد الخلية إلى كائن يشبِه اللافُقاريات، لكنه ليس لافقارياً بالضرورة، يشبِه الأخطبوط لكنه ليس أخطبوطا، وللتوضيح أقول إن المتفرد بالرأي كان يشعر بالراحة والسيادية جرّاء تفرده بالرأي، إلا أن تفرده بالرأي كثيرا ما جعله يتلقى اللائمة بشكل مباشر، من هنا وحتى يتجنب تلقي اللائمة مع الحِفاظ على التفرد بالرأي في نفس الوقت "نمت له لجان"!!
المشهد الأخير.. يقول وموسيقى حزينة في المكان: "لقد أجريت عملية قبل شهرين، فتكللت بالنجاح ولله الحمد، إلا أن الطبيب، وبلا سبب منطقي، ترك المقص والمشرط وقفازاته داخل جسدي ثم خيط مكان العملية، فتقدمت بشكوى إلى وزارة الصحة وعلى أثر الشكوى جاءني الرد بأن الوزارة ستضع قضيتي ضمن أولى الأولويات، وبناءً عليه تم تكوين لجنة للتحقيق في ملابسات القضية فعلاً، لكن وخلال عام كامل من مراجعاتي للوزارة لم يصلني شيء، فتقدمت بشكوى ثانية على اللجنة التي تكونت بناءً على شكواي التي تقدمت بها في حق الطبيب، وجاء الرد سريعاً بأن الوزارة ستحقق مع اللجنة المسؤولة عن التحقيق مع الطبيب، بأن تكون لجنة مختصة بالتحقيق مع اللجان المُهمِلة، وفعلاً تكونت اللجنة الثانية وجاء تقريرها: لقد تم توكيل العديد من المهام الرئيسية إلى أعضاء اللجنة الأولى مما حدا بوضع قضيتك ضمن المهام الثانوية، لهذا لم يتم البت فيها حتى الآن، وعليه فقد أوصينا بشكل حازم ومباشر بأن يتم تكوين لجنة متفرعة عن اللجنة الأولى للبت في التحقيق مع الطبيب عاجلا.. في الأخير –والحديث للمريض- تم تكوين لجنة رابعة لمراقبة عمل اللجنة الثالثة المتفرعة عن اللجنة الأولى بناءً على وصية شديدة اللهجة من اللجنة الثانية!! "فهمتوا شيء"؟
كلمة أخيرة.. لا أقصد هنا أن مسألة اللِجان مسألة يجب الاستغناء عنها، بالعكس، بل إن عملية تكوين اللجان مسألة باتت ضرورية، خصوصاً ذلك النوع من اللِجّان الذي يتمتع أعضاؤه بالخبرة والمعرفة والقدرة على تعميق وجهات النظر، مما يُسهِل كثيراً في عملية تحديد منابع المشكلة للقضاء عليها من الأساس، إنما الحديث هنا بلسان المتضرر الذي لا يهتم بالتعقيدات والتنظيمات الإدارية وآليات العمل، ولا يريد أن يعرف هل اعتراضه على اللجان منطقي أم لا، لأن كل همه أن تُحل قضيته في أسرع وقت، بعيداً عن المماطلة، ومما يبدو حتى الآن –بحسب وجهة نظر المتضرر- أن اللجان سبب في إطالة أمد الضرر الواقع عليه.. ما هي اللجان؟ ما هو عملها؟ من هم أعضاؤها؟ المتضرر لا يريد أن يعرف كل هذا، لكنه أيضاً لا يريد أن يعرف أن عدم معرفته هنا من الممكن أن يستغل كذريعة أو كهدية تُهدى للمُخطىء، حتى يبتسم في لامبالاة

خذوا الحكمة ... عن نُخبٍ ضيعت دروبها

عندما يبحث العاقِل عن حكمة عابرة في أحاديث مجنون، فهذا لا يعني بأن المجنون بات يعقِل فجأة، بل يعني أن عقل العاقل قد أُصيبَ بالإرهاق جراء محاولات فِهم الأحداث التي تأتي بها الحياة، إرهاقاُ يمنع العقل من الإستيعاب أكثر .. وبما أن -الحديث ذو جنون- فها هو مجنون الحارة الذي لم يعد له وجود اليوم، ولا أدري صراحة لماذا إختفى عن الحارة؟ لقد كان وجوده ضامناً لتوازن الحياة، فمنذ إختفائه والجميع أصبح مُطمئناً إلى كمّال عقله، إطمئناناً أقنعهم بعدم الحاجة لإعمال عقلوهم أكثر .. نعم، لقد إفتقدنا لمجنون الحارة الذي كان يضع الجميع أمام حقيقة أنهم ليسوا عقلاء إلى ذلك الحد!
عموماً .. هاهو مجنون الحارة جلس ليلتقط أنفاسه من ملاحقة الأطفال له بين الأزِقه، وبلا مقدمات أخذ يوجه حديثه إلى أول شخصاً يلتقي به: في ليلة رفافي أخذت بيد زوجتي ورحنا نمشي بين الحضور بكل خُيلاء، متجهين إلى المنصة والأضواء مُسلطة علينا من كل إتجاه، كنت سعيداً جداً حينها وأنا تحت دائرة الضؤ، غمرتني أحاسيس لا توصف وأنا أرى الأعين كلها متجهة إلي، لكنني اليوم وعندما أتفكر في تلك الليلة أشعر بحيِرة! فأسأل نفسي: هل كان الغرض من تسليط الأضواء أن أكون محط الأنظار، أم لمنعي عن رؤية الحضور؟، فمن ناحية أنا لست بذلك الجمال والطلة البهية، ومن ناحية أخرى نحن في مجتمع محافظ حيث النساء لا يختلطن بالرجال، ولهذا فقد توصلت إلى قناعة تامة بأن الهدف الوحيد من تسليط الأضواء عليّ في تلك الليلة هو أن لا تقع عيناي على النساء بأي حال .. ثم أعود لأسأل نفسي مرة أخرى: لماذا لم أدرك هذه الحقيقة يومها؟ فلا أجد جواباً إلا أن المكوث تحت دائرة الضؤ تترك الإنسان شِبه أعمى، لما يُسبِبه الضؤ من غرور وكبرياء وإعتقاداً بعلوا الشأن، وغيرها من المشاعر التي تتكفل تماماً بحجب الإنسان عن رؤية الكثير من الأشياء التي تقع خارج دائرة الضؤ، مع العلم أن ما يقع خارج دائرة الضؤ في الغالب يتم وصفه بالمكان المُضيء.
فتعال يا صديقي نُطبِق فِكرة "أن الضؤ يُعمي" على كل من سُلِطت عليهم الأضواء في المجتمع، سواءً كان مثقف أم رجل دين أو سياسي أو موظف مرموق، فهل سنرى إختلاف؟، إننا إذا ما طبقنا هذا المفهوم على كل هؤلاء سنتحصل على بعض الأجوبة لأسئلتنا الحائرة: لماذا مشاكل المواطن البسيط بعيدة عن "الأضواء"؟، لماذا هنالك إنفصال بين تلك النُخب والعامة؟، لماذا القليل فقط منهم من يُشعِرُك بأنك "لست وحدك" بينما البقية يصرخون فيك "مع نفسك"؟، والسؤال الأهم: أليس في القوم رجلاً رشيد؟، وجواب السؤال الأخير لن تصل إليه إلا عندما تُدرِك بأن دائرة الضؤ بكل أشكالها سواءً كانت "منصب وظيفي، منبر ديني، واجهة ثقافية ... إلخ" متى ما لاحقت الإنسان طيلة الوقت وفي كل مكان فستنزع عنه صِفة الرُشد، لأنه سيجد نفسه في الغالب لا يرى أبعد من دائرة الضؤ القابع فيها .. وإن كانت سكرة العريس ساعة فما بالك بمن تدوم سكرته كل ساعة؟
لا أحد يُطالب تلك النُخب بالإبتعاد عن دوائر الضؤ التي تُحيط بهم، لأن تسليط الضؤ عليهم فيه منافع للجميع شريطة أن لا تُعميهم الأضواء، والأضواء لن تُعمي إلا في حال إمتنع القابع تحت الضؤ عن الخروج إلى مكانٍ مُضيء، كما خرج الشيخ "الشعرواي" ذات يوم ليُنظِف حمامات إحدى المساجد، وحين تم سؤاله عن السبب أجاب: لقد أعجبتني نفسي فأردت أن أذلها! .. طبعاً، لا أحد يُطالِبهم بتُنظيف دورات المياه، لكن الحديث هنا عن المبدأ، أن تشعر النخبة يهموم العامة وتتشارك معهم الحياة، أن يخرجون من تحت دائرة الضؤ بين الفترة والأخرى لرؤية المجتمع على حقيقته بعيداً عن عالم الأفكار المُعلبة.
إننا لو نظرنا إلى الأحداث التي تدور اليوم في كل الوطن العربي سنجد حالة من الإنفصال الهائل أو الطلاقً البيِّن ما بين العامة والنُخب، فمن يتحرك ويصنع الأحداث هم أناس لا ينشدون الظهور في الفضائيات أو إعتلاء المنابر، مجرد بسطاء يتحركون بهدف التغيير الجذري بعيداً عن التفكير النُخبوي الفارغ الذي لم يعد له جمهور، لإيمانهم بأن تلك النُخب لم تعد تملك ما تُقدِمه للمجتع أكثر من أفكاراً مُعلبة ساهمت ومازالت تساهم في تحويل الربيع إلى خريف .... هنا أخذ صاحبنا "مجنون الحارة" يتلفت يمينا وشمالاً فلم يرى أحد! حينها أدرك بأنه كان يُحدِث نفسه طيلة الوقت فلم يُبالي، إلتقط قطعة خبز من على الطريق ومضى في سبيله وهو يتمتم: إن العقلاء لا يبحثون عن الحِكمة داخل أفواه المجانين إلا لعلمهم أن المجنون ليس عليه من حرج، وطالما ليس عليه من حرج فهذا يعطيه مساحة أرحب للتفكير خارج صناديق الثقافة النخبوية التي ما إن يخرج عنها أحدهم حتى يقع في حرج!