خذوا الحكمة ... عن نُخبٍ ضيعت دروبها

عندما يبحث العاقِل عن حكمة عابرة في أحاديث مجنون، فهذا لا يعني بأن المجنون بات يعقِل فجأة، بل يعني أن عقل العاقل قد أُصيبَ بالإرهاق جراء محاولات فِهم الأحداث التي تأتي بها الحياة، إرهاقاُ يمنع العقل من الإستيعاب أكثر .. وبما أن -الحديث ذو جنون- فها هو مجنون الحارة الذي لم يعد له وجود اليوم، ولا أدري صراحة لماذا إختفى عن الحارة؟ لقد كان وجوده ضامناً لتوازن الحياة، فمنذ إختفائه والجميع أصبح مُطمئناً إلى كمّال عقله، إطمئناناً أقنعهم بعدم الحاجة لإعمال عقلوهم أكثر .. نعم، لقد إفتقدنا لمجنون الحارة الذي كان يضع الجميع أمام حقيقة أنهم ليسوا عقلاء إلى ذلك الحد!
عموماً .. هاهو مجنون الحارة جلس ليلتقط أنفاسه من ملاحقة الأطفال له بين الأزِقه، وبلا مقدمات أخذ يوجه حديثه إلى أول شخصاً يلتقي به: في ليلة رفافي أخذت بيد زوجتي ورحنا نمشي بين الحضور بكل خُيلاء، متجهين إلى المنصة والأضواء مُسلطة علينا من كل إتجاه، كنت سعيداً جداً حينها وأنا تحت دائرة الضؤ، غمرتني أحاسيس لا توصف وأنا أرى الأعين كلها متجهة إلي، لكنني اليوم وعندما أتفكر في تلك الليلة أشعر بحيِرة! فأسأل نفسي: هل كان الغرض من تسليط الأضواء أن أكون محط الأنظار، أم لمنعي عن رؤية الحضور؟، فمن ناحية أنا لست بذلك الجمال والطلة البهية، ومن ناحية أخرى نحن في مجتمع محافظ حيث النساء لا يختلطن بالرجال، ولهذا فقد توصلت إلى قناعة تامة بأن الهدف الوحيد من تسليط الأضواء عليّ في تلك الليلة هو أن لا تقع عيناي على النساء بأي حال .. ثم أعود لأسأل نفسي مرة أخرى: لماذا لم أدرك هذه الحقيقة يومها؟ فلا أجد جواباً إلا أن المكوث تحت دائرة الضؤ تترك الإنسان شِبه أعمى، لما يُسبِبه الضؤ من غرور وكبرياء وإعتقاداً بعلوا الشأن، وغيرها من المشاعر التي تتكفل تماماً بحجب الإنسان عن رؤية الكثير من الأشياء التي تقع خارج دائرة الضؤ، مع العلم أن ما يقع خارج دائرة الضؤ في الغالب يتم وصفه بالمكان المُضيء.
فتعال يا صديقي نُطبِق فِكرة "أن الضؤ يُعمي" على كل من سُلِطت عليهم الأضواء في المجتمع، سواءً كان مثقف أم رجل دين أو سياسي أو موظف مرموق، فهل سنرى إختلاف؟، إننا إذا ما طبقنا هذا المفهوم على كل هؤلاء سنتحصل على بعض الأجوبة لأسئلتنا الحائرة: لماذا مشاكل المواطن البسيط بعيدة عن "الأضواء"؟، لماذا هنالك إنفصال بين تلك النُخب والعامة؟، لماذا القليل فقط منهم من يُشعِرُك بأنك "لست وحدك" بينما البقية يصرخون فيك "مع نفسك"؟، والسؤال الأهم: أليس في القوم رجلاً رشيد؟، وجواب السؤال الأخير لن تصل إليه إلا عندما تُدرِك بأن دائرة الضؤ بكل أشكالها سواءً كانت "منصب وظيفي، منبر ديني، واجهة ثقافية ... إلخ" متى ما لاحقت الإنسان طيلة الوقت وفي كل مكان فستنزع عنه صِفة الرُشد، لأنه سيجد نفسه في الغالب لا يرى أبعد من دائرة الضؤ القابع فيها .. وإن كانت سكرة العريس ساعة فما بالك بمن تدوم سكرته كل ساعة؟
لا أحد يُطالب تلك النُخب بالإبتعاد عن دوائر الضؤ التي تُحيط بهم، لأن تسليط الضؤ عليهم فيه منافع للجميع شريطة أن لا تُعميهم الأضواء، والأضواء لن تُعمي إلا في حال إمتنع القابع تحت الضؤ عن الخروج إلى مكانٍ مُضيء، كما خرج الشيخ "الشعرواي" ذات يوم ليُنظِف حمامات إحدى المساجد، وحين تم سؤاله عن السبب أجاب: لقد أعجبتني نفسي فأردت أن أذلها! .. طبعاً، لا أحد يُطالِبهم بتُنظيف دورات المياه، لكن الحديث هنا عن المبدأ، أن تشعر النخبة يهموم العامة وتتشارك معهم الحياة، أن يخرجون من تحت دائرة الضؤ بين الفترة والأخرى لرؤية المجتمع على حقيقته بعيداً عن عالم الأفكار المُعلبة.
إننا لو نظرنا إلى الأحداث التي تدور اليوم في كل الوطن العربي سنجد حالة من الإنفصال الهائل أو الطلاقً البيِّن ما بين العامة والنُخب، فمن يتحرك ويصنع الأحداث هم أناس لا ينشدون الظهور في الفضائيات أو إعتلاء المنابر، مجرد بسطاء يتحركون بهدف التغيير الجذري بعيداً عن التفكير النُخبوي الفارغ الذي لم يعد له جمهور، لإيمانهم بأن تلك النُخب لم تعد تملك ما تُقدِمه للمجتع أكثر من أفكاراً مُعلبة ساهمت ومازالت تساهم في تحويل الربيع إلى خريف .... هنا أخذ صاحبنا "مجنون الحارة" يتلفت يمينا وشمالاً فلم يرى أحد! حينها أدرك بأنه كان يُحدِث نفسه طيلة الوقت فلم يُبالي، إلتقط قطعة خبز من على الطريق ومضى في سبيله وهو يتمتم: إن العقلاء لا يبحثون عن الحِكمة داخل أفواه المجانين إلا لعلمهم أن المجنون ليس عليه من حرج، وطالما ليس عليه من حرج فهذا يعطيه مساحة أرحب للتفكير خارج صناديق الثقافة النخبوية التي ما إن يخرج عنها أحدهم حتى يقع في حرج!

0 التعليقات :

إرسال تعليق