المواطن .. حمّال الأوزار !


دائماً عندما أستمع أو أقرأ لشخص ما بأن التغيير يجب أن يبدأ من تحت، فوراً تنتابني مجموعة أحاسيس لا تصب أبداً في صالح ذلك الشخص، وأبدأ بعدها في تخيل أفراد المجتمع القابعون "تحت" وهم يُسارعون الخُطى إلى المساجد، ويخشعون أيما خشوع في الصلاة، ويبكون عند سماع القرآن، أتخيل الجميع يرتدي أبيض في أبيض، ويصِلون الرحِم، ويُطعِمون المسكين .. أستيقظ من هذه الغفوة وأسأل نفسي: ماذا إن تحقق هذا فعلاً؟، فتُجيبني الحياة: إن تحقق ما في خيالك، فأعلم أنها نهاية قومك، لأن المُجتمع الذي لا يُذنِب أفراده، سيذهب الله بهم ويأتي بقوماً يُذنبون ليغفر لهم!، فأعود لأسأل الحياة: لماذا إذاً أوهمونا بأن ذنوبنا هي السبب في ضياع الحقوق؟، فتُجيب الحياة: إن الفاسد يُسعِده إنشغال الجميع بالسعي خلف ملائكية مستحيلة التحقق، لأن الفاسد بهذا المفهوم يٌوفِر لنفسه بيئة آمِنة يُمارِس فيها إفساده دون إكتراث!
إن ثقافة تحميل المواطن كامل الأوزار هي بكل المقاييس "كارثة فكرية"، لأنها تتركه يعيش في حالة من الصراع النفسي الرهيب، لأنه إذا ما أرادا البحث عن حياة مُطمئِنة، ستوسوس له شياطين الإنس بأن لا راحة في الدنيا إلا بضمان الجنة! .. حينها سيُحاول التركيز في صلاته قدر المستطاع لكي يخشع، لكن طلبات البيت التي أثقلت كاهله تحرمه من الخشوع .. سيسعى جاهداً أن لا يُجرَح صيامه، فيأتي إرتفاع الأسعار ليُفسِد كامل الصيام .. وهكذا تمضي الحياة بالمواطن دون أن يهنأ بها، لإنشغاله عنها بإصلاح أخِرته لكي يتحصل على حقوقه دنيوياً!، فأي شيطانٍ هذا الذي أوهم المواطن بأنه لن ينال حقه الدنيوي إلا بتأدية دوراً لم يُخلق له؟، فالله قد زين الحياة الدنيا حتى يعبده الإنسان، وشياطين الإنس جعلت عِبادة الإنسان شرطاً لتتزين الحياة الدنيا!
إن "الكذب، الخداع، البخل، الحسد ....إلخ" رغم قبحها إلا أنها من الصفات الأصيلة في الإنسان، فيأتي الدين والعادات والتقاليد والأعراف بهدف كبح جِماح هذه الصفات السيئة في الفرد، أما في المجتمع فلا سبيل لكبح تلك الصفات إلا بالقانون الواضح الصارم الذي لا يُحابي، لأن القانون هو الأداة الأبرز إذا ما أردنا تحويل المجتمع إلى مجتمعاً ملائكي فعلاً وإن لم يُصلي فيه أحد، أما في حالة غياب القانون سيختفي تِباعاً مفهوم العدل الإجتماعي، وهذا وحده كفيلاً بإفساد أخلاقيات المجتمع وإن صلى الجميع وصام .. إن الفساد وحتى يمد جذوره عميقاً في المجتمع، فأول ما يقوم به هو إقناع المواطن بأنه هو السبب، وأنه هو الشيطان الرجيم الذي لن ينال حقوقه حتى يستغفر الله، ومهما إستغفر المواطن سيظل مُقصِراً!
إن أصحاب الإعتقاد القائل بوجوب البدء في التغيير من القاع ينطلقون من فِكرة أن سقوط القمة لن يؤثر كثيراً في تماسك القاع، بينما سقوط القاع يعني إنهيار كامل الهرم، وهذه الفكرة سليمة جداً، إلا أن الخلل يبرز عند تطبيق هذه الفكرة على المجتمع، لأن المجتمع ليس شيئاً ثابتً كمعادلة كيميائية أو معادلة رياضية، حيث الجمع بين عنصرين سيُنتِج عنصراً مختلف أو أن 1+1 لابد وأن يساوي 2، التغيير في المجتمع تُحدِده طبيعة المجتمع وطبيعة المشاكل التي يمر بها، لا وجود لقانون ثابت هنا، بالتالي يُمكِن إعتبار وجود قانون ثابت كحديث "كيفما تكونوا يولى عليكم" الذي هو حديث ضعيف بالمناسبة، خللاً يجب التخلص منه.
الإشكالية الأخرى أن المواطن إذا ما أراد البدء في التغيير إنطلاقاً باديءً بنفسه، سيجد ثقافة دينية إستمرت على مدى عقود وهي تركز على إحياء الشعائر والشكليات في الإسلام فقط، مع تجاهل شبه تام لجوهر الإسلام، تلك الثقافة قد تكفلت بجعل المواطن مُؤدياً بارعاً وربما محترفاً لشعائر الإسلام، وهاهو يعلم جيداً كيف يضع يديه فوق بعضهما في الصلاة أسوةً بالنبي –عليه الصلاة والسلام- لكنه يجهل تماماً كيف يحمل رسالة كالتالي حملها النبي –عليه الصلاة والسلام-!، لهذا يجد المواطن نفسه يدور في حلقة مفرغة من أداء الشعائر حتى يُصاب بالإرهاق النفسي وفي الأخير لا يتحصل على حقوقه.
عزيزي القاريء .. الموضوع لا يعني عدم أهمية الشعائر الإسلامية –أبداً-، ولا يعني أن تلك الشعائر لن تفيد المرء في الدنيا والأخرة، بل على العكس إن لها تأثيراً مباشراً وكلنا نحث على أدائها، لكن أن يكون سبب الفساد هو عدم تأديتك لتلك الشعائر، وأن تكون ذنوبك هي المُسبب في هذا الواقع المزري فهنا الخلل .. إن الفاسد يا سيدي يُهِمُّه أن تكون طاهراً عفيفاً زاهداً في الدنيا، حتى يُزيحك عن طريقه، ومن أجل هذا فثق أنه سيبني لك المساجد حتى تتعبد، ويدفع عنك تكاليف حلقات التحفيظ، وسيتكفل بإنشاء قنواتك الدينية، وسينصحك بالأمانة والإخلاص وإتباع الضمير، بل وسيرفع أكف الدعاء لك بالجنة وحور العين ومرافقة الشهداء في الجِنان، في الأخير هو لن يهتم إن فزت أنت بالجنة، فالأهم لديه أن يستأثِر بالدنيا، المفارقة هنا أن عدم وقوفك في وجه الفساد، ذنباً لا يُغتفر!

0 التعليقات :

إرسال تعليق