رسالة مواطن طفشان إلى هيئة السياحة


أصبح شبه روتين أن تصدر مديرية الدفاع المدني تحذيراتها في مواسم الأمطار بشكل يومي عبر جميع وسائل الإعلام، إلى عموم المواطنين بعدم الذهاب إلى الأودية ومجاري السيول في هذه الأوقات؛ حفاظا على سلامتهم. وفي المقابل أصبح شبه روتين أن يعاند عموم المواطنين تلك التحذيرات ويذهبون تحديدا إلى الأماكن التي حذرت منها مديرية الدفاع المدني

حسنا ..
إن عموم المواطنين ليسوا متهورين حتى يذهبوا إلى الأودية ومجاري السيول رغم التحذيرات المتكررة، إنهم مختنقون متململون، يخاطرون بالذهاب إلى مجاري السيول بحثا عن المتعة والترفيه والابتعاد قدر المستطاع عن رتابة المدن التي غدت "غابات إسمنت" ليس فيها إلا أرصفة وشوارع وبيوت متشابهة، والكثير من المطاعم وعيادات الأسنان
إنه من المنطقي بعد كل هذا أن يصبح الملل طابعا تمتاز به المدن ومن المنطقي أيضا أن يبحث المواطن عن أي وسيلة يقضي بها على هذا الملل، وإن كانت وسيلة غير منطقية، فنجده يقترض ويتدين ويحمل نفسه ما لا يحتمل لأجل السفر والاستمتاع أياما معدودات ليعود بعدها ويبدأ في تسديد ديونه على مدى أعوام!، أما إن عجز عن الاقتراض فيأخذ بعائلته إلى مجاري السيول وبطون الأودية.
فإن آثر السلامة وقرر الاستمتاع بطريقة آمنة بعيدا عن السفر وبطون الأودية وأراد البحث عن الفعاليات التي تقام في المملكة، فلن يجد إلا فعاليات لذر الرماد!، فما يسمى بالمدن الترفيهية "الملاهي" هي في الحقيقة ليست مدنا ولا حتى قرى إنما "أزقة ترفيهية" ينتهي منها الزائر في ساعة أو ساعتين، أما الأسواق أو المولات التي غدت مجال استثمار من لا يجد مجالا يستثمر فيه، فلا يستفيد منها في الحقيقة إلا من يستثمر فيها، أما الزائر فلا يأتيها إلا لتضييع الوقت حتى تتورم قدماه، وبعيدا عن الملاهي والمولات سيجد الباحث بعض المتاحف التي لا يعلم أحد عنها أي شيء ولا عن مواقعها أو ماذا تحتوي، وكأنها أسرار استراتيجية!. هذا كل شيء تقريبا إلا إذا تم اعتبار الأمسيات الشعرية والمراكز الصيفية التي يتم فيها شرح "الرسالة التدمرية" من الترفيه!
إننا نستطيع القول بأن الجدول اليومي للمواطن ـ تقريبا ـ لا يختلف، فالكل "يستيقظ، يتشطف، يذهب للدوام، وهناك سيقلب بعض الأوراق، ثم يعود للبيت ليأكل ثم ينام، فيستيقظ مرة أخرى وإن كان انطوائيا أكمل يومه بين التلفاز وأحاديث العائلة المكررة، أما إن كان راعي وناسة، فسيذهب للاستراحات أو المقاهي يملأ فيها رئتيه بالنيكوتين وغاز أول أكسيد الكربون والنيتروجين السائل، ثم يعود لينام" وهكذا كل يوم.
هذا المواطن إن أراد التغيير فليس أمامه إلا خيارات محدودة، إما أن يسافر خارجا لأيام معدودات ثم يعود محملا بالديون، أو أن يذهب إلى مجاري السيول وقد لا يعود، أو يذهب لأحد الشواطئ فإما أن يجدها ملوثة وغير مهيأة أو لا يجدها أساسا بسبب احتكار الأراضي، وأخيرا أن يخرج للبر وهناك إن سلم المسكين من السقوط في بئر ارتوازية ستعترضه الحواجز
فأين يذهب المواطن يا هيئة السياحة؟

أليس من المخجل والمحزن أن تأتي إجازة نهاية الأسبوع والإجازات الصيفية فلا يجد الشاب إلا الدوران في الشوارع ذهابا وإيابا بلا هدف، ثم نلومه إن انطلق بسرعات جنونية ومارس التفحيط ليقتل في طريقه بعض المتفرجين! إن هذا الشاب لا يختلف عن الذي يقترض من أجل السفر، لا يختلف عن الذي يأخذ بعائلته لبطون الأودية ضاربا بتحذيرات الدفاع المدني عرض الحائط، الكل عندما يبحث عن الترفيه والمتعة بطريقة طبيعية آمنة ولا يجدها، سيستمتع بطرق تحفها المخاطر، وحل مشاكل هؤلاء ليست في تشديد العقوبات الصارمة، ولا بزرع عسكري عند كل إشارة وتقاطع، الحل في إنشاء بيئة ترفيهية متكاملة تستوعب هموم المواطن.
إن مدن هذا الوطن متعطشة إلى وجود بيئة ترفيهية متكاملة، حتى نقضي ولو قليلا على استنزاف المليارات كل عام من أجل السياحة في الخارج، إننا يجب أن ننظر إلى كل هذا الهوس بالسفر إلى أنه هروب من جو خانق، إلى أنه بحث عن أكسجين نقي، ويجب أن نتيقن بأن كل ما يبحث عنه المواطن في الخارج من السهل أن يتم توفيره في الداخل ـ ولدينا الإمكانات ـ فالمواطن لا يبحث خارجا إلا عن مدن ترفيهية بمعنى الكلمة، ومتاحف يشاهد فيها الآثار التاريخية ووطنه يكاد يتفجر من الآثار المدفونة فيه!، المواطن يبحث عن الحدائق المائية والمدن الثلجية، يبحث عن صالات السينما التي من الممكن أن تضاء فيها الأنوار تجنبا للشبهات
مهما كان ما يبحث عنه المواطن في الخارج من الممكن إيجاده في الداخل، فأين الخلل؟ ولماذا المدن السعودية خانقة إلى هذا الحد؟ ومتى يستطيع المواطن "رب الأسرة" أن يخبر أفراد عائلته بأنه سيأخذهم هذا الأسبوع في جولة للتعرف على "ربوع بلادي" ثم لا يرمقه الجميع بنظرات عابسة وهم يرددون: وش رأيك تحجز لنا على دبي وتفكنا من "ربوع بلادي" بلا طفش؟!

الميزانية و"طلاسم" مؤسساتنا


كلما تدلى السؤال على وسادتي كاللعاب، مسحته بطرف اللحاف وعدت إلى النوم، فيقفز اللئيم إلى داخل أحلامي، لأستيقظ فزعا أستعيذ بالله ثلاثا ثم أعود إلى النوم، وهكذا تمضي بي الليلة -كل ليلة- أنام ولا تنام الأسئلة، إلى أن أستيقظ من نومي على مضض، وأغسل بقايا الأسئلة العالقة بين أسناني جيدا، فاليوم في بدايته وإلى أن ينتهي سيتجمع المزيد من الأسئلة
أذهب إلى العمل.. الكل يشكو غياب الامتيازات، من فوضوية الإجراءات، الكل يطرح الأسئلة تلو الأسئلة ولا جواب إلا جواب وحيد: ميزانية العام لا تلبي كل الاحتياجات! وهكذا تمضي فترة العمل إلى أن ينتهي الدوام، لينصرف الجميع تاركا الأسئلة كالغبار على أسطح المكاتب وأوراق المعاملات.
أعود إلى البيت، أتسلى بمضغ بعض الأسئلة إلى أن يجهز الغداء، وبعد الغداء أبدأ في إعادة أحاديث الأمس على مسامع الزوجة والأبناء، فيبتسمون مجاملة كالعادة، لتبدأ بعدها الطلبات، هذه تريد وهذا يريد وأنا قد أتقنت لعبة تمويه الإجابات، ليأتي ردي دائما: ميزانية الشهر لا تلبي كل الاحتياجات!. هنا من المنطقي أن أفتعل شجارا بسيطا حتى يعلو الضجيج على صوت تأنيب الضمير.
بعدها آخذ بالتجول بين القنوات، هذا "وليد الفراج" يسأل رئيس لجنة المنشطات: لماذا لا تكثفون جهودكم أكثر؟ فيأتي الجواب: الميزانية ما تساعد! وبعد الجواب المعتاد يغير "وليد الفراج" من جلسته وينظر إلى المشاهد نظرة استفزاز ليولد فيه المزيد والمزيد من الأسئلة، فأخاطبه بدوري: لا تنظر إلي هكذا! فأنا من ينتظر منك بعض الإجابات، لا أن تجعلني أتساءل أكثر! أنتظر منك أن تجيب عن سر تدني مستوى الرياضة السعودية، ولماذا الرئاسة العامة لرعاية الشباب تتعلل دائما بنقص مواردها المادية؟ ولماذا أنديتنا العريقة غارقة في الديون؟ أعطني بعض الإجابات ولا تستفزني.
أغلق التلفاز بسخط، وأبدأ في تصفح مواقع الإنترنت.. الأرصاد وحماية البيئة لم تنبه المواطنين إلى هطول الأمطار لعجز في الميزانية! هيئة المساحة الجيولوجية لم تنبه المواطنين عن الزلازل لعجز في الميزانية! هيئة السياحة عاجزة عن توفير بيئة ترفيهية متكاملة لعجز في الميزانية! وزارة الصحة تعد بتحسين أوضاع المستشفيات شريطة تخطي العجز في الميزانية!
الكل محتاج، الكل يعاني مع الميزانية التي تخصص له سنويا. كل المؤسسات تشتكي وتضع اللائمة على نقص الميزانية.
الكل يريد المزيد، الكل يعتقد أن مشاكله ستحل بالزيادة. وأن مشكلة مؤسساتنا ليست مع الميزانية، فالخير يأتيها سنويا بشكل وفير، مشكلتها أولا سوء الإدارة لهذه الميزانية، وثانيا عدم تفعيل دور الضمير، أما ثالثا وهو الأهم أن تخرج عن تقمص دور "الرجل الغامض بسلامته" الذي يحيط نفسه بالأسرار اعتقادا بأنه هكذا يكون أكثر جاذبية، ما عاد يجذبنا الغموض يا مؤسساتنا، فلتجربوا الشفافية، وكبداية أن تجيبوا عن سؤال لا يزال كاللعاب يسيل: أين الأصفار؟! فإن كثرة ترديدكم لكلمة "مليار" صحيح أنه جعلنا نعاني من مشاكل سمعية حتى بتنا نسمع المليار بلا أصفار، إلا أن أعيننا لا تزال ترى جيدا، وإنا لنرى أصفارا قد اختفت، فأين ذهبت؟
إن شيطان المواطن كلما وسوس له بفعل سوء، أخرج له المواطن جيبه الخالي مرددا: كان ودي والله، لكن يبدو أن شياطين مؤسساتنا العزيزة ما عادت توسوس لهم إنما تنصحهم بتقوى الله! أن يتركوا شيئا لهذا المواطن حتى يجد ما يذنب به ثم يستغفر عليه، وإلا سيذهب الله به ثم يأتي بمن يذنب ثم يستغفر. بل كأن عموم المواطنين ما عادوا يستغفرون عن ذنوبهم إنما عن أسئلة لا يجدون لها جوابا.
أسئلتهم تبدأ همسا وتنتهي إلى زعيق، ولا جواب.
قد تعب الناس، وملوا من تدلي ألسنتهم تحت ثقل الأسئلة، وتراكم علامات الاستفهام في جماجمهم. قد أصيبوا بداء السمنة لكثرة ما يبتلعون أسئلتهم، ولا جواب.
الكل يسأل ويسأل في وطن كل مؤسساته صمّاء!.
كأننا في "طلاسم"، الكل يدري أنه لا يدري ولا أحد يدري أن الكل يدري!
هل نحن نصعد أم نهبط أم نغور؟
أم نسير في الدرب أم الدرب تخطانا وأكمل المسير؟
هل الميزانية تتبخر أم تذوب أم هي مع العصافير تحلق عاليا وتطير؟
هل هناك من يدري أم لا أحد يدري أم الكل يدري وأنا وحدي لست أدري!
من يتبرع بإفراغ رؤوسنا من علامات الاستفهام؟
لماذا الحكومة تعطي ومن يأخذ يطالب بالمزيد؟
ولماذا المزيد والموجود عن الحاجة يفيض؟
لماذا عند صدور الميزانية تعدنا كل المؤسسات بأنها ستنجز ولن تتوانى أو تستهين، ثم في نهاية العام تعتذر كل المؤسسات فهي قد توانت مرغمة لأن الميزانية كانت عصيّة على أن تليّن؟
لماذا أطرح كل هذه الأسئلة؟، لست أدري. ربما لكي أتجنب دخول الأسئلة إلى مناماتي كالكوابيس المفزعه!
ربما أنا هكذا أغسل أسناني جيدا من بقايا الأسئلة، أو ربما أعيد طرح حوار دار يوما بيني وبين كفيف، حين سألني عن لون المستقبل، فأجبته: هو بالضبط .. ما تراه!