القصيمي الذي حاربناه


إن الإنسان ليس بسمكٍ نافِق، ولا قِطعةِ خشب يتقاذفها التيار كيفما شاء، إنه إنسان. ولأنه إنسان فمن الطبيعي أن يجرِفهُ التيار أحياناً ثم يُقاوِم الانجراف، أما من يستسلم للتيار يتلاعب به كيفما كان، فهذا لا يختلف عن السمكِ النافق أو عن قِطعةِ خشبٍ مُلقاة. وإن كان السائِد تياراً فإن السائرون عكس التيار كثيراً ما شكلوا تياراتٍ مُعاكِسه، لتتجمع العِصابات من كل اتجاه وتلتقى لتتصادم فقط، مُكوِنةً حولها مواجهات مريرة تجعل ثقافة الجميع ثقافة إقصائية الكل فيها يبحث عن مأوى يأويه -فالوضع أشبه بحرب- وفي الحرب لِزاماً على الجميع إما أن يكون "مع أو ضد" فالحِيّاد هلاك. إن الكل في معمعة الصراعات لا يُؤمِن بوجود حياة طبيعية خارج هذه التيارات، رغم أن الحياة الطبيعية هي تحديداً خارج فوضى هذه التيارات، هناك على حافة النهر.
وقد يكون "عبدالله القصيمي" أحد الذين أرادوا الوصول إلى حافة النهر، لكن هل نجح في الوصول أم لا؟، فربما قذفت به جميع التيارات حتى نجح في الوصول، وربما ظل يُصارِع كل التيارات إلى أن فشل في الوصول؟!، لقد حارب الجميع، وحاربه الجميع، حاربهم لأنه ليس "مع أو ضد" وحاربوه لعدم استيعابهم كيف لا يكون "مع أو ضد". تقدم ليُعري الجميع، وتقدموا لتكفيره والاستهزاء به، تبرؤا منه وتبرء منهم، ولا يزال الصِراع مُستمراً إلى اليوم!
كل التيارات المُتلاطِمة من كل اتجاه شنت الهجوم عليه واستصغار أفكارِه، لا لشيء إلا لأنهم كرِهوا أن يخرج بدوي من خلف كُثبانِ الرمل ليطرح أفكاراً أكبر منه ومن بيئته، الكل لا يُريد أن تخرج من خلف الكثبان إلا الأفكار البسيطة أو الأشواك، الكل تأقلم مع فِكرة أن رِمال الصحراء لا يجب أن تُنبِت إلا الأشواك أو اللاشيء، لهذا اتفقوا أنه من الأفضل للجميع عدم تشجيع "القصيمي" حتى لا تخرج من خلف كثبان الرمل عقليات أكثر حِدةً وغضب منه.
أما الاتهامات التي نالت القصيمي، فكأنها قد أطلقت عليه ليرتاح الجميع من عناء البحث خلفه، قالوا أنه فُتِن وأنه هلُك وضل وتاه وأصابه الخَبَال، أرادوا أن يُلصِقوا به أي تُهمة حتى يُطمئِنوا أنفسهم بأن الخلل فيه لا فيهم. إن المُفكِرين يا سادة يتعاملون مع الأفكار كما يعمل الكيميائي في مختبرِه، يُجرِب أكثر من تركيبة ويخلِط أكثر من عنصر كيميائي حتى يخرج بالتركيبة الصحيحة، إلا أن المُفكِر لا يصل للحقيقة لإيمانه بأن الغاية هُنا ليست الوصول إنما مجرد البحث عن الحقيقة هو الغاية، هذا البحث عن المعنى هو ما يُضفي لحياته معنى، هذا البحث الشاق يجعل المُفكِر يُؤمِن بكل شيء ثم لا يُؤمِن بأي شيء، يُفكِر بعقلية كلها شك رغم أنه على يقين. لهذا، أن يُوصف "القصيمي" بأن له توجهً مُحدد كأن نقول بأن ليس في الكِيمياء إلا عُنصراً واحد!.
أدرك أن للقصيمي أخطاء، وأنه ليس بتلك العقلية التي أعادت ترتيب أفكارنا، ولست هنا لأتغنى به، إنما لأبيِّن أننا نخسر الكثير وراء مُعادات المُفكرين، إن الأرحام لم تتوقف أبداً عن إنجاب المُفكرين لكن الوضع العام يئِدُ كل من يُفكِر قبل أن تُراوِده فِكرة أن يُفكِر!. كُل تياراً لديه ضوابطً يُقيد بها العقل، ثم يعتقد كل تيار أن ضوابِطهُ هي الأحق بالالتزام، ومن أجل فرض هذه الضوابط تم إنشاء "محاكم تفتيش" داخل عقل الإنسان مهمتها وأدُ الفِكرة قبل نشوء الفكرة!. هذا هو بيت الداء، الضوابط التي ما أنزل الله بها من سلطان والتي نجحت في جعل العقل العربي عدائياً على الدوام.
إن الأمم لا تنهض إلا حين تتنحى عن طريق المفكرين، حين تتركهم يُفكرون بهدوء، وهي لا تتركهم يُفكِرون بهدوء لأنهم يُفكِرون بعيداً عن ضوابط الجميع!، إن أي أمة تُعادي المُفكرين سيُشغِلُها أمر مُعاداتِهِم عن أي تقدم للأمام، أي أمة تترك الجُهّال يركضون خلف المفكرين بالحجارة ستنحدِر أكثر، لأنها بهذا تكون قد ولّت أمرها بيد من لا يُفكِر إنما بني قناعاته بالتلقين.
القصيمي أو غيره من المفكرين، هل هم الشياطين فعلاً أم إن الشياطين نجحت في جعلنا نستعيذ بالله من المُفكرين؟. هذا "ابن رشد" مات منفياً، و "الأندلسي" مات مقهوراً، و "ابن المفقع" مات محروقاً، و "الحلاج" مات مصلوباً، وقاتل "فرج فودة" لم يقرأ له كلمة واحدة لكنه تقدم لقتله إحقاقاً للحق!، أي حق هذا؟.
هل نخاف من اللامألوف الذي يطرحه المُفكِر، أم نخاف أن نكتشف بأن المألوف الذي ألِفناه "مقيت"؟. هل نخاف من المُفكِر، أم نخاف أن يأتي بفِكرة يُحرِك بها الماء الآسِّن؟. هل نخاف أن يتمادى المُفكِر في كشف الحقائق، أم نخاف أن يكشف عن حقيقتنا التي نسترها  بملائكية كاذبة؟، أم يُريدنا الجُهّال أن ننفض التراب الذي خُلِقنا منه؟ .. ما الذي يُخيفنا في المُفكِرين بالضبط؟، ولماذا كُلما أطل أحدهم علينا حاربناه؟

مالنا و"بني الأصفر" ؟


"حسبي الله عليهم" عبارة قالها قبل أن يجلس.
قلت له: يا رجل، ألق تحية الإسلام أولاً!
قال: بل سأدعو عليهم قبل كل سلام، لا بارك الله فيهم.
سألته عن سر هذا السخط والتذمر. فقال: إنها هموم العمل، إدارة لا تهتم، ومسؤولون غير أكفاء.
إننا وعلى مدار عام كامل نُطالبهم بالتدريب حتى نستطيع أن نُنجِز المهام المطلوبة، وكل مرة يأتينا الجواب بالرفض. ثم وبعد كل هذا الرفض غير المبرر نتسلم خطابا منهم : نظراً لاحتياجات العمل الملحة فقد تم التعاقد مع خبراء من "بني الأصفر" حتى ينجزون المهام على أكمل وجه"!
ذهبنا للإدارة وأخبرناهم بأن العمل ليس في حاجة خبراء فنحن نستطيع بالقليل من التدريب إنجاز المطلوب، فجاء ردهم بأن "قُضي الأمر"!.
وجاء الخبراء .. لنكتشف على مدار الأشهر الخمسة الأولى أنهم لا يعلمون أكثر مما نعلم، ونحن الذين كنا نتأمل فيهم خيراً. بل إننا كثيرا ما دربناهم وعلمناهم وشرحنا لهم، وهم من يقبض في الأخير المال بالبدلات والمميزات كلها!.
قاطعت هذا الساخط: يا رجل ألا ترى أي ميزة يمتلكها هؤلاء الخبراء؟ إن ميزتهم أن لونهم أصفر وأعينهم زرقاء، بينما ألوانكم من درجات القمحي الباهت وأعينكم توحي بالشرر.

إن الكثير من مؤسساتنا تبالغ في إكرام الأصفر بمميزات ورواتب خيالية، لا لشيء سوى أنه "أصفر" ولا تطالبه بأن يتحلى بأي صفات أخرى ولا أن يكتسب أي مؤهلات إضافية.
الكثير من مؤسساتنا يبهرها اللون الأصفر وتعتقد أنه دائما أحسن وأكثر إبداعا وإخلاصا وأنه يُضفي على بيئة العمل رونقا خاصا، إنه بالنسبة لمؤسساتنا ليس أكثر من ديكور بيروقراطي تتسابق إلى اقتنائه حتى يقال إن من ضِمن العاملين لديها موظفا أصفر!.
أما القمحي الباهت "السعودي" فحتى وإن تساوى مع هذا الأصفر في الخبرات والإمكانات، بل حتى وإن تخطاه علما وخبرة سيظل قمحيا باهتا لا تجد المؤسسات أي مِيزة في تكديسه لديها !
فمتى تدرِك مؤسساتنا العزيزة أنها تتسول بإناء من ذهب؟ تثق في الأصفر بينما في هذا الوطن من يفوقه علما وخبرة، تعطي الأصفر رواتب ومميزات مبالغ فيها رغم أن أبناء هذا الوطن ينجزون أكثر ويطلبون أقل، تنظر للأصفر وكأنه يمتلك قدرات "سوبرمان" وعقلية "أينشتاين" رغم أنه في الغالب يأتي إلينا ليسمع منا ثم يعيد علينا ترديد ما سمعه بلغة أجنبية وعينين زرقاوين، ليتسلم بعدها في راتبه عددا من الأصفار كفيلة بتحويل ابتسامته الصفراء إلى بيضاء تسر الناظرين .

وحين أقول "مؤسساتنا" فأنا أعني كل المؤسسات بلا استثناء ..
أراجع إحدى المستشفيات فتصدمني لوحة أكبر من واجهة المستشفى عليها إعلان وصول الاستشاري العالمي "الأصفر" والمتخصص في التهاب المرارة، فأشعر بألم في الأمعاء الغليظة!
أفتح شاشة التلفزيون فأجد كل محللي الرياضة يحتفون بقدوم طاقم التحكيم الأصفر لإدارة المباراة، ولو أننا أعطينا طاقم التحكيم القمحي ربع ما يأخذه الطاقم الأصفر لوصل تحكيمنا للعالمية !
أخرج للشارع لأجد جاري العزيز يتباهى بأن تكاليف دراسة ابنه "عشرون ألفا" في الفصل الدراسي الواحد، أسأله لماذا فيجيب: لأنهم يعتمدون على نظام بني الأصفر التعليمي !

إننا نعمق فينا الشعور بالدونية عبر هذا النهج، نؤكد لذاتنا أننا أقل منهم .
نعم نحن مطالبون باحترام ثقافات الآخرين وحضارتهم التي وصلوا إليها، مطالبون بالاستفادة منهم ومن شتى العلوم التي أبدعوا فيها، إلا أن كل هذا لن يفيدنا في شيء إن لم نحترم أنفسنا أولا وقبل كل شيء، أن نثق في أنفسنا قبل ثقتنا في الآخرين.
مطالبون أن يكون اعتمادنا على الآخرين كآخر الحلول، أن نبذل كل ما نستطيع لإيجاد البديل من أبنائنا فإن عجزنا فحينها نُرحِب بالأصفر والأحمر والأزرق .

ألم تكتفوا يا سادة من عقدة الأجنبي ؟ .. متى تعيدون ثقتكم في ابن هذا الوطن ؟
إنه من السهل أن نقوم بترديد الشعارات المعلبة، بأن ابن هذا الوطن مقدم على الآخرين وأن كل الثقة فيه، وأن الأمل معقود عليه، إن كل تلك الشعارات المعلبة لا تسمن ولا تغني من جوع، والواقع يكذبها، ففي الواقع نجد خبرات وطنية متراكمة في كل مجال لا أحد يرى أنه في حاجة لها رغم حاجة الوطن الماسة لها، إمكانيات وطنية ضخمة مهدرة لو أننا وظفناها لوفرنا الكثير على الاقتصاد الوطني، لكننا نبحث في الأصفر عن "البريستيج" ونستعين به كأسهل الخيارات رغم أنه ليس أقل الخيارات تكلفة، ديكور يلحق أضراراً اقتصادية بالبلد وأضراراً نفسية بأبناء البلد، لكن مؤسساتنا العزيزة مفتونةً باقتنائه والإغداق عليه بكرم حاتمي مبالغ فيه، وليتضرر من يتضرر فـ " من الحب ما قتل " .
ويكذب من يدعي أن الإنسان سيقدم مصلحة الوطن الذي يعطي بسخاء، على الوطن الذي أعطاه حق الانتماء. ومن يدعي هذا فغالبا هو يطمع في أن تتم ترقيته من خبير إلى خابور، أن يأتي لمهمة محددة ثم نتفاجأ أنه وبعد مضي عشر سنوات لم تنته المهمة ولم يشبع بعد !

صغيرتي لمى .. نحن من سقط


بعد أكثر من 15 يوما على متابعة قضية "لمى الروقي" أجدني في حيرة من أمري، من الذي سقط بالضبط، الصغيرة لمى أم نحن؟، وإن استقرت "لمى" على عمق 100 متر فإلى أي عمق وصلنا؟ وهل سقطنا فعلا أم أننا في هذا القاع منذ زمن؟. جاءت حادثة لمى لتؤكد فقط على سقوطنا، لتؤكد لمن كان يشك بأن واقعنا مملوء بالفوضى، لتضعه وتضعنا جميعا أمام تجربة يظهر الله من خلالها مقدار الفوضى والشتات الذي نعاني منه في أكثر من اتجاه.
عشرات الاحتمالات، عشرات التساؤلات، تساؤلات لا تبحث عن إجابة إنما لزرع الاستفهامات أكثر وأكثر. الكل يدلي بدلوه، الكل يغني على ليلاه، بلا حسيب أو رقيب ولا حتى مهنية أو رقي، إننا حتى في الكذب وخلق الإشاعات فاشلون، نكذب بلا هدف أو لأهداف غير سوية.
الصغيرة لمى.. أوضحت لنا إلى أي بيروقراطية سقطت بعض الإدارات الحكومية، بيروقراطية تجعلها دائما متأخرة عن متابعة المستجدات على الميدان. إننا لا نشك أبدا أن رجال الدفاع المدني قد بدلوا الجهد المضاعف من أجل إخراج لمى، لا نشك أنهم ينطلقون إلى أعمالهم بدافع ديني أولا وإنساني ثانيا، الخلل ليس في العاملين على الميدان، الخلل في البعيدين عن الميدان، الخلل في الإدارة شأنها شأن أغلب الدوائر الحكومية، جهات تعاني من بيروقراطية تعرقلها قبل أن تخطو، إدارات تباشر الحدث بعد أن يتلقفه الإعلام، حينها تتحرك لتلميع صورتها في المقام الأول، وكأنها الضحية!. يجب الاعتراف بأن أغلب الإدارات الحكومية - والدفاع المدني أحدها - تعج بالأخطاء، أبرز تلك الأخطاء أنها لا تتحرك إلا بعد وقوع الحدث، بينما المفترض بها أن تتحرك قبل أن يقع الحدث.
الصغيرة لمى.. أوضحت أيضا إلى أين بالضبط قد سقطنا فكريا وثقافيا، سقوطا جعل من عقولنا بيئات خصبة للأفكار الغارقة في التخلف. بعضنا آمن أن الجن هو المتسبب وهو الملام، وأن لمى لا تزال معززة مكرمة في عالم محجوب عنا لا نراه. بعضنا ذهب إلى أن جسدها لن ينتشله إلا أصحاب الكرامات!. بعضنا غط في نوم عميق ليبحث عن لمى في عالم الأحلام، الغريب أنهم قد حددوا مكانها بكل دقة، ومن هنا تتضح لنا ملامح بعض مفسري الأحلام وأنهم ليسوا أكثر من راقصين بارعين على عواطف الناس لتحقيق مكاسب واهية "خاسرون وإن حققوها". إن هذه الأفكار التي تندرج تحت بند "الخزعبلات" باتت داء عضالا يجب إيجاد الدواء الفوري له. أحلامنا إن كانت على هذا القدر من النورانية والتجلي، فلماذا لا تستعين بها الدول المتقدمة لحل مشاكل مجتمعاتها؟.
الصغيرة لمى.. أوضحت مدى السقوط الإعلامي الذي تعاني منه بعض الوسائل، وسائل إعلامية ما عادت تهتم بالحقيقة بقدر ما يهمها الفوز بـ"سبق" صحفي مفتعل تؤمن به البروز. وسائل إعلامية أجادت خلق بلبلة في المجتمع بكل براعة، أجادت تزييف الحقائق بكل جدارة، وكأن الحقيقة لا تعنيها!، إن المفترض بالإعلام أن يحارب الفساد ويكشف الحقائق لا أن يتفرغ لتحقيق المكاسب. متى يخرج الإعلام عن دائرة التضليل؟، فلم يبق إلا أن يكتبه الله كذابا.
بعض الإعلاميين راحوا يختلقون التهم تلو التهم والتشكيك في النوايا وتكذيب الأخبار، قالوا إنها لم تسقط في البئر، قالوا إنها في بيتها معززة مكرمة، راحوا يتهمون أقرب المقربين!، طرحوا عشرات التهم بلا دليل، غايتهم الصعود على جراح الناس والتلاعب الوقح بآلامهم، غايتهم أن يشار لهم وإن بالشتم والتقبيح. والمغردون "نحن" بدورنا لم نرحم جسدها الصغير، لم نرحم آلام أهلها، رحنا نتلقف كل خبر كأنه يقين، وحين لم يشبعنا ما تلقفناه رحنا ننسج التغريدات المضللة لتحقيق شهرة ستكون وبالاً يوم لا ينفع الندم.
إن فحوى الرسائل التي بعثت بها "لمى الروقي"، هو أننا نعاني من أزمة ضمير حادة جدا في أغلب الاتجاهات، والمتتبع للحادثة ولما وصلت إليه حتى اليوم حتما سيحتار، هل فعلا سقطت لمى أم إنها نزلت للبئر بكامل إرادتها؟، كأنها قد نزلت حتى تنتشل ضمائرنا من القاع، دون أن تدرك أن ما سقط في القاع قد تحلل وذاب وسال إلى باطن الأرض. كأنها حين أيست من انتشال ضمائرنا أرادت الصعود فواجهت قلوبا متحجرة تعيق طريقها، قلوبا غير قابلة لأن تلين.
ماذا أقول أكثر يا صغيرتي عن واقعنا الفوضوي؟ فقد أيقظتنا على حقيقة وضعنا، وحددت مكان ضمائرنا. فدعينا يا صغيرة ننعى واقعنا وأخبرينا عن رحمة رب العالمين، عن جنة لن يطأها المغرضون، عن نعيم لن يقربه المتاجرون بالآلام. أخبري من نجح في التحايل على قانون أهل الأرض بأن قانون الله لن يحابي المقصرين. إن ما مررت به يا صغيرة بكل مقاييسنا "مأساة" فأخبرينا أن لله مقاييس عنوانها "عدل ورحمة".

الإصلاح.. أسهل الخيارات وأقلها كلفة


كل يوم يستيقظ فيه العم عصام، يبدأ بترديد عبارة "صباح الخيرات.. الإصلاح أسهل الخيارات وأقلها كلفة"، كل يوم دون ملل حتى بات ترديده لهذه العبارة كأنه استغفار، أصبح يُردِد هذه العبارة كأنه يُؤدي واجبا شرعيا ويدعو إليه كل صباح، وإن لم يكن الإصلاح أسمى واجبات الشرع، فما أسماها؟
نعم.. الإصلاح أسهل الخيارات وأقلها كلفة، رغم أنه شاق ويتطلب مجهودات بشرية ومادية حتى ينجح، إلا أن كل تلك الصعوبات هي صعوبات على المدى القريب، ستزول حالما يتحول الإصلاح إلى نهج وثقافة وأسلوب حياة في المجتمع، حينها لن يتطلب الأمر أكثر من متابعة دؤوبة وتطوير على الدوام. بمعنى آخر: إن صعوبة الإصلاح تكمن في الخطوات الأولية فقط وما عداها من خطوات فأمرها سهل إن رافقها الإصرار.
أما الفساد فيمكن اعتباره أسهل الخيارات وأقلها كلفة لكن على المدى القريب، فالفساد يبدأ بأن يتم ترك الأمور على ما هي عليه دون إصلاح، فهذا لا يكلِف أي مجهود بشري أو مادي "على المدى القريب"، لأن كل ما يحتاجه الفساد هو "التطنيش"، عدم تطبيق القانون، عدم المتابعة. والقاعدة: أن الإنسان الذي لا يقوم بعمل أي شيء لن يبذل أي مجهود على الإطلاق، إلا أن لعدم قيامه بأي مجهود تبِعات ونتائج لا يمكِن التنبؤ بها، ستفسد حالته الصحية والمادية "على المدى البعيد" لأنه آثر عدم القيام بأي شيء "على المدى القريب". وما ينطبق على الإنسان ينطبق على المجتمع، لهذا كان المجهود الذي يبذل في سبيل الإصلاح رغم صعوبته كبداية إلا أنه يبقى أسهل الخيارات وأقلها كلفة.
يقول "ديريك بوك": إن كنا نعتقد أن التعليم باهظ الثمن فلنجرب الجهل. نعم فليجرب الجهل من يستخسر المجهود المادي والجسدي في سبيل التعليم، فالجهل لا يتطلب أي مجهود على الإطلاق لكنه يورد المهالك. وبنفس المنطق: إن كنا نعتقد أن إصلاح القضاء باهظ الثمن فلنجرب الظلم. إن كنا نعتقد أن الإنتاج باهظ الثمن فلنجرب استنزاف كل الموارد في الاستهلاك. إن كنا نعتقد أن إصلاح المؤسسات باهظ الثمن فلنجرب حياة الغاب. إن كنا نعتقد أن الإصلاح عموما باهظ الثمن فلنجرب مرارة الفساد
يبقى السؤال: ما هو الإصلاح المنشود؟ لا أملك الجواب، لأن مفهوم الإصلاح في الوطن العربي شائك، فوضوي، بفوضوية كل شيء آخر، وفوضوية مفهوم الإصلاح لأن الفساد تغلغل عميقاً حتى أثر فيه، وبات البعض يراه بعبعا يسترعي الخوف والحذر. فهنالك من يرى ضرورة هدم البناء العربي بالكامل كشرط للإصلاح، إصلاح ماذا، وماذا بقي؟! إن هذا سيضمن الهدم تماما لكنه لن يضمن البناء بأي حال. هنالك من يرى ضرورة استيراد نماذج لا تتناسب مع ثقافاتنا وطبيعة الحياة هنا ويريِد إلزام الجميع على الارتداء بلا سؤال، وعلى من يمتنع كامل اللعنات! أما العم عصام فيُعرف الإصلاح بأنه: "إعادة الاعتبار للفرد والتعامل معه على أساس المواطنة بصرف النظر عن انتماءاته التاريخية والراهنة". نعم إن الإصلاح يبدأ بإعادة القيمة المهدرة لهذا المواطن العربي بغض النظر عن انتماءاته، لأن أي إصلاح سيفشل طالما أن المواطن العربي بلا ثمن، على الرغم من أنه أثمن رأس مال.
المواطن يا سادة من طبعه عدم الرضا على الدوام، إن الله قد زرع فيه هذا الطبع لا ليكون ساخطا بلا هدف، إنما لأنه إن رضي وقنع قعد عن العمل مبتسما، ثم لن يصلح له حال، ولابتسم لهذه الابتسامة كل فاسد، وسعادة الفاسدين بهذه الابتسامة كسعادة الدود وهو يحلل الجثث الهامدة.
والفاسدون يصورون حالة عدم الرضا الطبيعية في المواطن أنها مسألة غير طبيعية، أنها نوع من التبجح والاستكبار على النعم. وسيتهمون بالخيانة والعمالة والكفر والردة كل من يمارس عدم رضاه – الطبيعي - كمحاولة منهم لإخضاعه على الرضا بالإكراه. ولو أن الفساد لم يؤمن لهؤلاء أموالا ينهبونها وأحلاما يمزقونها لما أصيبوا بعاهة جعلتهم يتصورون حالة عدم الرضا "الطبيعية" في الإنسان أنها حالة "غير طبيعية" تستوجب الاستنفار!
إن استمرار الصراع بين من يمارس عدم الرضا وفق طبيعته وبين من يصور أن عدم رضا هذا الإنسان حالة غير طبيعية، هذا الصراع من شأنه أن يدخل الإحباط في النفوس القلقة، أن يجعلها نفوسا مشوهة، كارهة، حاقدة، فاقدة لأي أمل، حينها ستتحول حالة عدم الرضا "الطبيعية" في الإنسان إلى حالة غير طبيعية فعلا، سيعترض لمجرد الاعتراض، سيقف في منتصف الطريق ليبصق على الرصيف، سيلقي بالقمامة من زجاج سيارته، ويشتم المارة. حينها سيغدوا الإصلاح أصعب الطرق وأغلاها ثمنا، لأننا حينها نكون قد أفسدنا في المُحبطين "الأخلاق والمنطق" وأصعب إصلاح هو إصلاح الأخلاق والمنطق. حينها سيحتاج المصلحون إلى إصلاح الإصلاح نفسه، لأن أي إصلاح سيمارسه إنسان مُحبط سيُخلِف وراءه الفوضى في كل مكان، وستكون فوضاه متعمدة، وستسعده فوضاه. حينها سيؤمِن الجميع بأن الإصلاح فعلا أسهل الخيارات وأقلها كلفة.


وهذا حساب العم عصام في المقال .. تابعوه للفائدة
@EBasrawi