رأيتني في المنام .. وزيرا للتعليم

 
الشتاء في مدينة جدة، دافئ رطِب مملوء بالناموس، وزاد الطين بِلّة أن السُحب هنا تتلقى معاملة الوافدين، فأي تجمع لها يعد تجمعا مشبوها يجب تفريقه بقوة الـ"كيمتريل". في هذا الجو الخانق بين أسراب البعوض والـ"كيمتريل"، نِمت كما ينام البؤساء، ونوم البؤساء بلا أرق لأنه حالة من حالات الإغماء!. نِمت وما هي إلا لحظات حتى رأيتني في المنام، مواطنا فاعِلا، مواطنا له رأي، أقول ولا أحد يستمع فقد كنت في الحلم وحيدا يُحيطه "لا أحد" من كل اتجاه. وحين لم أر في المنام شيئا، أخذت أتأكد بأن لا شيء حولي فعلا ولا أحد يسمعني، وما إن تأكدت حتى شرعت في رؤياي.
رأيتني وزيرا للتعليم! هكذا بلا مقدمات، الغريب أنني لم أفرح، فمسؤولية التعليم من أكثر المسؤوليات إرهاقا لدرجة أنني فكرت في الاستقالة!، إلا أن "لا أحد" استجداني البقاء فرضخت، وبسم الله بدأت.. قررت أن أكتب على الفراغ مرئياتي عن الواقع والمأمول من التعليم، وقبل البدء في الكتابة اكتشفت أن "لا شيء" حولي أكتب به أو عليه، لذلك بدأت في إلقاء خُطبة إلى "لا أحد"، أذكر منها أنني قلت: سأكون شجاعا في قراراتي، فالمؤسسة التعليمية مُختطفة من قِبل قوى تُريد تسخير التعليم لتغذية توجهاتها، ها هي المُقررات الدراسية تُربي النشء على التطرف والنظر إلى الآخر بالكثير من الشك والريبة. سأغربل المقررات الدراسية من هذه المُلوِثات الفِكرية، سأقوم بتنقية التعليم من النزعات التكفيرية، سأعيد التعليم إلى فضاء الإسلام الرحب المُتسامِح حتى يتخرج الطالب مُقبِلا على الحياة، لا أن يتخرج والموت غايته الأسمى!
توقفت قليلا حتى أشرب الماء، لكنني لم أجد الكأس حولي!. وفي فترة الراحة أخذت أعيد التفكير في كلامي، كيف سأحقق ما أريد؟، كيف سأنتشل التعليم من براثن هؤلاء، دون أن ألقي به إلى فكي التنويريين الذين لم نجدهم قد برعوا إلا في إطفاء الشموع؟ كيف سأجعل الطالب مُتسامِحا مع الآخر - بتعقل - لأنه قد يتسامح للدرجة التي تجعله يذوب في ثقافة الآخر ومن ثم يبدأ في النظر إلى ثقافة مجتمعه أنها تخلف بالمُجمل!
وبعد طول تأمل، رأيت أن المعضلة الأساس ليست في انتشال التعليم من براثن الحركيين، إنما في انتشاله من سياسة التلقين، فالتلقين باختصار يعني أن الطالب سيتخرج من التعليم كما دخله أول مرة، عبارة عن صفحة بيضاء تعلوها آثار محو!، صفحة بيضاء كُلما كُتِب عليها حرف مسحه الطالب فور الانتهاء من الاختبارات، كأن التعليم هنا قائم على الحِفظ إلى أجلٍ مُسمى، ما بعد هذا الأجل يجب على الطالب أن يمحو ما حفِظه أولا بأول لأنه سيتلقى في المرحلة المقبلة معلومات أضخم، فإن لم يمح ما حفِظه سابقا لن يستطيع الحفظ من جديد! وهكذا يتخرج الطالب كصفحة بيضاء، فتتلقفه تيارات الشوارع لتُملي عليه ما تشاء، وسيستجيب بدوره لأنه في الأساس قد تخرج من نظام تعليمي لم يُعلِمهُ كيف يستخدِم عقله للتمييز بين الخطأ والصواب، بين الحق والباطل، نظام تعليمي لا يُعلِمه النقد البناء، ليس من ضمن المقررات مواد تختص بالجوانب الفلسفية والفكرية، حتى جدول الضرب في تعليمنا يعتمد بالكلية على الحِفظ رغم أنه ما وُضِع إلا لإعمال العقل!
إن المرء ليستغرب حين يرى الطفل ابن الأربع سنوات يوجه أسئلة فلسفية عميقة على شاكلة "لماذا؟ من؟ كيف؟ إلى أين؟" ثم تتوقف تلك الأسئلة فور التخرج من الجامعة! حتما التعليم هو السبب، لا لأن التعليم أعطاه الإجابات إنما لأنه قتل فيه الفضول.
يقول تعالى: (كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلوا عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون)، التعليم دائما يرتبط بالحكمة، أي أنه يُنمي في المتعلم القدرة على امتلاك الحِكمة، القدرة على تحليل كل الآراء والمواقف التي يتعرض لها، وهذا هو الضامن الحقيقي لأن يدخل المجتمع إلى المدنية والتقدم مع الحِفاظ على الهوية والتقيد بالإسلام دون التطرف في أي اتجاه كان.
انتهت فترة الاستراحة في رؤياي، فعدت أخطب في "لا أحد" عن الواقع والمأمول من التعليم، تقازفت أمامي الأفكار والأخطاء والحلول، ما بين ازدحام الفصول بالطلبة، وازدحام حقائب الطلبة بالكُتب، ثم ازدحام الكتب بالمواضيع، عملية حشو تلو حشو تخنق الطالب وتقتل فيه الاستيعاب. ولم أجد حلا للخروج من كل هذه الازدحامات في رؤياي إلا أن أستيقظ من النوم.
استيقظت من حلمي برؤية واقع تعليمي صحيح، لأجد الإعلام المرئي والمسموع، ومواقع التواصل الاجتماعي تحتفي بتعيين سمو الأمير خالد الفيصل، وزيرا للتربية والتعليم. الوزارة اليوم في حاجة إلى رجل شجاع، وسموه شجاع في اتخاذ القرارات، وسموه يمتلك الحكمة وهذا ما تحتاجه الوزارة أيضا، فماذا بقي؟. بقي أن ندعوا له بالتوفيق، فإن كانت مُجرد رؤيا جعلتني أفِز من نومي فكيف سيواجِه سموه واقعا ذا حقائب ثقيلة جدا؟


0 التعليقات :

إرسال تعليق