القصيمي الذي حاربناه


إن الإنسان ليس بسمكٍ نافِق، ولا قِطعةِ خشب يتقاذفها التيار كيفما شاء، إنه إنسان. ولأنه إنسان فمن الطبيعي أن يجرِفهُ التيار أحياناً ثم يُقاوِم الانجراف، أما من يستسلم للتيار يتلاعب به كيفما كان، فهذا لا يختلف عن السمكِ النافق أو عن قِطعةِ خشبٍ مُلقاة. وإن كان السائِد تياراً فإن السائرون عكس التيار كثيراً ما شكلوا تياراتٍ مُعاكِسه، لتتجمع العِصابات من كل اتجاه وتلتقى لتتصادم فقط، مُكوِنةً حولها مواجهات مريرة تجعل ثقافة الجميع ثقافة إقصائية الكل فيها يبحث عن مأوى يأويه -فالوضع أشبه بحرب- وفي الحرب لِزاماً على الجميع إما أن يكون "مع أو ضد" فالحِيّاد هلاك. إن الكل في معمعة الصراعات لا يُؤمِن بوجود حياة طبيعية خارج هذه التيارات، رغم أن الحياة الطبيعية هي تحديداً خارج فوضى هذه التيارات، هناك على حافة النهر.
وقد يكون "عبدالله القصيمي" أحد الذين أرادوا الوصول إلى حافة النهر، لكن هل نجح في الوصول أم لا؟، فربما قذفت به جميع التيارات حتى نجح في الوصول، وربما ظل يُصارِع كل التيارات إلى أن فشل في الوصول؟!، لقد حارب الجميع، وحاربه الجميع، حاربهم لأنه ليس "مع أو ضد" وحاربوه لعدم استيعابهم كيف لا يكون "مع أو ضد". تقدم ليُعري الجميع، وتقدموا لتكفيره والاستهزاء به، تبرؤا منه وتبرء منهم، ولا يزال الصِراع مُستمراً إلى اليوم!
كل التيارات المُتلاطِمة من كل اتجاه شنت الهجوم عليه واستصغار أفكارِه، لا لشيء إلا لأنهم كرِهوا أن يخرج بدوي من خلف كُثبانِ الرمل ليطرح أفكاراً أكبر منه ومن بيئته، الكل لا يُريد أن تخرج من خلف الكثبان إلا الأفكار البسيطة أو الأشواك، الكل تأقلم مع فِكرة أن رِمال الصحراء لا يجب أن تُنبِت إلا الأشواك أو اللاشيء، لهذا اتفقوا أنه من الأفضل للجميع عدم تشجيع "القصيمي" حتى لا تخرج من خلف كثبان الرمل عقليات أكثر حِدةً وغضب منه.
أما الاتهامات التي نالت القصيمي، فكأنها قد أطلقت عليه ليرتاح الجميع من عناء البحث خلفه، قالوا أنه فُتِن وأنه هلُك وضل وتاه وأصابه الخَبَال، أرادوا أن يُلصِقوا به أي تُهمة حتى يُطمئِنوا أنفسهم بأن الخلل فيه لا فيهم. إن المُفكِرين يا سادة يتعاملون مع الأفكار كما يعمل الكيميائي في مختبرِه، يُجرِب أكثر من تركيبة ويخلِط أكثر من عنصر كيميائي حتى يخرج بالتركيبة الصحيحة، إلا أن المُفكِر لا يصل للحقيقة لإيمانه بأن الغاية هُنا ليست الوصول إنما مجرد البحث عن الحقيقة هو الغاية، هذا البحث عن المعنى هو ما يُضفي لحياته معنى، هذا البحث الشاق يجعل المُفكِر يُؤمِن بكل شيء ثم لا يُؤمِن بأي شيء، يُفكِر بعقلية كلها شك رغم أنه على يقين. لهذا، أن يُوصف "القصيمي" بأن له توجهً مُحدد كأن نقول بأن ليس في الكِيمياء إلا عُنصراً واحد!.
أدرك أن للقصيمي أخطاء، وأنه ليس بتلك العقلية التي أعادت ترتيب أفكارنا، ولست هنا لأتغنى به، إنما لأبيِّن أننا نخسر الكثير وراء مُعادات المُفكرين، إن الأرحام لم تتوقف أبداً عن إنجاب المُفكرين لكن الوضع العام يئِدُ كل من يُفكِر قبل أن تُراوِده فِكرة أن يُفكِر!. كُل تياراً لديه ضوابطً يُقيد بها العقل، ثم يعتقد كل تيار أن ضوابِطهُ هي الأحق بالالتزام، ومن أجل فرض هذه الضوابط تم إنشاء "محاكم تفتيش" داخل عقل الإنسان مهمتها وأدُ الفِكرة قبل نشوء الفكرة!. هذا هو بيت الداء، الضوابط التي ما أنزل الله بها من سلطان والتي نجحت في جعل العقل العربي عدائياً على الدوام.
إن الأمم لا تنهض إلا حين تتنحى عن طريق المفكرين، حين تتركهم يُفكرون بهدوء، وهي لا تتركهم يُفكِرون بهدوء لأنهم يُفكِرون بعيداً عن ضوابط الجميع!، إن أي أمة تُعادي المُفكرين سيُشغِلُها أمر مُعاداتِهِم عن أي تقدم للأمام، أي أمة تترك الجُهّال يركضون خلف المفكرين بالحجارة ستنحدِر أكثر، لأنها بهذا تكون قد ولّت أمرها بيد من لا يُفكِر إنما بني قناعاته بالتلقين.
القصيمي أو غيره من المفكرين، هل هم الشياطين فعلاً أم إن الشياطين نجحت في جعلنا نستعيذ بالله من المُفكرين؟. هذا "ابن رشد" مات منفياً، و "الأندلسي" مات مقهوراً، و "ابن المفقع" مات محروقاً، و "الحلاج" مات مصلوباً، وقاتل "فرج فودة" لم يقرأ له كلمة واحدة لكنه تقدم لقتله إحقاقاً للحق!، أي حق هذا؟.
هل نخاف من اللامألوف الذي يطرحه المُفكِر، أم نخاف أن نكتشف بأن المألوف الذي ألِفناه "مقيت"؟. هل نخاف من المُفكِر، أم نخاف أن يأتي بفِكرة يُحرِك بها الماء الآسِّن؟. هل نخاف أن يتمادى المُفكِر في كشف الحقائق، أم نخاف أن يكشف عن حقيقتنا التي نسترها  بملائكية كاذبة؟، أم يُريدنا الجُهّال أن ننفض التراب الذي خُلِقنا منه؟ .. ما الذي يُخيفنا في المُفكِرين بالضبط؟، ولماذا كُلما أطل أحدهم علينا حاربناه؟

0 التعليقات :

إرسال تعليق