عبادة "تكسيِّر العود"


[ سيصرخون ضد الغناء، وسيغني الشعب. سيصرخون ضد الموسيقي، وسيطرب الشعب. سيصرخون ضد التمثيل، وسيحرص علي مشاهدته الشعب. سيصرخون ضد الفكر والمفكرين، وسيقرأ لهم الشعب. سيصرخون ضد العلم الحديث، وسيتعلمه أبناء الشعب. سيصرخون ويصرخون. سيملأون الدنيا صراخا. سترتفع أصوات مكبرات صوتهم وستنفجر قنابلهم، وتتفرقع رصاصاتهم، وسوف يكونون في النهاية ضحايا كل ما يفعلون، وسوف يدفعون الثمن غاليا حين يحتقرهم الجميع، ويرفضهم الجميع، ويطاردهم الجميع ]

"فرج فودة"





"الأندلس" عانت من اختلاف المسلمين وتفرقهم، من تخلي العلماء عن أداء واجبهم، من تحالف الزعماء مع أعدائهم ضد بعضهم البعض، كما وقد ساءت الأخلاق في ذلك الوقت إلى أن أصبحت الأنانية وحب الذات قيماً سائدة، انتشرت الرشاوى والسرقات ونهب المال العام، أُرهِق الناس بالجبايات، عمّت الاضطرابات السياسية والاقتصادية الاجتماعية.
ثم وفي وسط كل هذه المعمعة، وسط كل هذه الفوضى، هنالك من أغمض عينيه عن كل هذه الرزايا وراح يضع كامل اللوم على رأس الرجل الأنيق "زرياب" لا لأنه متسلط فاسد أو تاجر جشِع أو من آكلي لحوم البشر، لكن لأنه موسيقي يعزف على آلة العود!. هذا هو ذنبه الذي جعله مسؤولا عن سقوط حضارة كاملة!.
أصحاب تلك العقول الصغيرة قد حملوه كامل مسئولية سقوط الأندلس إعتقاداً منهم بأنه لا ذنب أعظم من العزف والغناء، لا متسبب أخر في غرق السفينة!

لقد عاشت الأندلس آخر أيامها (قِلة أدب) فعلية وعلى جميع المستويات، لكنهم رأوا أن الأدب الذي دعا إليه "زرياب" هو الخلل الذي يجب القضاء عليه بأي ثمن، أن اللباقة التي راح يعلمها للناس في المأكل والملبس والحديث والغناء والعزف هي الحالة الشاذة بين هذا العبوس العام.
وبمنطقهم من الطبيعي أن يكون هو السبب الوحيد، فهم في وسط تلك الفوضى قد ألِفوا الضجيج والصراخ للدرجة التي فيها ينزعجون جداً من أعذب الألحان!

ويبدوا أن ذلك الخلل الفكري القديم يتم توارثه جيلا بعد جيل، يبدو أنه داء ينتقل عبر الجينات إلى اليوم، وإلا فكيف نجد تفسير منطقي للحالة التي نعيشها اليوم، حيث تقام كل عام حفلات هستيرية لا هدف منها إلا تكسير آلة العود والصراخ بالتكبير، وكأنهم قد حققوا بكسره نصراً مُبيِّن!.
ونحن الآن على أبواب إجازة، وليس رجماً بالغيب إن قلنا أن هذه الإجازة لن تكون إستثناء، ستُقام مهرجانات وفعاليات عديدة، وستكون الفقرة الرئيسية بلا منازع في هذه الإجازة "فعالية تكسير العود"، سيتم إحضار الكثير من ألات العود لكسرها وحرقها أمام الجموع، وسيتبع كل هذه الهستيريا سجود جماعي لله –سبحانه- أنه مكّن لهم كسر هذا الصنم ذو الأوتار!.

***

إنما الفن يا سادة عنصر من العناصر التي يتكون منها كل مجتمع، إنه أداة ضمن مجموعة أدوات تقوم بتشكيل ملامحه، إلا أنه يتميز عن بقية الأدوات بكونه الأداة المختصة بقياس نسبة المحبة والتسامح في المجتمع.
يُمكِن القول بأن المجتمع الذي يكره الفن هو مجتمع كارِه للحياة، ومجتمع يكره الحياة من الطبيعي أن ينظر للإحساس المرهف والصوت العذب على أنه ذنب عظيم يستوجب التوبة والأوبة العاجلة على خشبة المسرح وأمام الجمهور، ليأخذ العِضة والعِبرة ويتعلم بأن الصوت العذب مُنكراً لا يجوز!
وإن الغريب في كل هذه المسألة، أن هذه الفعاليات والمهرجانات الدعوية لم تعرض حتى الآن تاجراً وهو يبكي وينوح ثم يُعلِن عن توبته من جُرمِ الجشع واحتكار السلع، كذلك لم تعرض مسؤولاً وهو يُعلِن عن ندمه بسبب تعطيله لمصالح المواطنين، أيضاً لم تُقدِم على المسرح تكفيري أو متطرف ليحكي بألم عن فهمِه القاصر للدين حتى يتعظ الجمهور من قصته.
كل الذين تم دفعهم إلى خشبة المسرح ليعلنوها توبة صادقة والدموع تنهمر من أعينهم، هم أفراد لم يبلغ بعضهم سن الرشد وبعضهم في فترات المراهقة ومن شب منهم ونضج أخذ يعزِف بنشاز على ألة العود!، هؤلاءِ هم عُتاةِ المجرمين في وطني.

إن المشكلة ليست في كون الموسيقى حراما، أو في كون المعازف مزاميراً للشيطان، المشكلة أنه لم يعد هنا من حرام أعظم من الموسيقى، المشكلة أن أصحاب هذه العقول لا يرون الشيطان الرجيم إلا عازِفاً متمكناً من أوتار العود، وكأن اللعيِّن لا يقوم بمراجعة المؤسسات والدوائر ليوسوس بالرشوة وتعطيل المصالح، بل وكأنه لا يُقدِّم للشباب الغض أسلحة كلاشينكوف ويدربهم على صناعة المتفجرات ليمارسوا قتل المخالفين والعصاة تعبداً لله، كأن الرجيِّم لا يتمايل طربا على أنغام هذا الجنون العام!.

لقد سمعنا وقرأنا كثيرا عن متطرف متشدد تحول فجأة وبلا مقدمات إلى الإلحاد، وليس أي إلحاد إنما الإلحاد الذي لا يحمل صاحبه سوى الكثير جداً من الشتائم والسخرية بكل ما يرتبط بالدين. إن هذا لم يضِل أو ينحرف إنما قد تعرض للكسر والسحق، لقد تعرض للكسر بسهولة لأنه في الأساس كان يعتنق ديناً لا مكان فيه للترفيه، ديناً لا يعترف بالفن ولا يُقيِّم وزناً للصوت الجميل، ديناً الضحِك فيه يستوجب الإستغفار، واللهو فيه باباً للمعاصي والفجور، ومن كان على هذا الدين سيتحول عاجلاً أم آجلاً إلى خشبة جافة تنكسِر بلا مجهود.

***

إن كل هذا الكره للحياة، كل هذا التكسير والحرق للآلات الموسيقية التي تمارس أمام الجمهور، كل هذه الثقافة التي تنظر للفن أنه أداة الهدم الوحيدة، وأنها العائق الوحيد أمام التقدم والتحضر.
كل هذه المسألة غير طبيعية أبداً ولا حتى صحية ولا منطق فيها أبداً، لأن بديل الفن المسؤول هو الموت، والحديث عن الموت، وعن القبر وعذابات الجحيم، بديل الغناء المتزن هو البكائيات والآهات واللطميات، وأناشيد تجمع بين الفن الرديء والموعظة الفارغة.
ولا أستبعد أن يأتي أحد هؤلاء الذين يتعبدون الله بكسر آلة العود بعد أعوام ليحكي أمام الجمهور، أنه عاصر أقواما كانوا يتخذون من آلة العود أصناماً تُعبد من دون الله، وأنه رأى بعينيه كيف يسجدون للعود ويتبركون بأوتاره، وأنه سمع بأذنيه لهذا الصنم ذو الأوتار خُواراً كخُوار عجل بني إسرائيل، ثم سيختم بقوله: لقد إنضممت حينها إلى ثُّلةً مؤمِنة وأخذنا نتعبد الله بتكسير آلة العود وحرقها حتى لم يبقى عوداً سليم، ولولا فِعلنا هذا لغدا الإسلام أثراً بعد عيِّن.
وحتماً، سيُصفِق له الجمهور بحماس منقطع النظير، لأن الخلل العقلي سيتم توريثه كالعادة.