هيبـــة القرآن

قبل البدء، هذا ليس ردا على تلك الاعتراضات الواردة تجاه حديثي السابق، حين قلت إن هيبة القرآن في نفوس أغلب المسلمين اليوم هي هيبة شكلية فقط، هذا ليس ردا، رغم أن كل اعتراض له كامل التقدير، إنما هي ملاحظات ساقتني إليها تلك الاعتراضات، مجرد ملاحظات تحتمل الخطأ أكثر مما تحتمل الصواب، وكلنا ذلك الخطّاء.
 
يقول تعالى مُخبرا عن نبيه -عليه الصلاة والسلام- (وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا)، في الآية الكريمة فعلان متضادان "الأخذ" و"الهجر" مصدرهما فاعل واحد "قوم النبي"، لفعل الأخذ دلالات عديدة منها "سلب العقل والفؤاد، الانبهار، التمسك بالشيء"، ومن يقول إن المسلمين اليوم غير متمسكين أو مبهورين بالقرآن فهو يُكذب الواقع، ففي الواقع لا تكاد تخلو منطقة في كل بلاد الإسلام من حلقات تحفيظ وتجويد وتلاوة وحفظ كتاب الله، بالإضافة إلى كل أولئك الأفراد المعنيين بسبر آيات القرآن لاستنباط مكامن الإعجاز فيها، كل هذا وأكثر يدخل ضمن فعل "الأخذ" الوارد في الآية، والأخذ بهذه الطريقة لا بد وأن يزرع في نفوس الآخذين كامل التقدير والتوقير والاعتزاز.
 
رغم كل هذا الأخذ وبدلالة الآية كما سيخبر النبي -عليه الصلاة والسلام- شاكيا ربه، نجد الفعل "هجر" موجودا بقوة في واقع المسلمين بالتزامن مع الفعل "أخذ"، وإن وجود الفعلين معا رغم التعارض يقودنا إلى أن الملامة في الهجر تقع على أسلوبنا المُتبع في الأخذ، لأن الأخذ بالقرآن حين يكون الغالب عليه هو الحفظ والتجويد والتلاوة يصبح حينها أخذا شكليا، حينها مهما حفظنا ورتلنا لن نغدوا قرآنيين، ومهما تحرينا الحلال والحرام فهذا لا يعني أننا نسير على نهج القرآن، إن كل هذا يُعد بمثابة الأخذ الشكلي للقرآن، وهو أخذ مطلوب إلا أنه حين يكون الأخذ المهيمن فهو إذاً أخذ من باب المتعة والاستئناس، وتجميع الحسنات حتى ننال الدرجات العلى، وهي غايات سامية إلا أننا نريد الوصول إليها مروراً عبر واقع منحدر لا نهتم بانحداره.
 
إن الغالب في تعاملنا مع القرآن أنه تعامل مبني على أمانٍ، أمانٍ بالجنان والحور العين والعسل المصفى، إننا نأخذ بهذا الكتاب هربا من الواقع، لا لتجميل وتحسين هذا الواقع، الذي تشهد به أخلاقنا وسوء حالنا أن هيبة القرآن في نفوسنا هيبة شكلية لا أكثر، إن "القرآن" اليوم يعد سبيلا نتجاوز به مرارة الحاضر لنفوز بجنة الخلد ونعيم لا يزول، وعلى أرض الواقع لا أحد يكترث بالواقع.
 
المحور الآخر لتحول هيبة القرآن إلى هيبة شكلية يتضح من خلال شروح وتفاسير الآيات، كالآية أعلاه التي أوجد حولها المفسرون كثيراً من الشروح المتضادة المتعارضة، فبين قائل إن "قومي" في الآية تخص قريش، وقائل بأنها تخص المسلمين، وقائل بأنها تحتمل المعنيين، بين قائل بأن "الأخذ والهجر" كل منهما فعل بذاته، وقائل بأن الأخذ فعل والهجر مفعولاً به، وبين قائل بأن الآية تتحدث فقط عن خبر ما كان، وقائل بأنها تحدثت عن خبر ما كان ويكون وسيكون.
 
إن كل هذا التعارض والتضاد لدى المفسرين دلالة على أن باب التدبر والاستدلال كان مفتوحا على مصراعيه أمام كل من رأى في نفسه القدرة، حين كانت للقرآن هيبة فعلية وكان الاجتهاد جائزا، وفور تحول الهيبة إلى شكلية أغلق باب الاجتهاد، ربما أغلق خوفاً من وقوع أخطاء أو منعاً لأي تعارض محتمل في الآراء، والعجيب أن الذين استطاعوا الولوج إلى الاجتهاد من شيوخ وطلبة العلم لا يجتهدون، إنما يجترون اجتهادات السلف طلباً للسلامة، لا طلبا للحق! وبهذا وعلى الرغم من كثرة المنشغلين بالقرآن نراه مهجورا، لأن شرط الانشغال به اليوم البكاء على الأطلال، مع أن القرآن يحذر من الالتفات إلى الوراء حتى لا تهوي الأقدام.
 
الأمر الرئيس الذي يصادف الباحث في هذا الأمر، هو التحول في التماس الهدي من غير القرآن في أحايين كثيرة، إنها دائرة تاريخية تتكرر ونحن ندور فيها مع الدائرين مصداقاً لقوله -عليه الصلاة والسلام- "ولتسلكن طريق من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، وحذو النعل بالنعل"، وإن من كان قبلنا (جعلوا القرآن عِضِين) و"عضا الشيء جزأه ثم فرق أجزاءه"، ونحن حذونا حذوهم حين تلبستنا منهجية تعضية الوحي المنتشرة في الأمم السابقة، حيث تُجزأ المعاني والمقاصد خلف النص الصريح إلى أجزاء بعضها حق وبعضها تحكمه ظروف المُجزئ ومصالحه، وهنا تأتي مرحلة تجزأة الأجزاء "عِضِين" للتنقية والتصفية، في الأخير أصبح لكل جزء ومجزئ أتباع وأنصار يُقسمون أنهم للنص الصريح أقرب!
 
وهكذا حين فشل الشيطان في تحريف القرآن، نجح في تحويل هيبته إلى هيبة شكلية، نجح في ألا يجعله الكتاب المُهيمن رغم تعظيم النفوس له والاعتزاز به، لأن الواقع يقول إن هنالك عشرات وربما مئات الكتب والتفاسير التي تنازع القرآن في الهيمنة على أرض الواقع.

"حسن فرحان" و"عدنان إبراهيم"، مفكران أم ... ؟

أحدهم كتب تغريدة قال فيها: كلما قارنت بين "عدنان إبراهيم" و"حسن فرحان المالكي"، وبين بقية الشيوخ والملالي، مالت الكفة لصالح "عدنان إبراهيم" و"حسن فرحان". فرددت عليه: قارنهم إذا بالمفكرين الإسلاميين حقا وسترى كفة الميزان كيف تتغير.
على الرغم من أني لا أحب عقد المقارنات بين الأشخاص؛ لإيماني أن لكل فرد ميزاته وعلاته التي يتفرد بها عن الآخرين، إلا أني سألجأ هنا إلى عقد مقارنة بسيطة حتى تصل الفكرة.
 
أحمد ديدات، مصطفى محمود، علي الطنطاوي، علي شريعتي، محمد الشعراوي.. إلخ من الأسماء الرائدة في مجال الفكر الإسلامي، ولا يوجد بينهم مشترك أبرز من ثبات الشخصية، عدم التذبذب الحاد بين الصعود والهبوط، لم أجد لأي من تلك الأسماء أي اضطراب في الشخصية أو الآراء، وهذا للأسف ما لا يوجد في المفكرين الجديدين: عدنان إبراهيم، وحسن فرحان المالكي.
 
من تابع ويتابع كقارئ أو مستمع هاتين الشخصيتين سيجد نفسه أمام مفكريَن عميقي الرؤيا واسعيَ الاطلاع، لكل منهما اتجاهه، كليهما لديه مَلكة ذهنية متقدة، وسعة حفظ وقوة ذاكرة، كلاهما متبحر في الكثير من العلوم الشرعية والتاريخية والاجتماعية، صفات تؤهلهما أن يكونا فيلسوفين بامتياز، لكن هيهات.
 
عدنان إبراهيم من أعظم حسناته، أنه أعاد لمنبر المسجد هيبته، أنه أخرج المنبر من ذلك الصندوق الذي حُشر فيه ردحا من الزمن، خرج به من أحاديث الطلاق والنكاح والإرضاع والطاعة العمياء، أخرجه من مواعظ الترهيب والترغيب وتبديع الآخرين وتكفيرهم، لقد رسم صورة جديدة تختلف عن خطيب الجمعة الذي يحفظ أكثر مما يفهم، يخطب إلى أن يترك نصف الحضور مشغولا بمتطلبات الحياة والنصف الآخر يغط في نوم عميق!. بينما نجد عدنان إبراهيم قد انطلق بالمنبر إلى الفلك والفيزياء والفلسفة والتاريخ وطبائع الإنسان، بأسلوب سلس بسيط وعميق.
 
حسن فرحان المالكي له حسنة أعظم، أنه أعاد للقرآن هيبته، أنه أعاده إلى الواجهة، وجعله المرجع الأساس، والحكم الأول في كل شأن، وهذه قمة الشجاعة، فالغالب اليوم في الثقافة الإسلامية رغم تعظيم المسلمين للقرآن، إلا أن التقديس أحيانا يذهب إلى الشروح وشروح الشروح، وهي اجتهادات فردية حلت قداستها محل الآية موضع الشرح!.
 
عدنان إبراهيم وحسن فرحان المالكي، هما بحق حالة خاصة تجمع بين سعة العلم وعمق الفهم والشجاعة، المفارقة ـ وهنا يأتي الشك في هاتين الشخصيتين ـ أن كل سعة العلم وعمق الفهم والشجاعة تختفي فجأة، لتظهر شخصيتان مغايرتان تماما، شخصيتان غارقتان في الشتات والتيه والتخبط، وكأن هنالك زرّا، ما إن يتم الضغط عليه حتى يسقط من كان في القمة منهما إلى القاع فورا وبلا مقدمات.
 
عدنان إبراهيم الذي يتخذ من العقل قاضيا له على كل أمر، هذا الرجل الذي يُقنع المستمع بالمنطق أن العقل هو الميزان، نراه فجأة ينحدر إلى منطقة اللا عقلانية أبدا، إلى منطقة لا منطق فيها على الإطلاق، وكيف أنه حين كان يتفكر في ماله أحلال هو أم فيه شبهات أتاه SMS باللغة الألمانية يخبره أن كل أمواله حلال! وكيف أن والده رأى في المنام أنه يُؤذن وحين استيقظ وذهب إلى المسجد جاءه أحد المصلين وسأله: لماذا تُنغم في الأذان؟! وكيف أن جماعة من الجن قدموا إليه طالبين منه الدعاء لهم، هذا بغض النظر عن عقدة الأنا التي دائما ما تردي بالرجل إلى القاع.
 
أما حسن بن فرحان الذي يتخذ من القرآن حكما له في كل أمر، نراه لا يُحكمه إلا ما ندر فيما يخص المذهب الشيعي!، هذا التناقض غريب عجيب، وأمر لم أستطع إيجاد تفسير له، فهو كالأسد حين ينتقد المذهب السني، وكالحمل الوديع حين يتحدث عن المذهب الشيعي. والمفكر عليه أن يتحلى بالإنصاف والوقوف على الحياد، كما وقف المفكر الشيعي علي شريعتي على سبيل المثال، هذا بغض النظر عن عقدة الماضي التي تلازم الشيخ في كل شأن حتى إنه ندم حين سمى صغير الضأن الذي كان يملكه باسم "مروان"!.
 
وإن كانت "النرجسية" علة الأول، وهي علة أحيانا ترافق المفكرين والفلاسفة، إلا أن الله أعلم العالمين بعلة الثاني.
 
سأضع القلم، وسأكتفي بطرح السؤال المعنون به المقال: "مفكران أم…؟"، وضع عزيزي القارئ مكان النقاط الثلاث ما شئت، إن شئت فقل: مجنونَين أو مضطربَين أو غير سويَين، أو قد يكونان سويين، وما بهما من علل ليست إلا عللا ترافق المفكرين والفلاسفة في كل زمان ومكان، وإن كانت كذلك فعلا، فكيف تحلى المفكرون الإسلاميون الواردة أسماؤهم في المقال بالاتزان؟!

"بنو جام"

لست هنا لتقييم فرقة أو طائفة، إنما للبحث عن ثقافة الطاعة، أتحدث عن "الجامية" كفِكر ونهج تغير تماماً وتوسع كثيراً حتى تخطى حدود الجماعة السلفية المحدودة التي ظهرت على يد الأستاذ الشيخ محمد أمان الجامي -رحمه الله- حتى أصبح كثير من الأدباء والشعراء والرياضيين والمثقفين وغيرهم أعضاء بارزين في جماعة "الجامية"، وإن من بعيد.

إن من يقرأ عن "الجامية" أو يقرأ لها، سيجد تطرفاً في كلا الاتجاهين، فخصوم "الجامية" قد شيطنوها، وهي في المقابل قد شيطنتهم. اتهامات مُتبادلة في كل الاتجاهات، وتراشق بالألفاظ قد أصاب الجميع، وركيزة كل الجدالات تدور حول مفهوم "الطاعة" هل هي عمياء أم نسبية؟ فهل هي عمياء أم نسبية؟ لا يهم.

المهم أن هذا الكم من الجدالات قادر على ليّ أعناق الحقائق كلها، قادر على تزييف الوعي كاملا، فإن صح ما يُقال عنها أو لم يصح، إن صح ما ينُسب إليها أو لم يصح، وسواء أكانت على حق أم على باطل، تبقى الحقيقة أن "الجامية" اليوم ليست ما كانت عليه بالأمس، فالأفكار قد تبدلت والخصوم استناروا والوصول إلى المعلومة بات أسرع من الخاطر. اليوم ما عاد مجنون بني عامر "قيس" مستفرداً بالغناء إلى ليلى، فكل بات يرى أن من حقه التقرير بين خطب ود ليلى أو الامتناع عن خطب ودها.

"الجامية" اليوم ما عادت محدودة بحيِّز جغرافي محدد "الخليج"؛ فقد تفرعت وتوسعت كفِكر في الوطن العربي كله، حتى اختفت ملامحها الأولى تماماً، وباتت تحمل ملامح جديدة تكاد لا تُشبهها، والسر في هذا الانتشار، لا أراه يعود إلى قوة الطرح، إنما لمحاكاة هذا الفِكر لطبائع الإنسان، فالإنسان الذي جُبِل على مفاهيم كالحرية والرغبة في الاستقلالية، هو نفسه الذي يحمل هم تحقيق مصالحه كطبع أصيل، هذان الأمران في الإنسان دائماً في حالة تعارض، وغالباً تنتصر المصلحة على حساب الحرية.

إذاً، يُمكِن القول: إن الفِكر الجامي اليوم، تحول إلى فِكر غايته تحقيق مصلحة، تحول إلى فِكر يحمله غُلاة لا مُصلِحون كما بدأ الأمر، غُلاة يؤمِنون بأن كل مسؤولٍ لابد وأن يُطاع كواجب شرعي وأن في عدم طاعته خروجا عليه، كما حدث مع "القذافي" الذي أنكر السُنة وحرف القرآن وشتم الصحابة، ثم جاء من يُصرِح علانية بأن من لا يُطيعه فهو من الخوارج!

لابد للجامية في الوطن العربي، أن يعودوا إلى منطقة الاعتدال في الطرح، فغلاتهم قد شوهوا صورتهم في أعين الكثيرين، لا بد من إعادة غربلة لكل هذا الفِكر، يقول تعالى: "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم".. الآية تقول: "منكم" وغلاة "الجامية" قد حولوها اليوم إلى "عليكم"، وهذا تغيير بسيط في الشكل، لكنه عميق جداً في المعنى.

"منكم" لها معان متعددة منها، أولو الأمر الملتزمون بأمر الله ورسوله كما أشارت الآية، والله يأمر بالعدل والإحسان وينهى عن الفحشاء والمنكر، بينما "عليكم" لها معان أخرى تشمل كل مسؤول حتى الآمِر بالفحشاء والمنكر، الناهي عن العدل والإحسان، "منكم" فيها رحمة ومساواة بينما "عليكم"، من لفظها تظهر فيها معان كلها تسلط، وغلاة "الجامية" اليوم باتوا يرون كل ولي أمر مُطاع وإن كان متسلطاً على المسلمين.

لماذا الحديث عن "الجامية"؟ لما طالها اليوم من تشويه، تشويه من الداخل والخارج، تشويه لا يخدم مصلحة هذه الفرقة التي بدأت بأفكار معتدلة جميلة وأضافت الشيء الكثير، تشويه إذا ما استمر، فلا متضرر إلا واقع المسلمين.

إن جيل اليوم لن يقتنع بتلك السهولة، إنه جيل مختلف، يسأل ويسأل، وبين السؤال والسؤال يضع ألف سؤال، يسأل عن حدود الطاعة الواجبة، وعن صفات المُطاع، وعن نهج الطاعة، عن الفرق بين الطاعة والانصياع، جيل اليوم يسأل: هل الطاعة عمياء أم نسبية؟ فإن كانت عمياء سيعدها رزية، أما إن كانت نسبية فكل حديث حينها مباح.

في الختام: "الجامية" لم تأت بشيء جديد، هذه حقيقة على خصوم "الجامية" تقبلها، فمفهوم الطاعة في ثقافاتنا يزيد بمراحل عما تعرفه معظم الثقافات الأخرى، إنها قيمة اجتماعية نعتز بها، فضيلة نتمسك بها حفاظاً على بنيان المجتمع بشكل سليم، كل ما في الأمر أن الطاعة في زمن التِّيه البائس باتت قناعاً يُخفي وراءه كل معاني الانصياع، كل ما في الأمر أن نُعيد مراجعة مسلماتنا واختبارها من جديد، وفي طريقنا فلنعد إلى مفهوم الطاعة ملامحه التي تاهت وسط غبار معارك "الجامية" وخصومها.

خواطر "داعشية"

ذهب رمضان والناس فيه كانوا بين قارئ للقرآن، وساع لإفطار الصائمين، ومعتكف في مسجده، إلا أنني في رمضان هذا العام، وبلا قصد أو تخطيط، رحت أتابع المقاطع المنسوبة إلى "داعش" بشكل شبه يومي، حتى أصابتني البلادة تجاه مناظر الدم، وبدأت أعتقد أن كل هذا القتل للترفيه!.
لماذا الوحشية المفرطة في القتل؟، لماذا الإصرار على إبراز هذه الكمية من الجهل بالدين؟، لماذا العودة إلى مصطلحات قد اندثرت "الإمامة العظمى، الخلافة، الجزية"؟، أسئلة تقود في الأخير إلى أن الأمر كله فعلا ترفيه، لا لترفيه المشاهد البسيط، إنما لترفيه شياطين السياسة من بشار إلى إيران مرورا ببعض العلمانيين والمتأمركين، جميعهم فرحون مستبشرون بكل هذا القتل الداعشي.
إن "داعش" ليست أكثر من فقاعة وستنتهي قريبا، وحين تنتهي لن يهتم أحد بأمرها وأمر كل أفرادها وأمرائها، سواء قُتِلوا أو زُج بهم في غياهب السجون، لا أحد سيهتم، إلا أن الأثر الذي ستُخلِفه "داعش" هو الثمر الذي يتلهف الجميع إلى قطفه، وإنهم لقاطفوه كما قطفوه مرارا وتكرارا، فدائما ما إن تنتهي فقاعة إسلامية من عملها حتى تكون هنالك مبادئ شيطانية وأهداف سياسية والكثير من الاستبداد قد تحقق على أرض الواقع، أما الجماعة المنفدة فليس لها إلا خفي حنين والكثير من الشتم.
بشار الأسد وإعلامه وحسن نصرالله وإيران وبعض الساسة العرب، الكل كان يروج لفكرة أن حزب البعث يحارب الإرهاب في سورية، وحين لم يكن على أرض الواقع سوى شعب أعزل يُباد، ظهرت "داعش" لتُؤكِد على صحة ما قاله كل شيطان، أي إن مهمة "داعش" الرئيسة أن تُعيد الشرعية لكل من فقد شرعيته، ولهم في القتل مآرب أخرى.
كل ما سبق لا يحتاج إلى توضيح؛ لأنه واضح للجميع، فخدمة الشياطين كانت المهمة الرئيسة لأغلب الجماعات الإسلامية، إلا أن ما جعلني أندهش فعلا، هو حالة الاستغراب التي اعترت بعض الكُّتاب والمفكرين والمحللين السياسيين ورجال الدين، لماذا يستغرب كل هؤلاء من "داعش" وأخواتها "الميليشيات الشيعية والسنية"؟، هل كانوا يتوقعون مثلا ظهور جماعة إسلامية تقوم بتوزيع الورود والابتسامات على المسلمين؟
ماذا نتوقع ونيران المعارك بين أتباع المذاهب المختلفة لا تنطفئ؟، ماذا نتوقع وأتباع كل مذهب قد حولوا مبادئ وقيم مذهبهم إلى سجن يُزج فيه التابع من المهد، ويُمنع عنه حق الرفض وحرية الاختيار؟، ماذا نتوقع والشعائر في أغلب المذاهب حادة، إما أن تلتزم أو تُشوى في نار جهنم؟، ماذا نتوقع وكل جماعة تزعم أنها الفرقة الناجية والآخرين من الهالكين؟
إن "داعش" وأخواتها هي النتيجة المتوقعة والمنطقية لكل هذه الفوضى التي نعيشها، بل لو لم تظهر أي من هذه التنظيمات حينها يحق لنا أن نستغرب، فإسلام اليوم يعيش فوضى الانتماءات وصراعات دامية على القشور ومبالغة في الالتزام بالمظاهر، وفي مثل هذا الجو العاصف طبيعي أن يكون الفرد مهيأً للانقياد الأعمى خلف كل ناعق، ولو أضفنا إلى ما سبق الكثير من الجهل والبطالة والفساد، سيتضح بأن ها هنا حشودا مهيأة لأن تكون بيادق في كل صراع دموي.
بيادق من شباب المسلمين، فيهم الغني والفقير، فيهم الجاهل والمتعلم، يعنيني هنا وفي المقام الأول هؤلاء الشباب "البيادق"، كيف تحولهم تلك الجماعات إلى وحوش تقتل وتعذب بلا رحمة؟، كيف تجعلهم يجمعون بين كل الممارسات البشعة المقززة من قتل وصلب وخنق ونحر وبين صيحات التكبير وترديد آيات القرآن وأناشيد الجهاد؟، هل هؤلاء الشباب "أبناؤنا" يخبئون هذه السادية عميقا داخل جلودهم بينما هم معنا؟، أم إن تلك الجماعات تعرف كيف تبدل جلودهم وتقلبهم علينا؟
كيف يكون طريق أحدهم إلى الجنة مفروشا بالأحقاد؟، كيف يكون الطريق إلى نعيم لا يزول كله بغضاء؟، أدرك أن قادة "داعش" وأغلب هذه التنظيمات يُنفِذون أجندة الشياطين، لكن غالبية الشباب المنتمون لمثل هذه التنظيمات غايتهم الفوز بإحدى الحسنيين بكل سذاجة.
إنهم لم يُولدوا هكذا، لم تحولهم الظروف إلى وحوش، فكم جاهل لم يتطرف!، وكم عاطل عن العمل لم يكره الجميع! إن الإنسان يمتلك القدرة على إذابة كل الظروف الصعبة وتقبلها والعيش معها والتعلم منها، لكنها جرثومة تُصيب عقل البعض لتتركه عاجزا عن إذابة كل هذا الشتات الذي يعيشه.
الخلل فيهم، بأيديهم يحولون أنفسهم إلى وقود لمعارك لا ناقة لهم فيها ولا جمل، إنهم حين عجزوا عن الاستفادة من مرارة واقعهم، أعلنوا السخط عليه بالكامل، والسخط على الواقع دائما يأتي مصحوبا بشوق إلى واقع في عرف المجهول، واقع كله أمنيات، حيث العدل فيه مطلق، عدل مرهون بالخلافة، واقع حيث الخليفة فيه يفرض الجزية على باقي الأمم بكل كبرياء، واقع حيث يمارس فيه المسلم دور القاضي والجلاد في آن.
إنها جرثومة الفرار من حاضر سيئ إلى مستقبل أسوأ، إنهم يمنون أنفسهم بغد أجمل حسب الشروط، وهذا هو المدخل لتجنيدهم في تنظيمات مثل "داعش"، التي توهمهم بقدرتها على تحقيق ذلك المستقبل الجميل وإن كان الإسلام فيه مشوها غريبا.

أنا وابن عمي والغريب على غزة

أحياناً تأتي الفكرة إلى المرء فيكتب، وهذا ما يعرف بالإلهام، أحياناً تكون الكتابة مجرد روتين فيكتب المرء بلا روح، أحياناً تأتي الكتابة من أجل المادة أو مسح جوخ. أحيانا وأحيانا وللكتابة أحايين لا تعد وغايات لا تحصى، اليوم سأكون عاطفيا وسأنتقي الاستفزاز كدافع للكتابة، سأكتب -عن وليس إلى- عن الذين يستفزون الجميع لا إليهم، لأن الكتابة إليهم لن تجد آذاناً صاغية أو قلوباً تعقل.

عن المستفزين بأصواتهم وكتاباتهم وتحليلاتهم وقبحهم وتبريراتهم الأقبح، عن الذين يشاركوننا الدين والدم والأرض والعروبة ثم نراهم يتصهينون، عن المتصهينين أكثر من قاطني تل أبيب، بل إن في إسرائيل من هم أكثر إنسانية من هؤلاء، بل إن كل من في إسرائيل حتى أشدهم تطرفاً أكثر إنسانية من هؤلاء، لأن ولاء متطرفي اليهود إلى بني جلدتهم وهؤلاء يكرهون بني جلدتهم.
أريد أن أكتب عن مزامير بني صهيون، الذين حولوا مقولة: "أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب"، إلى مقولة: "أنا وابن عمي والغريب على أخي"!، لأن أخي مع حماس، وحماس تتبع الإخوان!، فهل حماس هي غزة؟ هل غزة كلها مع حماس؟ هل الجميع هنالك من الإخوان؟ هل كره حماس والإخوان مبرر لأحدهم أن يغرق حتى أذنيه في وحل التصهين؟ هل الارتماء في أحضان إسرائيل والتغني بها هو الحل؟ ألا يمكن أن نعتد بأنفسنا، ألا نبحث دائماً عن الحل لدى الآخرين؟ أو -وهذا أضعف الإيمان- أن نجمع بين انتقاد حماس والإخوان وتبيين أخطائهم وبين تجريم إسرائيل؟ ما الذي يحدث!
إن مزامير بني صهيون موجودة منذ بدء الاحتلال، إلا أنهم اليوم أكثر صراحة ووضوحا ومباشرة، يخرج أحدهم معلقاً على قصف غزة بقوله: "إن غزة لا تُقصف إنما يتم تنظيفها من حماس، فاللهم زد وبارك"!. إن مثل هذا لا يكره حماس إنه يهيم عشقاً بإسرائيل، إنه إن لم يجد أمامه حماس ليحملها جريرة تصهينه لأوجد ألف عذر آخر، لقال: إن الحجر في يد الطفل الفلسطيني هو المتسبب الأول في هذه المعركة، وإلا فإسرائيل لا تبدأ من تلقاء نفسها بالقصف. وهكذا نجدهم بارعون جداً في إيجاد التبريرات التي تُظهِر إسرائيل بأنها مجرد حمل وديع.
نعم من حق الجميع أن ينتقد ويعري حماس والإخوان ويبين أخطاء هذه التنظيمات للعلن، هذا حق لمن يرى حماس والإخوان على خطأ، وكثيرون يرون هذه المنظمات على خطأ، إلا أن المسألة بالنسبة لمزامير بني صهيون ليست "حماس" ولا "الإخوان"، المسألة لهؤلاء كما وضحتها "ليفني" بقولها: إن هؤلاء سفراء إسرائيل لدى العالم العربي، وهم أفضل من يوصل وجهة النظر الإسرائيلية إلى الشارع العربي. إذاً المسألة برمتها لا تعدو كونها تصهينا لاستفزاز مشاعر أكثر من مليار مسلم، وما حماس والإخوان بالنسبة لهم إلا أعذارا، أعذار إن لم توجد لتعذروا بحجارة أطفال غزة.
إنها كذلك مسألة أهداف وغايات، أن تنتشر روح الإنهزامية واللامبالاة في المسلمين، أن يصبح رغيف الخبز بالنسبة للمسلم أهم بدرجات من كل فلسطين.
إنهم ماضون إلى تحقيق أهدافهم، بل إنهم قد قطعوا شوطاً طويلاً إلى أهدافهم، وإننا نعيش بعض نجاحاتهم، فها نحن بعد أن كنا نبكي على مقتل طفل واحد في فلسطين "محمد الدرة" أصبحنا لا نتأثر حتى وإن حدثت مجزرة، ها نحن اليوم غير مبالين غير عابئين، وإن "اللا مبالين" دائماً يدخلـون مزبلة التاريخ مع الداخلين.
أريد أن أكتب عن هؤلاء، عن ضمائرهم، عن خططهم وأهدافهم، وكيف أن شعار مزامير بني صهيون اليوم: اليهود أبناء عمومتنا، سنشد على أزرهم ونشجعهم على قتل أخ لنا في غزة نِكالاً في حماس!. سيدون التاريخ هذا الشعار، وسيلعنهم التاريخ لهذا الشعار.
أريد أن أشتمهم أكثر، أن أكون عاطفياً أكثر، لكن ماذا أكتب وملامحهم تفضحهم؟ ماذا أوضح وضمائرهم أوضح؟ وها نحن نرى كيف تتضح ملامحهم أكثر كلما نزف دم طفل في فلسطين، وإن كان لإسرائيل حسنة فإن هذه هي حسنتها، أنها كلما خاضت معركة خسرت، وكلما خسرت معركة تعري ألف عربي.