قيمة الجهل



إن كان للعلم قيمة، فما قيمة الجهل؟ هل هو لا شيء، أم شيء لا قيمة له، أم شيء له قيمة لكنها تساوي صفرا؟ إن الجهل هو مصطلح أوجدناه لتعريف العلم عندما تساوي قيمته صفرا، إلى هنا لا تنتهي المسألة، لأن الجهل بهذا المعنى أبداً ليس صفرا، لأن الصفر عدد لا سالب ولا موجب، بينما الجهل أشبه بنبات يتشعب إلى كل الاتجاهات السالبة والموجبة.
كمثال: هنالك جاهل لأنه لا يعلم، وهنالك جاهل يعلم لكنه يكابر ولا يصدق، وهنالك جاهل لأنه لا يريد أن يعلم، وهنالك جاهل لأنه يخاف أن يعلم، كما أن هنالك من لا يعلم عن جهله، وهنالك من يعلم مقدار جهله، وهنالك من آثر الراحة من البداية فأهدى عقله لغيره يقوده كيفما شاء. كل هذه الأمثلة لتوضيح الجهل السالب والموجب، لا لإجابة السؤال عن قيمة الجهل، فما قيمة الجهل؟
حتى نعرف الإجابة، لنتخيل قرية نائية يُخوِف أهلها بعضهم البعض من الأفاعي، الآباء يُخوِفون أبناءهم من الأفاعي حتى يناموا، الزوج يُخوِف زوجته من الأفاعي حتى لا تخرج، وفي المجالس يتبادل الجميع قصصا مخيفة عن الأفاعي، مثل هذه الممارسات من شأنها أن تُحوِل الخوف إلى طبع، ومتى ما تحول الخوف إلى طبع سيكون النظام الاجتماعي قائما على هذا الخوف.
لنتخيل الآن أن شاباً من أهل هذه القرية هرب إلى المدينة، وهناك وجد الأفاعي في عُلب المختبرات يمسك بها الطلبة بلا مبالاة لتشريحها ودراستها، ثم وجد أطفالاً يضعون الأفاعي حول أعناقهم وهم مبتسمون من أجل التصوير، وعازفاً يعزف فترقص لعزفه الأفاعي. سيدرك هذا الشاب بعد فترة أن الأفاعي ليست مخيفة بذاتها إنما بجهل التعامل معها.
الآن أمام الشاب طريقان في حال قرر العودة إلى قريته، أولاً: أن يقوم بتعليم أهل القرية كيفية التعامل مع الأفاعي، إلا أن هذا الخيار ليس سهلاً لأن هنالك نظاما اجتماعيا قائما على هذا الجهل؛ مما يعني أنهم قد يرفضون هذا العلم حِفاظاً على نمط حياتهم. ثانياً: أن يقرر استثمار الجهل كقيمة تُحقِق له عدة منافع، منها وصفه بالعلم والشجاعة وهاتان خِصلتان من شأنهما أن تضمنا له صدر المجلس والمكانة الاجتماعية المرموقة.
إذاً.. للجهل قيمة حتماً، قيمة للجاهل نفسه الذي لا يريد أن يُعكِر نمط حياته بالعلم، قيمة يدركها العالم الذي قرر أن يحقق مصالحه بأي ثمن، قيمة للآباء حتى ينصاع لهم الأبناء، قيمة للزوج حتى تطيعه زوجته، قيمة تبني عليها القرية نظاما تعليميا متكاملا لتأصيل الخوف أكثر.
إن المكانة الاجتماعية التي نالها هذا الشاب تُؤهِله الآن أن يقوم بالإشراف على مواد التعليم، كما وتؤهله أن يزرع مخاوف جديدة تُعزِز الخوف من الأفعى، كالخوف من القرى الأخرى، الخوف من الآخر الغريب، الخوف من الأماكن الضيقة والمظلمة، الخوف من طرح الأسئلة حتى لا تقود الإجابات إلى جحور الأفاعي، سيضع له متسللين ومندسين ومتلصصين في كل مكان لمراقبة خط سير كل هذه المخاوف، إن الجهل بالنسبة له ما عاد قيمة فقط إنما أعلى القيم التي يجب الحفاظ عليها بأي ثمن.
في الأخير، سيجد أهل القرية أنفسهم في متاهة من المخاوف تُسيِّر حياتهم دون أن يعلموا أنهم في جهل، سيخافون حتى من المعرفة؛ لأن العالِم قد كفاهم شر المؤونة وليس عليهم إلا أن يسيروا خلفه، لكن إلى أين إن لم تكن الغاية هي الخروج من متاهة المخاوف التي بنيت حفاظاً على قيمة الجهل؟
ثم تتضح قيمة الجهل أكثر حين ندرك بأنه لو علِم أهل القرية كيفية التعامل مع الأفاعي فإن هذا العلم سيكشف لهم حقائق تاريخية وإجتماعية يشعرون أنهم في غنى عن الكشف عنها، ستتعرى الكثير من قيمهم كقيمة نظامهم الاجتماعي ونمطهم الحياتي وعاداتهم وتقاليدهم بالإضافة إلى قيمة الماضي التي ستتساوى حينها مع قيمتهم حاضراً!، ولا يوجد مجتمع سيتقبل تساقط كل هذه القيم ببساطة، لذلك ستنشأ الصراعات وتتحرك العصابات حتى تسيل الدماء في كل مكان.
بعضهم سيلعن المعرفة التي أوصلتهم إلى ما هم فيه من اقتتال، بعضهم الآخر سيلعن الجهل الذي أوصلهم إلى هذا الحال، ثم سيتقدم طرف ثالث فيخلط المعرفة بالجهل ليُرضي الطرفين ولن يرضى الطرفان بهذا الخلط الغبي. سيُخوِنون من يدعوهم لمزيد من العلم، ويُخوِنون من يدعوهم للعودة إلى الجهل. ستخرج فئة لتستورد الحلول من الماضي، وفئة أخرى لتستورد الحلول من الخارج، ليبدأ صراع جديد داخل الصراع الأول. سيصرخ بعضهم أخيراً: لا حل إلا بقتل الأفاعي!
وهكذا.. إن كانت للعلم قيمة فإن للجهل ألف قيمة وقيمة، إلا أن المدينة المتحضرة قد راهنت على قيمة العلم، بينما راهنت القرية البدائية النائية على الألف ألف قيمة للجهل، والذي يراهن على الألف قيمة للجهل كالذي يراهن على صمود أطنان القش أمام عود ثقاب.

حكاية غذامية


ما الغاية من الوقوف أمام المرآة؟ الجواب ليس ببساطة السؤال، فالغايات جدلية فلسفية متعددة، لكن لنقتصر إلى المتعارف عليه. أولا: بالنسبة للإنسان الفرد فالغالب أنه لا يقف أمام المرآة ليتأمل جماله الآخاذ إنما ليبحث عن عيوبه حتى يعالجها، فيُحسِّن هندامه أو يحف شاربيه، أو تضع -هي- أحمر شفاه، كلها عمليات تجمل فطرية ليبدو الإنسان مقبولاً في نظر الآخرين. ثانياً: بالنسبة للجماعة الإنسانية "دينية، ثقافية، سياسية" ففي الغالب تختار الوقوف أمام المرآة التي لا تعكس عيوبها، والتي يصنعها صُنّاع أجراء يصنعون ما يعكس الأوهام لا الحقيقة، في الغالب أن الجماعة تتجمل بمحاربة كل من يصنع مرايا تعكس الحقيقة بلا زيادة أو نقصان، وهي حين تفعل ذلك تكون قد شجعت على وجود صناع مرايا ناقمين يصنعون مرايا لا تعكس إلا العيوب.
وإن كانت مرآة الإنسان الفرد من زجاج فإن مرآة الجماعة الإنسانية هي النقد ولا شيء آخر سوى النقد، وكل شيء عدا النقد فهو مدح أو قدح أو صمت، النقد وحده هو المِرآة التي تعكس الحقيقة بلا زيادة أو نقصان. بالنسبة للنقد في مجتمعنا السعودي هو أشبه بمِرآة عليها غشاوة، مشروع دخله الكثير من المادحين والناقمين والمعتكفين في صومعة الصمت الذين إن تحدثوا فحديثهم انفعال، تبقى هنالك قِلة من النقاد الحقيقيين، ومن أبرز هؤلاء القلة هو الدكتور "الغذامي". ناقد صريح صادق عميق الطرح واسع الإلمام، والأهم من كل هذا وذاك تواجده على الأرض وتفاعله مع الواقع.
لقد بدأت في قراءة الحكاية الغذامية منذ فترة وما زلت وأظنني سأستمر. المعيار الوحيد الذي جعلني أهيم بقراءة هذه الحكاية -وهو ليس معيارا علميا بالمناسبة- أنه سرقني من عالم "طلال مداح" ليدخلني في عالمه، أسلوبه في الإلقاء عفوي بسيط يوصل المعنى العميق بكل وضوح ومباشرة وصراحة بلا تجميل أو تقبيح، وهو ما جعلني أميل إلى أن خصومه في الحقيقة خصوم أنفسهم من حيث لا يشعرون! لكن -للأسف- كل هذه العفوية والبساطة في الإلقاء، كل هذه المعاني الواضحة والمباشرة خاصة فقط بالوجه المسموع من حكايته "محاضرات، ندوات، لقاءات"، لأن الوجه المقروء من الحكاية "كتب، مقالات" شيء مختلف تماماً، غير مفهوم أبداً، فالمعاني في الجانب المقروء مُلغزة والمفردات غرائبية والمقصود لا يصل إلا بطلوع الروح، هنا أعود ركضا إلى عالم "طلال مداح".
هذا التباين بين وجهي حكاية النقد الغذامية شيء مربك حقاً، هذا التباين هو ما دفعني إلى قراءة الحكاية الغذامية في الأساس، كنت أتخيل أن لها وجهين فتأكدت أن لها وجهين فعلاً، تأكدت أيضاً أن الوجه المسموع حيث البساطة والوضوح والمعاني المباشرة بمثابة العناوين ورؤوس الأقلام، بينما كل الموضوع مبهم وفيه من افتعال الغموض ما يعرقل الإدراك، وهذا يعني أن من سيحاول غدا دراسة المشروع النقدي للغذامي سيواجه ذات الارتباك، مع الأخذ في الاعتبار أن مشروعه النقدي ليس ثانويا بل من المشاريع الرئيسة في ثقافة النقد السعودية.
نأتي إلى "النسق"، هذا المصطلح الذي يتكرر ويتكرر في كل الحكاية الغذامية، حتى ليظن المتابع لكثرة هذا التكرار أنه سيصل إلى مفهوم واضح محدد عن مصطلح "نسق" فإذا جاءه لم يجده شيئا، سيجده مصطلحا عاما مبهما يصف كل شيء، وما يصف كل شيء فهو لا يصف أي شيء! إن "نسق" هو المصطلح المحوري الذي تُبنى عليه كل الحكاية، رغم هذا لا يزال مصطلحا غير واضح المعالم، فقد وصف في موضع أن "الأنساق" هي الفيروسات والأمراض الراسخة في الثقافة، فحمدت الله أنني أخيراً فهمت المقصود من "نسق" حتى جاء في موضع آخر وقال عن نفسه: أنا نسق! فقلت: إذًا، سأربأ بالنسق أن يكون فيروسا!
أما عن المرأة في الحكاية الغذامية، فقد فاق اهتمامه بها اهتمامها بنفسها، ذهب في الحديث عنها إلى أبعد مما ذهبت هي إليه، حديثه عنها حديث ممنهج منظم عميق. لاحق الخلل الذكوري إلى فترات تاريخية بعيدة، ثم وضع الوصفة العلاجية المناسبة للخروج بالمرأة من عنق الثقافة الذكورية، لم يغفل أي جانب من شأنه إضفاء قيمة للمرأة، فلقبها لا بد أن تُؤنثه، ولا بد لها أن تتفرد بأدبها الأنثوي، وأن تستحدث لها فقها نسويا.
واضح من خلال وصفه لمفهوم "المرأة عورة" في كتابه "الجهنية" أن المرأة عنده ليست عورة، اسمها ليس عورة، صوتها ليس عورة، لكن ماذا عن وجهها؟ الملاحظ أن وجهها لا يزال عورة في الجانب المسموع من الحكاية، لأنها إن تحدثت في محاضراته ستظهر كصوت فقط، أما الصورة فتُستبدل بمزهرية -كمثال-! إن المجتمع قد تجاوز هذه المسألة منذ فترة، وراح يتعامل مع المرأة صوتا وصورة في كل المحافل، فإما أن يكون تعامل المجتمع مع وجه المرأة "نسقا"، أو أن يكون حجب وجهها في محاضراته "نسق"، طبعاً من غير الإنصاف هنا أن نقول إن "الغذامي" هو المسؤول، فالمسؤولون عن الجانب التنظيمي للمحاضرة هم المعدون لها، لكن من الإنصاف أن نسأل: إن لم يكن لخطابه ذلك التأثير داخل هذه الدائرة المحدودة -مكان المحاضرة- فما مدى تأثير خطابه في الدائرة الأكبر: "المجتمع"؟
وأخيرا.. الغاية هنا هي تقديم هدية مغلفة بالتقدير والإعجاب -لا أقل ولا أكثر-.. مرآة صغيرة إلى أستاذ صناعة المرايا.

دعوة إلى "اللا إنتماء"



الانتماء يمثل الحضن الدافئ المريح الذي يلجأ إليه الإنسان لإشباع حاجاته النفسية. إن الإنسان كائن اجتماعي بطبيعته فيلجأ للجماعة لا حباً فيها، وإنما كرهاً في الوحدة. يلجأ لها هرباً من الضعف والشعور بالتهميش واللافاعلية، إن الانتماء قالب جاهز مريح يوفر عِدة مزايا للمنتمي إلا أن له عيوبا لا يمكن غض الطرف عنها، أهمها ربط أفكار الفرد بأفكار الجماعة والتقيد بمبادئها وإن خالفت مبادئه وأفكاره.
لقد تغلغلت فكرة الانتماء إلى اللاوعي فينا حتى جعلتنا نؤمن بأننا إن أردنا الانتقال من حالة اللافاعلية إلى الفاعلية فلا سبيل إلا بالبحث عن انتماء، وهي فكرة يعتريها الكثير من الخلل، إنها صحيحة في كون الفاعلية متحققة لكنها فاعلية الجماعة لا الفرد، إنه وإن تميز فسيتميز كنموذج مصغر عن الجماعة يحمل أفكارها وينشر مبادئها التي قد لا تكون بالضرورة أفكاره هو ومبادئه، إنها ضريبة الانتماء!.
الانتماء ضرورة إنسانية ولا مجال أبداً لمنع تحققه، إنه قيمة ولا شك لكن بنظرة سريعة حولنا سنكتشف أنها قد استهلكت تماماً، واستهلاكنا لقيمة الانتماء جعلنا نغفل بل ونستنكر وجود أي قيمة في "اللاانتماء" على الرغم من أن الغالبية في أي مجتمع هم "اللامنتمون"!، إنه المفهوم الأكثر انتشارا والأقل تداولاً.
واليوم، نحن في حاجة إلى البدء في استهلاك قيمة "اللاانتماء" حيث غدت الانتماءات المتعددة من حولنا مجرد أغلال، نحن في حاجة إلى الخروج من عالم الدوائر المليء بالحركة والضجيج بلا اتجاه للأمام، إلى عالم الخطوط المتقاطعة والاتجاهات المتداخلة، في حاجة إلى خلع رداء الانتماء والبدء في التعامل مع الواقع بلا رداء، ومن يفعل سيرى الواقع بعينه لا بعين الجماعة ولن يسره ما سيرى.
ولأن ضريبة "اللاانتماء" تكمن في مواجهة الفرد لوحدته وشعوره بالضعف واللافاعلية، فإن من شأن هذا أن يُولِد فيه الكثير من التوترات والكآبة، لكنها عيوبه هو وعليه مواجهتها والتعايش معها لا الهرب منها إلى حضن الانتماء الدافئ كطفل يرتمي إلى حضن أمه ويغمض عينيه حتى لا يرى، هذا الحضن لن يبدد المخاوف إنما فقط سيمنع من رؤيتها، وبهذا سنجد أن اللاانتماء مرحلة تأتي بعد الانتماء، وعاجلاً أم آجلاً على الطفل أن يبتعد عن هذا الحضن الدافئ إلى توترات الواقع أو لن يبلغ الرشد أبداً.
طبعاً، هذا الحديث لا يشمل كل "لاإنتماء" إنما خاص فقط باللاانتماء هرباً من مآلات الانتماء، اللاانتماء بحثاً عن التحرر ورغبة في رؤية الواقع كما هو بعيداً عن غشاوة الانتماء، هذه الغشاوة التي تجعل الناظر للواقع لا يرى إلا أشكالاً هندسية محددة "دوائر ومربعات" بينما الواقع متاهة من الخطوط المتقاطعة التي تُلغي كل تصورنا عن الاتجاهات التقليدية، في الواقع لا وجود لدخول وخروج والتفاف يمينا وشمالا، إنما خطوط مبعثرة متراكمة تُكوِّن بمجملها لوحة واحدة.
إن اللاانتماء بهذا المفهوم سيُمكِننا من التعامل مع مختلف الأفكار والمعتقدات دون الدخول فيها أو الخروج عنها فهي ما عادت قوالب جاهزة لها مداخل ومخارج محددة إنما خطوط متداخلة متقاطعة تسمح بالمرور فوقها أو عبرها، اللاانتماء بهذا المفهوم يعني اللاانتماء إلى شيء محدد إنما الانتماء لكل شيء، أو بمعنى آخر اللاانتماء إلى الجزئيات إنما الانتماء للمكون الرئيس، إن اللاانتماء بهذا المفهوم سيُلغي أيضاً فكرة "مع أو ضد" فلا حاجة لهذه الفكرة والخطوط كلها متداخلة، هذا إن كان هنالك "ضد"!
لم نخرج يوماً عن عالم المرايا، منذ البدء كانت كل المفاهيم والمعتقدات مجرد انعكاسات لبعضها بعضا، لكننا بالانتماءات لم نر الأصالة متحققة إلا في الانعكاس محور انتمائنا بينما أي انعكاس آخر مجرد زيف يزاحم انعكاسنا على الأصالة! ولا زيف إلا في ادعاء الأصالة.
ختاماً: لماذا الحديث عن "اللاانتماء"؟، لماذا الدعوة إلى "اللاانتماء"؟، لسبب رئيس؛ وهو أن اللاانتماء اليوم يحاكي طبيعة هذا الوقت، ها هي المعلومة تملأ الأثير لتهبط على الفرد من كل اتجاه، وبدوره يصدرها عبر الأثير إلى كل اتجاه بكل تلقائية، هذا الفرد أصبح يتعامل مع الأصوات الصاخبة ذات الإيقاعات المتداخلة بكل بساطة حتى أصبحت سيمفونية اللحن الواحد بالنسبة له نشازا، الواقع أمامه سواء الافتراضي أم الحياتي أصبح مزدحم الألوان والتعابير، ولم يعد يراه مجرد أبيض وأسود، كل هذه الدلالات ألغت المركزية عن حياته، لهذا أراه - وهذا مجرد رأي - أقدر على استيعاب اللاانتماء والتعامل معه بشكل أفضل من أي وقت مضى.
إن أصحاب العقول التقليدية يرون الانتماءات أجمل وأضمن للسلامة؛ لأنهم لا يعيشون اليوم، إنما يعيشون مرحلة سابقة من صفاتها الهدوء ووضوح المعالم، لهذا يرون الواقع فوضويا واللاانتماء تخبطا وضياعا، بينما اللامنتمون يتعاملون مع هذه الفوضوية على أنها نمط حياة، بل إن الفوضى بالنسبة لهم كلها إيجابية رغم كل شيء هذا لا يعني أن اللاانتماء أفضل وأن عقلية اللامنتمي أرقى، فلا أفضلية ولا رقي طالما الزمن يتغير، ينزع بريق الأمس ليهديه لليوم، وغداً يأتي يومٌ أخر سنفقد فيه بريق اليوم.

ماذا لو مات الشيطان؟

سائل يسأل: ماذا لو مات الشيطان؟ فقلت: الشيطان لا يزال على رأس العمل بدلالة "لو" في سؤالك، فأعرض عن هذا. فقال: فما تقول في قول الصديِق "لو أن أحدهم رفع رأسه لرآنا"؟ قلت: لنتجاوز "لو" فهي ليست محور الحديث، ثم أعد السؤال بصيغةً أخرى إني لك من الناصحين، فسأل السائل: ما الذي سيتغير إن مات الشيطان؟
قلت: بادئ ذي بدء، وحتى يأخذ سؤالك حقه من الشرح والتوضيح لا بد أن نستحضر قول الشيخ الشعراوي في أن: "الشيطان يذهب إلى المسجد ولا يذهب إلى الخمّارة، لأن من في الخمّارة شيطانه منه وفيه"، ثم لنُسقط هذا القول على المجتمعات الإنسانية، سيتضح لنا حينها أن الشيطان موجود طيلة يومه في بلاد المؤمنين، معرضا عن بلاد الكفار بما أن شيطانهم منهم وفيهم، ولعدم وجوده هناك جعلهم يقتنعون بأن أنفسهم الأمارة بالسوء هي مصدر كل خطأ، وبالتالي إن أخطأ أحدهم فسيعاقب بالقانون، أما في بلاد المؤمنين فالمخطئ غالبا لا يحاسب لأن المصدر هنا هو شيطان أحمر رجيم مرابط في بلاد المؤمنين بدوام كامل، حينها إن ضاعت بعض الحقوق العامة أو الخاصة فسيقال: عذرا، لم نستطع إحضار الشيطان الرجيم إلى قاعة المحكمة.
لقد انشغل الكفار في بلادهم بمطاردة الفساد في كل دائرة ومؤسسة، بينما انشغل المؤمنون بمطاردة الشيطان من زقاق لزقاق لأنه سبب كل إخفاقاتهم، وهذه المطاردة طويلة الأمد أسفرت عن وجود مطاردين محترفين وهواة وعدائين خبراء، وهكذا أصبحت البضاعة الرائجة في بلاد المؤمنين قائمة على وساوس الشيطان ومكائده، فتخيل حال هذا المجتمع بلا شيطان؟
"ماذا سيتغير إن مات الشيطان؟" أول المتغيرات هي زيادة ملاحظة في أعداد البطالة، وذلك لوجود الكثير من الوظائف المعنية والمختصة بتفويت كل الفرص على الشيطان، والنخب المؤمنة جعلت من التصدي للشيطان عملية ضخمة، رغم كل هذا طلع الشيطان فعلاً "شاطر" كما يقولون، فها هو رغم كل هذا الجهد لا يزال يوسوس في المواطن ولا يزال يغويه على أكمل وجه.. طبعا هنا إن سألت: لماذا إذًا كل هذا المجهود واستنزاف الميزانية فيما لا طائل منه؟ فثق أنه لن يطلع عليك نهار إلا وأنت زنديق زندقة واضحة لا تشوبها شائبة.
ثاني المتغيرات التي ستلاحظ، أنه لن يتغير شيء في طبائع الناس، سيستمرون في الكذب والخداع والنصب والتلاعب بمشاعر بعضهم بعضا، لن تزيد أعداد المصلين، لن يتحول الجميع إلى أولياء لله صالحين، سيبقى كل شيء على ما هو عليه، وهذا من شأنه أن يجعلهم يُدركون أن شيطانهم منذ البدء كان منهم وفيهم، سيدركون أن هنالك من صور لهم أن شيطاناً لعينا كان وراء كل هذا الفساد، وأن من صور لهم هذا أراد أن يفلت من العقاب لا أكثر، "ماذا سيتغير إن مات الشيطان؟" ستنقشع الغشاوة عن أعين المؤمنين.
سيدركون أن الشيطان كان مصدر دخل بالنسبة للكثيرين، وأن وجوده كان يشعر الكثير من الموظفين بالأمان الوظيفي، سيدركون أيضا أنهم أضاعوا أموالاً كثيرة على الزيت والمسك والزعفران، وأضاعوا ما هو أغلى من المال أثناء تلقيهم للنفث والصفع، سيدركون أن "ص ط ق ب 9 م ي 4" مجرد خزعبلات لا معنى لها، إلا أن أناساً أقنعوهم أنه لا قدرة لدفع الأذى إلا عن طريق نفث النافثين وصفعهم وشراء منتجاتهم من زيت ومسك وزعفران بأغلى الأثمان.. إن محاربة الشيطان تجارة رابحة!
ثم عاد السائل محدثا عن شيخ جليل كان يرقي الناس في الطرقات، ويزورهم في بيوتهم للتحصين ضد مكر الشيطان وخبائثه، وأنه -جزاه الله خيرا- لم يكن يشترط مبلغا نظير خدماته إلا إن كان المقابل مجرد هدية لها وزنها وقيمتها في السوق! إن أهل القرية كانوا يعملون في التجارة والزراعة والنجارة ورعي الأغنام، وبهذه الأعمال قد كونوا لهم مجتمعا بسيطا الكل فيه يؤدي خدمة، إلا شخصا كان يكره العمل الشاق فراح يمتهن بيع الوهم مقابل أغلى ثمن.
وفي يوم راح هذا الشخص يتضرع إلى الله بأن يهلك الشيطان الرجيم ويريح العباد منه، فزاره الشيطان وهو يدعو وقال له: مهلا، إنك لا تُدرك عواقب هذا الدعاء، إن استجاب الله لك وأهلكني فعلا فلن تجد ما تصنعه وأنت لا صنعة لك إلا مطاردتي، أنـا إن مت فستزول عنك كل المزايا، حينها ستضطر إلى أن تجد لك عملاً مفيدا، فقال: اطمئن يا لعين، بموتك لن يتغير شيء، فقد دخلت في كل التفاصيل حتى أصبحت ضرورة في حياتنا أكثر من كونك حقيقة.

شعراء الجن


ولولا أن القلب يميل، لقلنا: ما به من عيب. لكنه يميل على الدوام، ليس له من قرار، لا أرض يستقر عليها ولا جاذبية تحكمه، فيهيم تارة ويضطرب تارة، وتارات تتقاذفه نسائم الهواء، وإن القلب يميل هربا من وقائع الحياة، من كل هذا الضجر والصخب والضجيج، ومن هنا يستمد الجمال قيمته، ومن الجمال يستمد الشعر معناه، ومن المعنى يرسم الشاعر أبياته، وشاعر لا يُجيد رسم المعنى فمن حقه علينا أن نصفعه كما قال "البحتري".

وإن مما يُلفِت الأنظار، أن الهائمين في أودية الشعر كثيرا ما ينسبون بديع الشعر إلى الجن أما الركيك منه فيُلقُون به في وجه شاعرهم! إن هذا الربط بين بديع الشعر وبين عالم الجن فيه دلالة على مدى الحيرة والارتباك التي أصابتهم، حيرة جعلتهم ينسبون القصيدة إلى عالم آخر، عالم لا يُشبِه عالمنا، كأنهم يقولون بكل صراحة: لا قدرة لإنسان أن يأتي بكل هذه المعاني البديعة من تلقاء نفسه.

لكن شعراء الجن إنس، وكل القصائد بدأت وانتهت في عالم الإنس، كل ما في الأمر أننا ننسب بعض القصائد إلى الجن تماما كما نصف كل من سلته الغواني بأنه مسحور وبه مس، إن العاشق السالي مُغيب العقل والقصيدة البديعة تُغيب العقل، والجن تبرير جاهز عندما نعجز عن إيجاد تبرير منطقي عند غياب العقل، هذا كل ما في الأمر!

إن الشعر في معظمه عاطفة، وإن قراءة الشعر بمنطق وعقل ستُفقِده جماليته، وهذه ميزة الشعر وعيبه في آن، ميزة لأن عاطفيته تجعل القلوب تميل فنتلذذ بهذا الميلان، وعيبه لأن عاطفيته مجال خصب للخزعبلات والخرافات.

إننا لا نقول إن خلف بديع الشعر عقلاً ذا قدرة رهيبة على التخيل والإلمام بالحياة والوجود، وإن الشاعر استطاع توظيف كل هذا وتغليفه بإطار أدبي بديع مستندا على ما يمتلكه من ثراء لغوي، لو قلنا بهذا لفتحنا على أنفسنا بابا نبحث من خلاله عن طبيعة قدرات العقل ومَلكاته، لكننا لا نقول بكل هذا لأن عقلنة الشعر تخنقه.

هنا يتم استحضار الجن كتبرير عاطفي يفتح المجال على مصراعيه أمام الخيال - ملعب الشعراء والهائمين -، فالجِن عالم تخيلي الكائنات فيه لها قدرات خارقة تجعلها أهلاً لاستيعاب ما لا تستوعبه عقول الإنس، إننا نُحيل بديع الشعر الذي هو نِتاج عقلي إلى عالم الجن الذي هو أيضا نتاج عقلي وذلك هرباً من عقلنة الشعر، وكأننا لا نُريد للعقل أن يتدخل في عالم تحكمه القلوب، إن تدخل الجن - رغم عدم منطقيته - لا يُفقِد الشعر رونقه بينما العقل سيفعل بالشعر هذا وأكثر.

عموما، اليوم هنالك من شُعراء الخليج، من يُدرك أن لعملية ربط الشعر بعالم الجن دلالة على جودة القصيدة وثرائها بالمعاني والصور، ثراءً يجعل الجمهور يُحيِّل أمر قصيدته إلى ما فوق طاقات البشر وقدراتهم، وإن إدراك هؤلاء لهذه المعلومة جعلهم يحشرون الجن حشراً في قصائدهم، لا ليُقال إنهم ممسوسون رغم أن بعضهم كالممسوس فعلاً، لكن ليُقال: ما أبدع شعر هذا وما أروع قصائده.

القصيدة البديعة في الماضي كانت تترك حيرة في المتلقي، حيرة تجعله يُلقي بها إلى أحضان الجن هربا من عقلنتها، أما بعض شعراء اليوم فيستحضرون الجن في قصائدهم ويملؤون الأماكن الفارغة في القصيدة بكثير من الهرطقة والطلاسم المنتهية بالقافية نفسها، كل هذا لضمان التفاف أكبر عدد من الجمهور، وزيادة أعداد الجمهور من شأنها أن تُحقِق منافع جمّة.

بعض شعراء اليوم الممسوسين افتعالا، يسترزقون من الخرافات المُعششة في عقول البسطاء، يُلقي أحدهم قصيدة مُبهَمة مُلحَنة مُطعَمة بطلاسم علوية وسفلية، فيتلقفها البسطاء لينسِجون حولها الخزعبلات، والإكثار من ترديد الخزعبلات حول القصيدة كفيلاً بأخذها إلى عقول المتعلمين - الأدباء منهم والمثقفين - ومنهم إلى الإعلام المرئي منه والمقروء، وهكذا تصنع الهرطقة شاعرا مرموقا له صدر المجلس، يقول ما لا يفقه، ويصفقون على ما لا يفقهون.

ومن باب الأمانة يجب الإقرار أن بعض هؤلاء الشعراء لديهم مَلكَة الشعر حاضرة وبقوة، غير أنهم يوظفونها في غير مكانها لتحقيق منفعة ومصلحة، وربما لو أنهم وظفوها في مكانها حقا وإن أبدعوا حينها لأجلسناهم في آخر المجلس! المجتمع يُحب الطرق الملتوية "أدبيا وإعلاميا وسياسيا ودينيا"، أكثر الطرق اعوجاجا هنا أقصرها إلى المقدمة!

في الختام، يُقال من باب هضم الطعام: من يأكل لسان الذبيحة سيصبح شاعرا، وقد أكلنا ألسنة الخرفان والبعارين "مع اللغاليغ" ولم نخرج بخاطرة. ويُقال: إن الذهاب لبطون الأودية والأماكن المُوحِشة والمكوث في الغرف المظلمة سيضمن اللقاء بجني "يسفَّل بك لين تِشعِر"! وأقول: ليس لبلوغ الشعر طريق، إنه يأتي كموهبة ثم يَصقِلها الشاعر بالمعرفة وسعة الاطلاع، ما عدا هذا فتأتي به حبوب الهلوسة.

كيف تصبح "مدير كبير"؟


حديث أوجهه إلى صغار السن الغِضاض الذين لم تُآسنهُم الأيام، لا إليهم جميعاً إنما سأستثني منهم من يحلم بأن يصبح ضابطا ومن يتمنى أن يتخصص في الهندسة والمذبذبين بين الطب والطيران، لا يعنيني هؤلاء إنما يعنيني أولئك الذين يحلم الواحد منهم أن يصبح "مديرا كبيرا" بأي طريقة وثمن.

حديث لا يتم التطرق إليه في دورات "إعداد القادة" رغم عدم إلمامي بما يقال في تلك الدورات، إلا أنني سأستشف بأنها دورات تضع الطالب أمام طريق مثالي، فتهيأ له أن كل المطلوب منه حتى يصل للمناصب العُليا "عِلم، عمل، أمانة، إخلاص" والكثير من المتطلبات غير الواقعية.

"مدير كبير" عبارة أطلقتها العمالة الوافدة المُحيطة - نظامياً - بكل مسؤول، يصبون له الشاي والقهوة وينظفون له المكتب والسيارة، هؤلاء يطلقون عبارة "مدير كبير" على كل مسؤول بدءًا من رئيس قسم في إدارة "كحيانة" إلى معالي الوزير، الكل في نظرهم "مدير كبير"، فكيف يا عزيزي الشاب تصل إلى هذا المنصب الرفيع؟

في البدء، إن كنت جاداً في تحقيق حلمك، واضعاً نصب عينيك هدف الوصول لذلك المنصب بكل جدية، فاعلم - رعاك الله - أن الطريق يبدأ منذ اللحظة، أعقد العزم وأترك السهر، أخلد إلى النوم في الساعة العاشرة كحد أقصى، لا تشرب الشاي ولا أي مشروب غازي، لا تُسرِف في الأكل ولا تأكل دسِم الطعام قبل النوم، إياك ثم إياك والتدخين، حافظ على الرياضة بانتظام. قد تتساءل: ما العلاقة بين هذه النصائح والوصول إلى منصب "مدير كبير"؟.

الجواب: أنك وبنسبة 99% لن تصل إلى ذلك المنصب قبل سن الخمسين، فإن لم تحرص على صحتك منذ الآن فإنك ستضيف إلى القائمة مديراً كبيرا آخر يعاني من عسر الهضم والقولون والضغط والسكري والقلب، حينها ستصبح عِلة وعالة ضمن باقي العِلل، حينها لن تستمتع بتحقيقك لهذا الهدف، ولن يستفيد من كونك "مديرا كبيرا" لا المواطن ولا مرؤوسيك، الكل يعقد آماله عليك وأنت ترجو الكل كف أذى تأدية المهام المناطة بك.

إن اقتنعت بما سبق، فإليك الوصفة الثانية، الشهادة رغم كونها أداة مهمة تقود إلى ذلك الهدف إلا أنها ليست الأداة الرئيسة هنا، فبناء كثير من العلاقات في كل وقت هي مفتاح الوصول الرئيسي، وإنك لن تبني علاقات واسعة إلا إذا تعلمت فن الإيحاء، أن توحي لهذا وذاك أنك فلتة زمانه الضليع في كل أمر، كن أمام الجميع شيخاً وقورا، كن خطيبهم والداعية، كن شاعرهم المرهف، كن مرجعهم في التجارة والإدارة والسياسة، كن أعلمهم في الفلك والانشطار النووي، ثم تفلسف أمامهم عن الطبخ والعقار ورعي الماشية، وإن لزم الأمر كن مطرب القوم والراقصة، تعلم أن تأوي كل الشخصيات في شخصك الكريم، كن خنفشاريا حلزونيا متعدد الخلايا، تلون ثم تلوى وستصل سريعاً جداً حتى قبل أن يتساءل أقرانك: كيف ومتى أصبح هذا "مديرا كبيرا"؟

هل وصلت؟، لا لم تصل، تنقصك الآن بعض الفنون، أن تتعلم فن كسر أصابع من يعترض طريقك، وفن تدبير الأمور من تحت الطاولة، ثم أقلب الطاولة على رأس من يباغتك، تعلم فن المشي على الحبل كبهلوان وليكن حبلك هنا هو القانون، تعلم ألا تسقط وليكن تلاعبك بالقانون قانونيا تماماً، ومبروك أنت الآن "مدير كبير".

الكرسي خلفك والمهنئون أمامك، هنا لا بد لك أن توضح لهم أي المديرين أنت، وإن كنت لا تعلم فأنواع المديرين المتوفرين أمامك، أولاً: المدير الحشري المهتم بتشكيل حروف كل خطاب، ومواعيد الحضور والانصراف، وأين ذهب الموظف فلان؟، ومن أحضر الفطور لمن؟. ثانياً: المدير المتشعب، ابن هذا المدير مديراً للمالية، بينما ابن أخيه مديراً للمشتريات، أما مدير الموارد البشرية فهو ابن خالته "مرزوقة" التي أوصته بالأمس أن يُعين ابن أختها "مزنة" مديراً للتطوير والإبداع. ثالثاً: المدير الفيلسوف الذي حين يتقاعد يخلف وراءه رطل كلام، اجتماعاته غثيثة يلقي فيها نكات سخيفة، عصاميته دائماً محور الحديث، يفقه في كل شيء ثم لا ينجز من كل ما يفقه أي شيء سوى الكلام.

في الختام، هذا الموضوع ليس وصفاً للإدارات والمديرين بالعموم، فالعموم في نظري أنه يحسن صنعاً، هذا الموضوع وصف للشذوذ في القاعدة، وما يشذ عن القاعدة دائماً يلفت الأنظار كما تلفت النخلة العوجاء أنظار راعيها الذي تعب في سقيها وتشذيبها وتلقيحها لترد له الجميل بأن تُساقِط ثمرها على حوض الجيران لا اعوجاج في جذعها.

كما رعى هذا الوطن أبناءه ليرد بعضهم هذا الجميل بقرارات ارتجالية عاطفية وخطوات متخبطة متعثرة، والنتيجة فشل وتباطؤ وتلاعب بمعظم المشاريع التنموية، وانتشار المحسوبية والواسطة والولاءات والشللية والابتسامات الصفراء، معظم هذه المشاكل مردها أن هاهنا من يعتقد أنه فلتة هذا الزمان الذي عجِزن فيه الأمهات إنجاب مثيل له، مثل هذا قد يحكي لأبنائه عند كل وجبة غداء كيف أن الله قد هيأه وسخره وقدر له منذ أن كان غض الشباب يافعا لمنصب "مدير كبير"


هيبـــة القرآن

قبل البدء، هذا ليس ردا على تلك الاعتراضات الواردة تجاه حديثي السابق، حين قلت إن هيبة القرآن في نفوس أغلب المسلمين اليوم هي هيبة شكلية فقط، هذا ليس ردا، رغم أن كل اعتراض له كامل التقدير، إنما هي ملاحظات ساقتني إليها تلك الاعتراضات، مجرد ملاحظات تحتمل الخطأ أكثر مما تحتمل الصواب، وكلنا ذلك الخطّاء.
 
يقول تعالى مُخبرا عن نبيه -عليه الصلاة والسلام- (وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا)، في الآية الكريمة فعلان متضادان "الأخذ" و"الهجر" مصدرهما فاعل واحد "قوم النبي"، لفعل الأخذ دلالات عديدة منها "سلب العقل والفؤاد، الانبهار، التمسك بالشيء"، ومن يقول إن المسلمين اليوم غير متمسكين أو مبهورين بالقرآن فهو يُكذب الواقع، ففي الواقع لا تكاد تخلو منطقة في كل بلاد الإسلام من حلقات تحفيظ وتجويد وتلاوة وحفظ كتاب الله، بالإضافة إلى كل أولئك الأفراد المعنيين بسبر آيات القرآن لاستنباط مكامن الإعجاز فيها، كل هذا وأكثر يدخل ضمن فعل "الأخذ" الوارد في الآية، والأخذ بهذه الطريقة لا بد وأن يزرع في نفوس الآخذين كامل التقدير والتوقير والاعتزاز.
 
رغم كل هذا الأخذ وبدلالة الآية كما سيخبر النبي -عليه الصلاة والسلام- شاكيا ربه، نجد الفعل "هجر" موجودا بقوة في واقع المسلمين بالتزامن مع الفعل "أخذ"، وإن وجود الفعلين معا رغم التعارض يقودنا إلى أن الملامة في الهجر تقع على أسلوبنا المُتبع في الأخذ، لأن الأخذ بالقرآن حين يكون الغالب عليه هو الحفظ والتجويد والتلاوة يصبح حينها أخذا شكليا، حينها مهما حفظنا ورتلنا لن نغدوا قرآنيين، ومهما تحرينا الحلال والحرام فهذا لا يعني أننا نسير على نهج القرآن، إن كل هذا يُعد بمثابة الأخذ الشكلي للقرآن، وهو أخذ مطلوب إلا أنه حين يكون الأخذ المهيمن فهو إذاً أخذ من باب المتعة والاستئناس، وتجميع الحسنات حتى ننال الدرجات العلى، وهي غايات سامية إلا أننا نريد الوصول إليها مروراً عبر واقع منحدر لا نهتم بانحداره.
 
إن الغالب في تعاملنا مع القرآن أنه تعامل مبني على أمانٍ، أمانٍ بالجنان والحور العين والعسل المصفى، إننا نأخذ بهذا الكتاب هربا من الواقع، لا لتجميل وتحسين هذا الواقع، الذي تشهد به أخلاقنا وسوء حالنا أن هيبة القرآن في نفوسنا هيبة شكلية لا أكثر، إن "القرآن" اليوم يعد سبيلا نتجاوز به مرارة الحاضر لنفوز بجنة الخلد ونعيم لا يزول، وعلى أرض الواقع لا أحد يكترث بالواقع.
 
المحور الآخر لتحول هيبة القرآن إلى هيبة شكلية يتضح من خلال شروح وتفاسير الآيات، كالآية أعلاه التي أوجد حولها المفسرون كثيراً من الشروح المتضادة المتعارضة، فبين قائل إن "قومي" في الآية تخص قريش، وقائل بأنها تخص المسلمين، وقائل بأنها تحتمل المعنيين، بين قائل بأن "الأخذ والهجر" كل منهما فعل بذاته، وقائل بأن الأخذ فعل والهجر مفعولاً به، وبين قائل بأن الآية تتحدث فقط عن خبر ما كان، وقائل بأنها تحدثت عن خبر ما كان ويكون وسيكون.
 
إن كل هذا التعارض والتضاد لدى المفسرين دلالة على أن باب التدبر والاستدلال كان مفتوحا على مصراعيه أمام كل من رأى في نفسه القدرة، حين كانت للقرآن هيبة فعلية وكان الاجتهاد جائزا، وفور تحول الهيبة إلى شكلية أغلق باب الاجتهاد، ربما أغلق خوفاً من وقوع أخطاء أو منعاً لأي تعارض محتمل في الآراء، والعجيب أن الذين استطاعوا الولوج إلى الاجتهاد من شيوخ وطلبة العلم لا يجتهدون، إنما يجترون اجتهادات السلف طلباً للسلامة، لا طلبا للحق! وبهذا وعلى الرغم من كثرة المنشغلين بالقرآن نراه مهجورا، لأن شرط الانشغال به اليوم البكاء على الأطلال، مع أن القرآن يحذر من الالتفات إلى الوراء حتى لا تهوي الأقدام.
 
الأمر الرئيس الذي يصادف الباحث في هذا الأمر، هو التحول في التماس الهدي من غير القرآن في أحايين كثيرة، إنها دائرة تاريخية تتكرر ونحن ندور فيها مع الدائرين مصداقاً لقوله -عليه الصلاة والسلام- "ولتسلكن طريق من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، وحذو النعل بالنعل"، وإن من كان قبلنا (جعلوا القرآن عِضِين) و"عضا الشيء جزأه ثم فرق أجزاءه"، ونحن حذونا حذوهم حين تلبستنا منهجية تعضية الوحي المنتشرة في الأمم السابقة، حيث تُجزأ المعاني والمقاصد خلف النص الصريح إلى أجزاء بعضها حق وبعضها تحكمه ظروف المُجزئ ومصالحه، وهنا تأتي مرحلة تجزأة الأجزاء "عِضِين" للتنقية والتصفية، في الأخير أصبح لكل جزء ومجزئ أتباع وأنصار يُقسمون أنهم للنص الصريح أقرب!
 
وهكذا حين فشل الشيطان في تحريف القرآن، نجح في تحويل هيبته إلى هيبة شكلية، نجح في ألا يجعله الكتاب المُهيمن رغم تعظيم النفوس له والاعتزاز به، لأن الواقع يقول إن هنالك عشرات وربما مئات الكتب والتفاسير التي تنازع القرآن في الهيمنة على أرض الواقع.

"حسن فرحان" و"عدنان إبراهيم"، مفكران أم ... ؟

أحدهم كتب تغريدة قال فيها: كلما قارنت بين "عدنان إبراهيم" و"حسن فرحان المالكي"، وبين بقية الشيوخ والملالي، مالت الكفة لصالح "عدنان إبراهيم" و"حسن فرحان". فرددت عليه: قارنهم إذا بالمفكرين الإسلاميين حقا وسترى كفة الميزان كيف تتغير.
على الرغم من أني لا أحب عقد المقارنات بين الأشخاص؛ لإيماني أن لكل فرد ميزاته وعلاته التي يتفرد بها عن الآخرين، إلا أني سألجأ هنا إلى عقد مقارنة بسيطة حتى تصل الفكرة.
 
أحمد ديدات، مصطفى محمود، علي الطنطاوي، علي شريعتي، محمد الشعراوي.. إلخ من الأسماء الرائدة في مجال الفكر الإسلامي، ولا يوجد بينهم مشترك أبرز من ثبات الشخصية، عدم التذبذب الحاد بين الصعود والهبوط، لم أجد لأي من تلك الأسماء أي اضطراب في الشخصية أو الآراء، وهذا للأسف ما لا يوجد في المفكرين الجديدين: عدنان إبراهيم، وحسن فرحان المالكي.
 
من تابع ويتابع كقارئ أو مستمع هاتين الشخصيتين سيجد نفسه أمام مفكريَن عميقي الرؤيا واسعيَ الاطلاع، لكل منهما اتجاهه، كليهما لديه مَلكة ذهنية متقدة، وسعة حفظ وقوة ذاكرة، كلاهما متبحر في الكثير من العلوم الشرعية والتاريخية والاجتماعية، صفات تؤهلهما أن يكونا فيلسوفين بامتياز، لكن هيهات.
 
عدنان إبراهيم من أعظم حسناته، أنه أعاد لمنبر المسجد هيبته، أنه أخرج المنبر من ذلك الصندوق الذي حُشر فيه ردحا من الزمن، خرج به من أحاديث الطلاق والنكاح والإرضاع والطاعة العمياء، أخرجه من مواعظ الترهيب والترغيب وتبديع الآخرين وتكفيرهم، لقد رسم صورة جديدة تختلف عن خطيب الجمعة الذي يحفظ أكثر مما يفهم، يخطب إلى أن يترك نصف الحضور مشغولا بمتطلبات الحياة والنصف الآخر يغط في نوم عميق!. بينما نجد عدنان إبراهيم قد انطلق بالمنبر إلى الفلك والفيزياء والفلسفة والتاريخ وطبائع الإنسان، بأسلوب سلس بسيط وعميق.
 
حسن فرحان المالكي له حسنة أعظم، أنه أعاد للقرآن هيبته، أنه أعاده إلى الواجهة، وجعله المرجع الأساس، والحكم الأول في كل شأن، وهذه قمة الشجاعة، فالغالب اليوم في الثقافة الإسلامية رغم تعظيم المسلمين للقرآن، إلا أن التقديس أحيانا يذهب إلى الشروح وشروح الشروح، وهي اجتهادات فردية حلت قداستها محل الآية موضع الشرح!.
 
عدنان إبراهيم وحسن فرحان المالكي، هما بحق حالة خاصة تجمع بين سعة العلم وعمق الفهم والشجاعة، المفارقة ـ وهنا يأتي الشك في هاتين الشخصيتين ـ أن كل سعة العلم وعمق الفهم والشجاعة تختفي فجأة، لتظهر شخصيتان مغايرتان تماما، شخصيتان غارقتان في الشتات والتيه والتخبط، وكأن هنالك زرّا، ما إن يتم الضغط عليه حتى يسقط من كان في القمة منهما إلى القاع فورا وبلا مقدمات.
 
عدنان إبراهيم الذي يتخذ من العقل قاضيا له على كل أمر، هذا الرجل الذي يُقنع المستمع بالمنطق أن العقل هو الميزان، نراه فجأة ينحدر إلى منطقة اللا عقلانية أبدا، إلى منطقة لا منطق فيها على الإطلاق، وكيف أنه حين كان يتفكر في ماله أحلال هو أم فيه شبهات أتاه SMS باللغة الألمانية يخبره أن كل أمواله حلال! وكيف أن والده رأى في المنام أنه يُؤذن وحين استيقظ وذهب إلى المسجد جاءه أحد المصلين وسأله: لماذا تُنغم في الأذان؟! وكيف أن جماعة من الجن قدموا إليه طالبين منه الدعاء لهم، هذا بغض النظر عن عقدة الأنا التي دائما ما تردي بالرجل إلى القاع.
 
أما حسن بن فرحان الذي يتخذ من القرآن حكما له في كل أمر، نراه لا يُحكمه إلا ما ندر فيما يخص المذهب الشيعي!، هذا التناقض غريب عجيب، وأمر لم أستطع إيجاد تفسير له، فهو كالأسد حين ينتقد المذهب السني، وكالحمل الوديع حين يتحدث عن المذهب الشيعي. والمفكر عليه أن يتحلى بالإنصاف والوقوف على الحياد، كما وقف المفكر الشيعي علي شريعتي على سبيل المثال، هذا بغض النظر عن عقدة الماضي التي تلازم الشيخ في كل شأن حتى إنه ندم حين سمى صغير الضأن الذي كان يملكه باسم "مروان"!.
 
وإن كانت "النرجسية" علة الأول، وهي علة أحيانا ترافق المفكرين والفلاسفة، إلا أن الله أعلم العالمين بعلة الثاني.
 
سأضع القلم، وسأكتفي بطرح السؤال المعنون به المقال: "مفكران أم…؟"، وضع عزيزي القارئ مكان النقاط الثلاث ما شئت، إن شئت فقل: مجنونَين أو مضطربَين أو غير سويَين، أو قد يكونان سويين، وما بهما من علل ليست إلا عللا ترافق المفكرين والفلاسفة في كل زمان ومكان، وإن كانت كذلك فعلا، فكيف تحلى المفكرون الإسلاميون الواردة أسماؤهم في المقال بالاتزان؟!

"بنو جام"

لست هنا لتقييم فرقة أو طائفة، إنما للبحث عن ثقافة الطاعة، أتحدث عن "الجامية" كفِكر ونهج تغير تماماً وتوسع كثيراً حتى تخطى حدود الجماعة السلفية المحدودة التي ظهرت على يد الأستاذ الشيخ محمد أمان الجامي -رحمه الله- حتى أصبح كثير من الأدباء والشعراء والرياضيين والمثقفين وغيرهم أعضاء بارزين في جماعة "الجامية"، وإن من بعيد.

إن من يقرأ عن "الجامية" أو يقرأ لها، سيجد تطرفاً في كلا الاتجاهين، فخصوم "الجامية" قد شيطنوها، وهي في المقابل قد شيطنتهم. اتهامات مُتبادلة في كل الاتجاهات، وتراشق بالألفاظ قد أصاب الجميع، وركيزة كل الجدالات تدور حول مفهوم "الطاعة" هل هي عمياء أم نسبية؟ فهل هي عمياء أم نسبية؟ لا يهم.

المهم أن هذا الكم من الجدالات قادر على ليّ أعناق الحقائق كلها، قادر على تزييف الوعي كاملا، فإن صح ما يُقال عنها أو لم يصح، إن صح ما ينُسب إليها أو لم يصح، وسواء أكانت على حق أم على باطل، تبقى الحقيقة أن "الجامية" اليوم ليست ما كانت عليه بالأمس، فالأفكار قد تبدلت والخصوم استناروا والوصول إلى المعلومة بات أسرع من الخاطر. اليوم ما عاد مجنون بني عامر "قيس" مستفرداً بالغناء إلى ليلى، فكل بات يرى أن من حقه التقرير بين خطب ود ليلى أو الامتناع عن خطب ودها.

"الجامية" اليوم ما عادت محدودة بحيِّز جغرافي محدد "الخليج"؛ فقد تفرعت وتوسعت كفِكر في الوطن العربي كله، حتى اختفت ملامحها الأولى تماماً، وباتت تحمل ملامح جديدة تكاد لا تُشبهها، والسر في هذا الانتشار، لا أراه يعود إلى قوة الطرح، إنما لمحاكاة هذا الفِكر لطبائع الإنسان، فالإنسان الذي جُبِل على مفاهيم كالحرية والرغبة في الاستقلالية، هو نفسه الذي يحمل هم تحقيق مصالحه كطبع أصيل، هذان الأمران في الإنسان دائماً في حالة تعارض، وغالباً تنتصر المصلحة على حساب الحرية.

إذاً، يُمكِن القول: إن الفِكر الجامي اليوم، تحول إلى فِكر غايته تحقيق مصلحة، تحول إلى فِكر يحمله غُلاة لا مُصلِحون كما بدأ الأمر، غُلاة يؤمِنون بأن كل مسؤولٍ لابد وأن يُطاع كواجب شرعي وأن في عدم طاعته خروجا عليه، كما حدث مع "القذافي" الذي أنكر السُنة وحرف القرآن وشتم الصحابة، ثم جاء من يُصرِح علانية بأن من لا يُطيعه فهو من الخوارج!

لابد للجامية في الوطن العربي، أن يعودوا إلى منطقة الاعتدال في الطرح، فغلاتهم قد شوهوا صورتهم في أعين الكثيرين، لا بد من إعادة غربلة لكل هذا الفِكر، يقول تعالى: "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم".. الآية تقول: "منكم" وغلاة "الجامية" قد حولوها اليوم إلى "عليكم"، وهذا تغيير بسيط في الشكل، لكنه عميق جداً في المعنى.

"منكم" لها معان متعددة منها، أولو الأمر الملتزمون بأمر الله ورسوله كما أشارت الآية، والله يأمر بالعدل والإحسان وينهى عن الفحشاء والمنكر، بينما "عليكم" لها معان أخرى تشمل كل مسؤول حتى الآمِر بالفحشاء والمنكر، الناهي عن العدل والإحسان، "منكم" فيها رحمة ومساواة بينما "عليكم"، من لفظها تظهر فيها معان كلها تسلط، وغلاة "الجامية" اليوم باتوا يرون كل ولي أمر مُطاع وإن كان متسلطاً على المسلمين.

لماذا الحديث عن "الجامية"؟ لما طالها اليوم من تشويه، تشويه من الداخل والخارج، تشويه لا يخدم مصلحة هذه الفرقة التي بدأت بأفكار معتدلة جميلة وأضافت الشيء الكثير، تشويه إذا ما استمر، فلا متضرر إلا واقع المسلمين.

إن جيل اليوم لن يقتنع بتلك السهولة، إنه جيل مختلف، يسأل ويسأل، وبين السؤال والسؤال يضع ألف سؤال، يسأل عن حدود الطاعة الواجبة، وعن صفات المُطاع، وعن نهج الطاعة، عن الفرق بين الطاعة والانصياع، جيل اليوم يسأل: هل الطاعة عمياء أم نسبية؟ فإن كانت عمياء سيعدها رزية، أما إن كانت نسبية فكل حديث حينها مباح.

في الختام: "الجامية" لم تأت بشيء جديد، هذه حقيقة على خصوم "الجامية" تقبلها، فمفهوم الطاعة في ثقافاتنا يزيد بمراحل عما تعرفه معظم الثقافات الأخرى، إنها قيمة اجتماعية نعتز بها، فضيلة نتمسك بها حفاظاً على بنيان المجتمع بشكل سليم، كل ما في الأمر أن الطاعة في زمن التِّيه البائس باتت قناعاً يُخفي وراءه كل معاني الانصياع، كل ما في الأمر أن نُعيد مراجعة مسلماتنا واختبارها من جديد، وفي طريقنا فلنعد إلى مفهوم الطاعة ملامحه التي تاهت وسط غبار معارك "الجامية" وخصومها.

خواطر "داعشية"

ذهب رمضان والناس فيه كانوا بين قارئ للقرآن، وساع لإفطار الصائمين، ومعتكف في مسجده، إلا أنني في رمضان هذا العام، وبلا قصد أو تخطيط، رحت أتابع المقاطع المنسوبة إلى "داعش" بشكل شبه يومي، حتى أصابتني البلادة تجاه مناظر الدم، وبدأت أعتقد أن كل هذا القتل للترفيه!.
لماذا الوحشية المفرطة في القتل؟، لماذا الإصرار على إبراز هذه الكمية من الجهل بالدين؟، لماذا العودة إلى مصطلحات قد اندثرت "الإمامة العظمى، الخلافة، الجزية"؟، أسئلة تقود في الأخير إلى أن الأمر كله فعلا ترفيه، لا لترفيه المشاهد البسيط، إنما لترفيه شياطين السياسة من بشار إلى إيران مرورا ببعض العلمانيين والمتأمركين، جميعهم فرحون مستبشرون بكل هذا القتل الداعشي.
إن "داعش" ليست أكثر من فقاعة وستنتهي قريبا، وحين تنتهي لن يهتم أحد بأمرها وأمر كل أفرادها وأمرائها، سواء قُتِلوا أو زُج بهم في غياهب السجون، لا أحد سيهتم، إلا أن الأثر الذي ستُخلِفه "داعش" هو الثمر الذي يتلهف الجميع إلى قطفه، وإنهم لقاطفوه كما قطفوه مرارا وتكرارا، فدائما ما إن تنتهي فقاعة إسلامية من عملها حتى تكون هنالك مبادئ شيطانية وأهداف سياسية والكثير من الاستبداد قد تحقق على أرض الواقع، أما الجماعة المنفدة فليس لها إلا خفي حنين والكثير من الشتم.
بشار الأسد وإعلامه وحسن نصرالله وإيران وبعض الساسة العرب، الكل كان يروج لفكرة أن حزب البعث يحارب الإرهاب في سورية، وحين لم يكن على أرض الواقع سوى شعب أعزل يُباد، ظهرت "داعش" لتُؤكِد على صحة ما قاله كل شيطان، أي إن مهمة "داعش" الرئيسة أن تُعيد الشرعية لكل من فقد شرعيته، ولهم في القتل مآرب أخرى.
كل ما سبق لا يحتاج إلى توضيح؛ لأنه واضح للجميع، فخدمة الشياطين كانت المهمة الرئيسة لأغلب الجماعات الإسلامية، إلا أن ما جعلني أندهش فعلا، هو حالة الاستغراب التي اعترت بعض الكُّتاب والمفكرين والمحللين السياسيين ورجال الدين، لماذا يستغرب كل هؤلاء من "داعش" وأخواتها "الميليشيات الشيعية والسنية"؟، هل كانوا يتوقعون مثلا ظهور جماعة إسلامية تقوم بتوزيع الورود والابتسامات على المسلمين؟
ماذا نتوقع ونيران المعارك بين أتباع المذاهب المختلفة لا تنطفئ؟، ماذا نتوقع وأتباع كل مذهب قد حولوا مبادئ وقيم مذهبهم إلى سجن يُزج فيه التابع من المهد، ويُمنع عنه حق الرفض وحرية الاختيار؟، ماذا نتوقع والشعائر في أغلب المذاهب حادة، إما أن تلتزم أو تُشوى في نار جهنم؟، ماذا نتوقع وكل جماعة تزعم أنها الفرقة الناجية والآخرين من الهالكين؟
إن "داعش" وأخواتها هي النتيجة المتوقعة والمنطقية لكل هذه الفوضى التي نعيشها، بل لو لم تظهر أي من هذه التنظيمات حينها يحق لنا أن نستغرب، فإسلام اليوم يعيش فوضى الانتماءات وصراعات دامية على القشور ومبالغة في الالتزام بالمظاهر، وفي مثل هذا الجو العاصف طبيعي أن يكون الفرد مهيأً للانقياد الأعمى خلف كل ناعق، ولو أضفنا إلى ما سبق الكثير من الجهل والبطالة والفساد، سيتضح بأن ها هنا حشودا مهيأة لأن تكون بيادق في كل صراع دموي.
بيادق من شباب المسلمين، فيهم الغني والفقير، فيهم الجاهل والمتعلم، يعنيني هنا وفي المقام الأول هؤلاء الشباب "البيادق"، كيف تحولهم تلك الجماعات إلى وحوش تقتل وتعذب بلا رحمة؟، كيف تجعلهم يجمعون بين كل الممارسات البشعة المقززة من قتل وصلب وخنق ونحر وبين صيحات التكبير وترديد آيات القرآن وأناشيد الجهاد؟، هل هؤلاء الشباب "أبناؤنا" يخبئون هذه السادية عميقا داخل جلودهم بينما هم معنا؟، أم إن تلك الجماعات تعرف كيف تبدل جلودهم وتقلبهم علينا؟
كيف يكون طريق أحدهم إلى الجنة مفروشا بالأحقاد؟، كيف يكون الطريق إلى نعيم لا يزول كله بغضاء؟، أدرك أن قادة "داعش" وأغلب هذه التنظيمات يُنفِذون أجندة الشياطين، لكن غالبية الشباب المنتمون لمثل هذه التنظيمات غايتهم الفوز بإحدى الحسنيين بكل سذاجة.
إنهم لم يُولدوا هكذا، لم تحولهم الظروف إلى وحوش، فكم جاهل لم يتطرف!، وكم عاطل عن العمل لم يكره الجميع! إن الإنسان يمتلك القدرة على إذابة كل الظروف الصعبة وتقبلها والعيش معها والتعلم منها، لكنها جرثومة تُصيب عقل البعض لتتركه عاجزا عن إذابة كل هذا الشتات الذي يعيشه.
الخلل فيهم، بأيديهم يحولون أنفسهم إلى وقود لمعارك لا ناقة لهم فيها ولا جمل، إنهم حين عجزوا عن الاستفادة من مرارة واقعهم، أعلنوا السخط عليه بالكامل، والسخط على الواقع دائما يأتي مصحوبا بشوق إلى واقع في عرف المجهول، واقع كله أمنيات، حيث العدل فيه مطلق، عدل مرهون بالخلافة، واقع حيث الخليفة فيه يفرض الجزية على باقي الأمم بكل كبرياء، واقع حيث يمارس فيه المسلم دور القاضي والجلاد في آن.
إنها جرثومة الفرار من حاضر سيئ إلى مستقبل أسوأ، إنهم يمنون أنفسهم بغد أجمل حسب الشروط، وهذا هو المدخل لتجنيدهم في تنظيمات مثل "داعش"، التي توهمهم بقدرتها على تحقيق ذلك المستقبل الجميل وإن كان الإسلام فيه مشوها غريبا.

أنا وابن عمي والغريب على غزة

أحياناً تأتي الفكرة إلى المرء فيكتب، وهذا ما يعرف بالإلهام، أحياناً تكون الكتابة مجرد روتين فيكتب المرء بلا روح، أحياناً تأتي الكتابة من أجل المادة أو مسح جوخ. أحيانا وأحيانا وللكتابة أحايين لا تعد وغايات لا تحصى، اليوم سأكون عاطفيا وسأنتقي الاستفزاز كدافع للكتابة، سأكتب -عن وليس إلى- عن الذين يستفزون الجميع لا إليهم، لأن الكتابة إليهم لن تجد آذاناً صاغية أو قلوباً تعقل.

عن المستفزين بأصواتهم وكتاباتهم وتحليلاتهم وقبحهم وتبريراتهم الأقبح، عن الذين يشاركوننا الدين والدم والأرض والعروبة ثم نراهم يتصهينون، عن المتصهينين أكثر من قاطني تل أبيب، بل إن في إسرائيل من هم أكثر إنسانية من هؤلاء، بل إن كل من في إسرائيل حتى أشدهم تطرفاً أكثر إنسانية من هؤلاء، لأن ولاء متطرفي اليهود إلى بني جلدتهم وهؤلاء يكرهون بني جلدتهم.
أريد أن أكتب عن مزامير بني صهيون، الذين حولوا مقولة: "أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب"، إلى مقولة: "أنا وابن عمي والغريب على أخي"!، لأن أخي مع حماس، وحماس تتبع الإخوان!، فهل حماس هي غزة؟ هل غزة كلها مع حماس؟ هل الجميع هنالك من الإخوان؟ هل كره حماس والإخوان مبرر لأحدهم أن يغرق حتى أذنيه في وحل التصهين؟ هل الارتماء في أحضان إسرائيل والتغني بها هو الحل؟ ألا يمكن أن نعتد بأنفسنا، ألا نبحث دائماً عن الحل لدى الآخرين؟ أو -وهذا أضعف الإيمان- أن نجمع بين انتقاد حماس والإخوان وتبيين أخطائهم وبين تجريم إسرائيل؟ ما الذي يحدث!
إن مزامير بني صهيون موجودة منذ بدء الاحتلال، إلا أنهم اليوم أكثر صراحة ووضوحا ومباشرة، يخرج أحدهم معلقاً على قصف غزة بقوله: "إن غزة لا تُقصف إنما يتم تنظيفها من حماس، فاللهم زد وبارك"!. إن مثل هذا لا يكره حماس إنه يهيم عشقاً بإسرائيل، إنه إن لم يجد أمامه حماس ليحملها جريرة تصهينه لأوجد ألف عذر آخر، لقال: إن الحجر في يد الطفل الفلسطيني هو المتسبب الأول في هذه المعركة، وإلا فإسرائيل لا تبدأ من تلقاء نفسها بالقصف. وهكذا نجدهم بارعون جداً في إيجاد التبريرات التي تُظهِر إسرائيل بأنها مجرد حمل وديع.
نعم من حق الجميع أن ينتقد ويعري حماس والإخوان ويبين أخطاء هذه التنظيمات للعلن، هذا حق لمن يرى حماس والإخوان على خطأ، وكثيرون يرون هذه المنظمات على خطأ، إلا أن المسألة بالنسبة لمزامير بني صهيون ليست "حماس" ولا "الإخوان"، المسألة لهؤلاء كما وضحتها "ليفني" بقولها: إن هؤلاء سفراء إسرائيل لدى العالم العربي، وهم أفضل من يوصل وجهة النظر الإسرائيلية إلى الشارع العربي. إذاً المسألة برمتها لا تعدو كونها تصهينا لاستفزاز مشاعر أكثر من مليار مسلم، وما حماس والإخوان بالنسبة لهم إلا أعذارا، أعذار إن لم توجد لتعذروا بحجارة أطفال غزة.
إنها كذلك مسألة أهداف وغايات، أن تنتشر روح الإنهزامية واللامبالاة في المسلمين، أن يصبح رغيف الخبز بالنسبة للمسلم أهم بدرجات من كل فلسطين.
إنهم ماضون إلى تحقيق أهدافهم، بل إنهم قد قطعوا شوطاً طويلاً إلى أهدافهم، وإننا نعيش بعض نجاحاتهم، فها نحن بعد أن كنا نبكي على مقتل طفل واحد في فلسطين "محمد الدرة" أصبحنا لا نتأثر حتى وإن حدثت مجزرة، ها نحن اليوم غير مبالين غير عابئين، وإن "اللا مبالين" دائماً يدخلـون مزبلة التاريخ مع الداخلين.
أريد أن أكتب عن هؤلاء، عن ضمائرهم، عن خططهم وأهدافهم، وكيف أن شعار مزامير بني صهيون اليوم: اليهود أبناء عمومتنا، سنشد على أزرهم ونشجعهم على قتل أخ لنا في غزة نِكالاً في حماس!. سيدون التاريخ هذا الشعار، وسيلعنهم التاريخ لهذا الشعار.
أريد أن أشتمهم أكثر، أن أكون عاطفياً أكثر، لكن ماذا أكتب وملامحهم تفضحهم؟ ماذا أوضح وضمائرهم أوضح؟ وها نحن نرى كيف تتضح ملامحهم أكثر كلما نزف دم طفل في فلسطين، وإن كان لإسرائيل حسنة فإن هذه هي حسنتها، أنها كلما خاضت معركة خسرت، وكلما خسرت معركة تعري ألف عربي.

"الخرفنة".. من الماضي إلى الحاضر!


 
"خروف"، "متخرفن"، "تخرفن".. مصطلحات تقال في حق بعض الشباب والرجال للتقليل من قيمتهم والتشكيك في شخصياتهم ورجولتهم، قد تقال في حق الزوج الذي يطيع زوجته طاعة عمياء وإن كانت طلباتها تقسم ظهر البعير، قد تقال في حق الشاب الذي يفقد توازنه أمام أي فتاة عابرة، أو ذلك الذي يرى كل أنثى تمر أمامه "مزة"، فيتركها تقوده كيفما شاءت، مبتسماً بينما يقاد.
 
أما "المزة"، فالمفترض أن هذا المصطلح خاص بالمرأة أو الفتاة التي تتمتع بمواصفات جمالية عالية، إلا أنه في الحقيقة مصطلح يطلق في حق كثير من المتسكعات المائلات المميلات، المحترفات تصيد "الفاغرين" من الرجال. و"المزة" في المعجم العربي وصف لا خير فيه ويرتبط في الغالب بالخمر. يقول أبو نواس:
اسقني واسق يوسفا
مُزةَ الطعم قرقفا
 
إن العلاقة بين "المزة والخروف" ليست بالعلاقة الجديدة نظير هذا الانفتاح الذي نعيشه، إنها علاقة قديمة قِدم اهتمام المرأة بجمالها، فقد وعت المرأة وهي تهتم بجمالها لا "لتخرفن" الرجل إنما لتغيظ قريناتها، تضع مساحيق تجميل تكفي لطلاء واجهة عمارة؛ لتثير غيرة باقي النساء، ثم "تخرفن" بعض الرجال في المقابل كنتيجة لكل هذا الطلاء، أي أن عملية "الخرفنة" نتيجة وليست غاية، ولو كانت "الخرفنة" غاية لما احتاجت المرأة إلى كل هذا، لأن الخروف "سيتخرفن" بأقل مجهود وأرخص مكياج.
 
ها هي "كليوباترا السابعة" ملكة مصر القديمة، أول امرأة تستخدم مساحيق التجميل، فكانت النتيجة أن "يوليوس قيصر" الجنرال والقائد السياسي وأول من أطلق على نفسه لقب إمبراطور "تخرفن" أمامها، ومن يومها أعلن الحرب على كل أعدائها والمعارضين لها حتى هزمهم جميعاً، ثم أعادها إلى العرش معززة مكرمة، وفي الأخير خانته وأنجبت "قيصرون" ثم أقنعته بأنه والد هذا الطفل فاقتنع "المتخرفن".
 
أما في الأدب العربي، فيقول عنترة عن عبلة:
فولت حياءً ثم أرخت لثامها
وقد نثرت من خدها رطِب الورد
 
ها هي قد أرخت لثامها تصنعاً فتسمرت عيناه على خدها عن قناعة، فكانت النتيجة أن تقدم إلى أبيها، إلا أنه تفاجأ بأبيها يطلب منه ألف ناقة من نوّق الملك النعمان الملقبة بالعصافير مهراً لعبلة، فوافق عنترة وخاض الصعاب لإحضار المهر المطلوب، "تمرمط" بكل ما في "المرمطة" من معنى، اعترضته العواصف وتحدى السباع وغرق في رمال صحراء الربع الخالي وتعرض للأسر إلى أن نجح.
 
وحين تقدم بالمهر إلى والد عبلة فوجئ بالرفض القاطع! وأكثر من الرفض هو ذلك الإعلان الذي سرى في كل القبائل بأن من أراد الزواج من عبلة عليه أن يقدم رأس عنترة مهراً لها، ليدخل عنترة في "مرمطة" جديدة، ويواجه الفرسان واحداً تلو الآخر حتى تعرض للهزيمة، لينتهي به المطاف وهو يُقبِل ذا الجدار وذا الجدار. نعم عنترة فارس لا يشق له غبار، إلا أن عبلة نجحت في "خرفنته" من أجل نوّق العصافير لا أكثر.
 
وها هي قصة تتكرر في كل الثقافات، قصة ذلك الناسك الزاهد المعتكف في محرابه منذ أربعين عاما يتعبد ويتفكر ويتأمل، وكيف أنه في إحدى الليالي صعد إلى سطح المعبد ليتأمل في ملكوت الله فوقعت عيناه بالصدفة على "مزة" تنشر الغسيل، وكانت هذه النظرة كفيلة بإخراجه من صومعته لا ينوي إلا خطب ودها، فقابلها وصارحها بحبه، إلا أنها رفضته لأنه ليس على دينها، فارتد عن دينه بلا تردد، إلا أنها ماطلته وماطلته حتى شُوهِد هائماً بين الطرقات يقارع خمراً يذكرها ويصرخ باسمها المنقوش وشماً على كتفه وقفاه! إن هذه الحالة هي أدنى درجات "الخرفنة" وتسمى اصطلاحا بـ"الحميّرة".
 
فيا عزيزي "المتخرفن": إن "خرفنتك" ضمن السياق الإنساني العام، فلا تجزع، اقرأ الأحداث من الماضي البعيد حتى الحاضر ستجدها تعج بقصص "المزز والخرفان" وكثير من عمليات "الخرفنة"، بل ستتفاجأ بأن "الخرفنة" كثيراً ما أثرت التاريخ وكم غيرت في مجراه، أي أنك لست استثناء فلا تجزع.
 
ثم أعد قراءة هذا المقال وحين تنتهي ردد: "الحمد لله على أنها جات على بطاقات الشحن"، وأحمد الله أنك لا تملك أكثر من قيمة تلك البطاقات؛ لأن هنالك من هو أسوأ منك وهو "المتخرفن" من أصحاب الملايين، فتراه يسافر شرقاً ويسافر غرباً بحثاً عن "مزز" يقدنه كما تقاد الخِراف، وأي فتاة ملهى مبتدئة تسحبه كما تشاء وتسحب منه ما تشاء، وليس هنالك مقابل يناله مثل هذا "المتخرفن"، فالملايين تستنزف السنين، والسنون تستنزف الصحة، حينها يكون المقابل الوحيد الذي يناله المتصابي المليونير مجرد أحاديث ودردشة.
 
في الختام: تبقى "الخرفنة" حرفة قديمة تتجدد مع كل جيل، فللجيل السابق "خرفنته" التي تختلف عن "خرفنة" الجيل الحالي، و"خرفنة" الجيل القادم حتماً ستختلف، كذلك هي حرفة تختلف من مجتمع لآخر ومن مهنة لأخرى، وقانا الله شر "الخرفنة والمُمزمزات" من النساء.

حين اعتزلت متابعة الكرة السعودية



الآن، حين أفكر في سبب اعتزال متابعة الكرة السعودية، أقول: ربما كان الأمر من باب الحفاظ على الصحة، تجنبا لأمراض الضغط والسكر والقولون والأمراض النفسية؛ ولأنني ما عدت قادرا على التعلق بالأمل أكثر، ما عاد في استطاعتي أن أتتبع أخبار الفشل تلو الفشل، ممنيا النفس بالنجاح ولا نجاح في الأفق.

هذا جانب من الحقيقة، وللحقيقة ألف وجه، أحد تلك الأوجه أنني فقدت حلاوة متابعة الكرة السعودية، فقدت شغف تشجيع المنتخب السعودي، فقدت كل هذا في اللحظة التي فقدت فيها الكرة السعودية رونقها وما عادت لها هيبة، في اللحظة التي بدأت فيها الأندية ترفع شعار "نفسي نفسي"، حيث مصلحة النادي تعلو على مصلحة المنتخب، في اللحظة التي بدأت فيها أخبار رمي قوارير الماء على أرضية الملعب تتصدر عناوين الصحف لعدم وجود إنجازات أخرى تذكر.

نعم، قررت اعتزال متابعة الكرة السعودية، إلا أن الوطنية كثيرا ما أرغمتني على العدول عن هذا القرار، فأعود لأتابع مجددا ولا جديد، كلما عدت للمتابعة وجدت واقع الكرة السعودية ما يزال غير محفِز على المتابعة، شللية ومجاملات وتخبطات، تعصب إعلامي، إعلام رياضي سلبي، رؤساء أندية ما يزال بعضهم يعتقد أن الكثير من المال يكفي لعلاج كل المشاكل، أندية كبيرة تعيش على إحسان أعضاء الشرف والصغيرة منها على باب الله، محللون رياضيون من كل حدب ينسلون.. أسأل نفسي وسط هذا الواقع المرير: كيف بالله ستعود حلاوة تشجيع الكرة السعودية؟!

إن الشباب السعودي يلعبون كرة القدم تحت الكباري، على الإسفلت، حفاة في عز الظهيرة، يلعبون بحماس في مواجهة خطر السيارات العابرة، يضعون الأحذية مكان المرمى، ويرسمون بما بقي منها حدودا للملعب، إنه شغف وهوس بالكرة قلَّ أن يوجد له نظير في دول العالم، حواري لا تهدأ على مدار اليوم وطيلة العام، بطولات تقام في رمضان، وفي الصيف، وبين البطولة والبطولة هنالك بطولة تقام، عشق الكرة يجري في دماء الشباب السعودي، والموسف أن يُقابل هذا الجمهور بمثل هذا المستوى الكروي.

هذا الجمهور يحضر بالآلاف لمشاهدة مباراة في إحدى الحواري، وحين تقام مباراة رسمية في ملعب بإمكانيات أفضل لا يحضر إلا بالمئات وربما العشرات! إنها ثقة مفقودة يصحبها ألم وإحباط، صحيح هنالك سوء خدمات في الملاعب، إلا أن هذا ليس بالسبب الرئيس في العزوف عن الحضور.

إن السبب هو غياب الثقة نظير تردي المستوى وغياب النتائج والهبوط في التصنيف العالمي، هذا الهبوط الذي ـ ومنذ أن بدأ ـ وهو مستمر إلى أردأ.

ما نزع هذه الثقة هو هذه الحالة من الفوضى التي تعيشها الكرة السعودية، فوضى ليس لها مثيل، تغير المدربون، تغيرت الإدارات، تغير اللاعبون، وما يزال الفشل والتخبط يملآن الأجواء، تغير كل شيء إلا الثقافة بقيت كما هي، ثقافة تتطاير خلالها تصريحات مسؤولي الأندية بين بعضهم البعض كالحجارة، فتصيب اللاعبين والجمهور، ثقافة فيها يتبرع البعض من أعضاء الشرف للأندية من أجل الدعاية لمكاتب العقار ومعارض السيارات التي يمتلكونها، ثقافة تعشش فيها أفكار الدسائس والمؤامرات، ثقافةٌ كثيرون فيها يبحثون عن تحقيق نتيجة وقتية؛ حتى تسجل لصالح إدارة فلان وعلان وليذهب المستقبل والتخطيط الاستراتيجي غير مأسوف عليه.

ما الحل؟ كيف تعود الكرة السعودية إلى المسار الصحيح؟ من يعيد للكرة السعودية هيبتها؟ ما الذي سيعيد للمشجع شغفه بالتشجيع؟ من سيداوي هذا الجرح الغائر بين الجمهور والمنتخب؟ من سيعيد ثقة الجمهور في الكرة السعودية؟.

هل الحل في الخصخصة؟، أم في الاحتراف الخارجي؟، أم في الأكاديميات؟، أم في التوقف عن نفخ اللاعبين بكل هذه الملايين؟، هل يجب أن يبدأ الحل في البحث عن لعبة أخرى لنلتف حولها، "الكريكت" مثلا؟!، لا أدرى.

لن أنشغل بالبحث عن الحل، أو عمن يمتلك الحل، فمتعة مشاهدة كأس العالم في البرازيل أهم وأولى الآن، هذا المونديال الذي شاهدت خلاله مباراة "ألمانيا والبرتغال"، فلم تشدني الأهداف الأربعة، ولا الإحباط الذي بدا واضحا على ملامح "رونالدو"، إنما شدني في المباراة خبر أورده المعلق وهو يستعرض نتائج "ألمانيا" خلال تاريخها المونديالي، تحديدا حين قال: إن أعلى نتيجة حققتها "ألمانيا" في تاريخ مشاركاتها هو فوزها على السعودية بثمانية أهداف.

تذكرت على الفور أن تلك هي اللحظة التي قررت فيها اعتزال متابعة الكرة السعودية، تجنبا لأمراض الضغط والسكر والقولون، نعم لقد كان قرارا انفعاليا عاطفيا، كان من الممكن العدول عنه مع الوقت، إلا أن الكرة السعودية ـ ومنذ تلك المباراة ـ وهي تأبى مداواة الجراح، "ثمانية النكبة" كانت بمثابة صعقة كهربائية تعرض لها الجمهور، ومنذ تلك النكبة والجمهور ما يزال يتعرض للصعق الكهربائي حتى اليوم، ويبدو أن "الاتحاد السعودي" "استحلى الشغلة"، وبات يمتلك خبراء في الصعق الكهربائي، وفي رأيي أن الكرة السعودية باتحادها وإدارات أنديتها في حاجة إلى صدمة كهربائية؛ لإنعاش هذا الكيان، وبث الحياة فيه من جديد.

قبل أن تزول النعمة


أحداث اليوم هي نتيجة لما حدث بالأمس، كذلك أحداث الغد ستكون نتيجة لما يحدث اليوم، ولا يمكن الفصل بين الأمس واليوم والغد، فالأحداث والوقائع بين هذه الأزمنة تأتي مترابطة متلازمة.

المسألة كبناء يتكون من عدة طوابق لا يمكن تعليق طابق في الهواء بلا اتصال بين طابقين أو استناد على طابق، كذلك لا يمكن ألا يتأثر الحاضر بالأمس، وألا يؤثر على الغد.

اليوم نحن ولله الحمد نعيش في ترف، هذا الترف والنعيم لم يأت بلا مقدمات، إنما جاء نتيجة تضحيات الأمس، لقد كان هذا الوطن بِكرا في بداياته، ولم يبلغ الرشد إلا بالكثير من التضحيات والجهود المضنية، والسير في طرق شاقة دامية غير معبدة، لقد وضع الجيل السابق اللبنات الأولى في ظروف شديدة صعبة؛ من أجل الوصول بالوطن إلى هذا الترف الذي نعيشه اليوم.

والمؤسف أن تؤول مجهودات الماضي إلى هذا الواقع، الواقع الذي نعيشه لنستهلك لا نستهلك لنعيش، نأكل لنأكل ونتكاثر لنستهلك ثم نستهلك لنأكل ونتكاثر، نستهلك لمجرد الاستهلاك هكذا بلا هدف كأن هذا الترف سيدوم إلى الأبد، وإنه وإن زال ـ لا سمح الله ـ فبأيدينا حين أسرفنا ونسينا حياة الأمس وغضضنا الطرف عن قراءة تاريخ الأمم السابقة والمجتمعات من حولنا، كيف كانوا وإلى أين انتهى بهم الحال.

لقد فقدنا نظرتنا إلى الغد في ظل هذا الترف الذي نعيشه اليوم، نرفل في النعيم متناسين أن حياتنا لا تصمد بذاتها، إنما تحتاج إلى رعاية دائمة مستمرة، أو سنسقط في ظل عوامل تعرية لا ترحم، نعيش الحاضر كأن نعيمه دائم لا يزول، فقدنا التبصر بعواقب الأمور، أو ربما تكون المسألة استهتارا وعدم حكمة.
نعم، ليس الجميع مسرفين مبذرين، إلا أن الإسراف والتبذير باتا ثقافة يتشارك فيها كثير من الأغنياء وميسوري الحال والفقراء. أغنياء يسرفون وآخرون يقترضون ليقلدوا "وكلهم سفهاء".

إن كان الغني وميسور الحال يملك المادة التي تساعده على الإسراف، فهو لا يملك الحق حتى يبذرها كيفما شاء، ويجب أن يعاقب المسرف على إسرافه، ليس حفاظا على الموارد فقط، إنما حتى لا يتحول الإسراف والتبذير إلى ثقافة أكثر مما هي عليه الآن. الموارد ليست لليوم فقط إنما للغد أيضا، للأجيال القادمة التي ستعاني جراء هذا التبذير والاستهتار.
يأتي لأحدنا ضيف فيذبح له ذبيحة لا يؤكل منها إلا لقيمات ليرمي الباقي في المزبلة. في المناسبات الاجتماعية المختلفة "يهايط" الكثيرون سعيا وراء المدح والثناء ليلقي بعدها كل شيء "المدح والثناء والطعام" في القمامة حتى قبل أن يذهب المدعوون. تتناقل مواقع التواصل بين الفترة والأخرى صورا ومقاطع لأكوام من الأرز واللحم وهي ملقاة فوق التراب، وصورا ومقاطع أخرى لصحن ضخم يتوسطه "حاشي" وحوله مجموعة خراف، رغم أن المدعويين لا يتجاوزون الخمسين. يدخل أحدنا مطعما فيطلب فوق طاقته، ليترك ما بقي للمزبلة. سيحاسبنا الله على كل هذا، سنتجرع مرارة هذا الهدر غير المسؤول.

أحد الأفغان بكى حين رأى الطعام هنا في حاويات القمامة بجانب الأوساخ، ثم قال: لقد كانت أفغانستان دولة متمدنة وكنا مرفهين فيها، وقد تذكرت وأنا أشاهد كل هذا الطعام في نفاياتكم كيف كنا نلقي الطعام بنفس الطريقة، وها نحن نرى إلى أين انتهى الحال بهذه الدولة، فهل ننتظر حتى نصير إلى ما صارت إليه؟ أم نسارع إلى شكر النعم والحفاظ عليها حتى لا تزول؟!

لا يكفي أن تنشأ الجمعيات الخيرية المعنية بتلقف الطعام الزائد لإعادة توزيعه على المحتاجين، لا يكفي أن نتصدق بفائض الطعام، لا بد وأن تتكون ثقافة اعتدال ومحافظة على هذه النعم في المجتمع، ومثل هذه الثقافة لن تتكون بذاتها ولا بالتوعية والوعظ مهما كتب الكُتاب وخطب الخطباء، لا بد من فرض عقوبات قانونية في حق المسرفين والمبذرين، غرامة وعقوبة يعاقب بها كل من يهايط ويتباهى في المجتمع بهدر الطعام، ومن كان يعتقد أنه حر في ماله سيقتنع بالقانون أنه ليس حراً في هدر أمواله كيفما شاء.

قال علي بن أبي طالب "رضي الله عنه": "ما أنفقت على نفسك وأهل بيتك في غير سرف ولا تبذير وما تصدقت به فهو لك، وما أنفقت رياء وسمعة فذلك حظ الشيطان"، فلنكرم الضيف، ولنُظهر أثر النعم، لنتحل بالكرم والجود، لكن باعتدال لا إسراف ولا تبذير، بوعي وتحضر، إن الأوان لم يفت بعد، هنالك جيل سيأتي مستقبلا يستحق أن نؤمن له حياة كريمة، كما أمّن لنا الجيل السابق حياة اليوم.

أين الله؟


يظل الإنسان تائهاً مشتتاً باحثاً، يسأل عن الله والله موجود في سؤاله، إننا لا نسأل: أين العنقاء لعلمنا أنها أسطورة لا وجود لها، ولو سأل سائل هذا السؤال لحوى سؤاله قناعة بأن العنقاء حقيقة بالنسبة إليه لكنها تحتاج إلى إثبات -ولله المثل الأعلى-، سبحانه موجود حتى في عقل وكيان أعتى المشككين فيه، ودليل وجوده هو تشكيكهم فيه وبحثهم الدائم عنه، وإلا فلا أحد ينشغل بالبحث عن شيء إن كان مقتنعاً فعلاً بعدم وجوده، بمعنى آخر: أين الله؟ سؤال يقود إلى أن السائل غير مقتنع بفكرة عدم وجود إله.

أين الله؟. إنه -سبحانه- في التشابه بين الذرة داخل الخلية وبين المجموعة الشمسية وتشابه الاثنين والمجرة، دائماً هنالك نواة تدور حولها أجسام، لا شيء من هؤلاء بلا نواة ولا نواة في هؤلاء بلا قدرة جذب تحافظ بها على دوران الأجسام حولها في أفلاك محددة، المجموعات الشمسية تدور في أفلاكها حول نواة المجرة، الكواكب تدور في أفلاكها حول الشموس، الإلكترونات تدور في أفلاكها حول نواة الذرة (وكلٌ في فُلكٍ يسبحون)، ولو كان كل هذا من عند غير الله لوُجِد فيه اختلاف كبير.

أين الله؟. إنه -سبحانه- في الشفرات التي يحتويها الحمض النووي، حروف محددة تتشكل إلى عدد لا نهائي من الشفرات لتُشكِل بدورها كل أشكال الحياة، تغيير بسيط (1%) في هذه الشفرة أنتج كائنين مختلفين، أحدهما فأر والآخر إنسان! الأمر أشبه بعمل الحاسوب الذي يقرأ لغة البرمجة الأساسية (الـ 0 والـ 1) ثم يحولها إلى كل هذه البرمجيات الحاسوبية المختلفة، إنها نفس الحروف مدونة في كل الخلايا بطرق مختلفة لتُنتِج هذا العدد اللانهائي من أشكال الحياة، عملية معقدة بديعة تقودنا إلى أن خلف هذه الشفرات ذاتاً واعية.

أين الله؟. يُنسب إلى الإمام علي -كرم الله وجهه- بيت جميل يقول فيه: أتحسب أنك جرم صغير = وفيك انطوى العالم الأكبر. إن الإنسان حين يتأمل في تكوين جسده سيجده كوناً مستقلاً فيه أسرار وعجائب تفوق ما نعرفه عن الكون الفسيح، إن الخلية في جسد الإنسان، على ضآلتها، شديدة التعقيد كأنها مدينة تعج بالبشر، لكل فرد دوره المُحدد، فيها "الخلية" التي هي نظام اتصال لنقل المعلومات ومصنع لإنتاج الطاقة، إنها أكثر تعقيداً من مدينة مزدحمة تعمل بمعزل عن معرفة الإنسان فضلاً عن إرادته، كل هذا في خلية واحدة وجسد الإنسان يتكون من مليارات الخلايا تتجمع كما تتجمع الكواكب لتشكل الكون الفسيح، هنا من غير المنطقي ألا يُقال: سبحان الله.

الجنين في الرحم بدء كنطفة، هذه النطفة تحمل كل صفات المخلوق الذي ستكون عليه غداً، فتنقسم إلى خليتين كلاهما يحتفظ بكل مزاياه ثم إلى أربع فثمان إلى أن ينتهي الأمر بكائن حي مكتمل النمو، المخ والقلب والرئتان والعينان وكل شيء بدأ من خلية. البذرة التي تدفن في الأرض لتغدو شجرة تمتد إلى السماء تحتفظ بكل صفات النبات في داخلها على صغر حجمها، هنالك ملفات مُخزنة في كل خلية تحتوي كامل المعلومات عن الكائن، وكأن الحياة تحتفظ بنسخٍ عن نفسها في كل جزء من أجزائها، حتماً هنالك بديع أبدع كل هذا، وأي رأي غير القول بوجود خالق حكيم قدير فيه إسفاف بمعجزة الوجود.

إن الله -سبحانه- ليس في الذرة أو الخلية أو الكواكب والمجرات، فكل هذه أجزاء تتجمع لتشكل لوحة الوجود المنضبط المحكم الدقيق بلا خلل، حتى ما يفسره الإنسان بأنه فوضى هو في الحقيقة منضبط غاية الانضباط، وله هدف وإن لم تُدركه العقول، الكويكبات التي ضربت الأرض في بداية نشوئها حملت الماء، ولو أن الإنسان عاصر هذه العملية لوصفها بأنها ضربات فوضوية لا هدف منها.

إن معجزة هذا الوجود ليست في ما يشذ عن القاعدة، ليست في أن تتحول النار إلى برد وسلام، أو في خروج ناقة من الصخور، أو في تحول العصا إلى حية تسعى. إن تلك المعجزات التي أتى بها الأنبياء -عليهم السلام- هي خرق للنظام، شيء يظهر على غير المألوف ليُؤمِن الإنسان الكفور، ولو تمعن الإنسان ولم يكابر لوجد المعجزة الحقة أمامه تحدث كل يوم وكل لحظة، إن المعجزة في كل هذا الانضباط، في الشمس التي لم تدرك القمر، في الليل الذي لم يسبق النهار، ملايين السنين ولم يحدث أي خلل في تعاقب الليل والنهار، هذه هي المعجزة.

لكن الإنسان قد ألف الحياة واعتادها، لهذا ما عاد يدهشه الوجود، فيبحث عن دليل على وجود الله متناسياً أن تناسق هذا الوجود أمامه أعظم دليل، إن الأمر لا يحتاج إلى طرح سؤال: أين الله؟ إنما يحتاج أن نقرأ أن نتأمل ونتدبر، فإن لم تر الله في كل هذا فإنه يراك ويحيط بك من كل اتجاه، حتى داخل عقل وكيان من يزعم أنه لا يؤمن بوجود إله.

من طلب العلا نام الليالي

كم نائم طيلة يومه نال العلا، وساهر للفجر ما نال إلا الأرق، وكم ساهر حُرم طيب الحياة، وآخر غارق في نعيمها وهو في رقاد. إنها أرزاق قد كُتبت من قبل أن يولد الإنسان، أرزاق وُزعت بعدل، فمنها حلال ومنها حرام، وكلاهما في حاجة إلى كد وعمل، ومن الرزق بلاء وابتـلاء، وهذا النـوع في الغـالب ليس في حاجة إلى كد أو عمل!

هذا تاجر قد تحرى الأمانة والصدق حتى وسع الله له في الرزق، وذاك تاجر تحرى الغش والخداع حتى آتاه الله رزقه، لكلا التاجرين رزق، إلا أن رزق الأمين منهما حلال، ورزق الثاني حرام، وإن رزق الحلال في الغالب يأتي مصحوبا بمرارة؛ لأن النفس أمارة بالسوء، ليأتي تحري الحلال معاندة لها، وهي معاندة ترهق الإنسان خلاف مسايرتها؛ طمعا في الرزق الوفير الحرام، إلا أن حلاوة الرزق الحلال تُذهب مرارة الكد، بينما مطاوعة النفس تورد المهالك.

لقد نمت في خيالاتنا فكرة أن العلا لا يُنال إلا بالسهر والجد في العمل، وهذا صحيح لكنه ليس قاعدة، كما نمى في خيالاتنا أن الكسالى يندبون حظهم أبد الدهر ويلعنون الظروف، وهذا أيضا صحيح لكنه ليس قاعدة، وليس هنا استثناءات في القاعدة إنما شروخ.

قد يكون نائل العلا ناله بالوراثة أو بالوصاية، قد كان نائما طيلة حياته، لاهيا بلا مسؤولية، متململا من الراحة، ثم صحا من رقاده ليجد نفسه مهماً، أو يجد في رصيده مالا غير محدود أو معلوم ولا يساءل عنه، وإن هؤلاء موجودون دائما وفي كل زمان ومكان، ولا يحتاج الأمر لنجدهم إلا أن نتلفت حولنا كثيرا، أن نتساءل باستمرار: هل لهذا الشخص تاريخ؟، هل له إسهامات أهّلته لهذا المنصب؟، أين درس وتتلمذ واكتسب الخبرات؟، وهل تدرج في المناصب؟. هل لهذا المليونير تاريخ هو الآخر؟، هل بدأ من الصفر؟، هل يمتلك تجارة رائجة في البلاد أو مصانع أو شركات، وإن كان فهل أرباحه تؤهله لامتلاك هذه المليارات؟، والكثير من الأسئلة التي إن ولدت استفهامات أكثر من إجابات، فحينها نكون أمام حالة قد نال صاحبها العلا وهو يغط في نوم عميق.

إن المال رزق، والمنصب رزق، إلا أن المال والمنصب حين يتم الحصول عليهما بلا عمل أو بأعمال ملتوية كلها غش وخداع؛ فإنها كثيرا ما تحرم الإنسان من الرزق بمعناه الأوسع، تحرمه من رزق الطاعة والطمأنينة والحكمة، وقد يفقد هذا الإنسان رزق الأولاد البررة والزوجة الصالحة والحياة المطمئنة، وإن ظن أن الله لم يحرمه من شيء، فليسأل الناس حوله، حتما سيجد أنه قد حُرم رزق السمعة العطرة الحسنة، وإن مدحه المنافقون ومجده المتزلفون، فلينظر في المرآة.

إن الأثر الذي يتركه نائل العلا بلا عمل ـ بتوصية أو بالوراثة ـ لا يقل، بل ربما يفوق ذلك الأثر الذي يتركه متحري الرزق بالحرام، فالأمهات يدعون، والأبناء يجتهدون ويسهرون، ثم حين يجدون شخصا قد نال العلا بلا مقدمات، سيبدأ الناس في الشك من جدوى الدعوات، وتقزيم فائدة الجد والسهر، وإن كان في استطاعة الآباء حث أبنائهم على عدم التأثر بطالبي الرزق الحرام، فإنه ليس باستطاعتهم حث أبنائهم على عدم التأثر بنائلي العلا وهم نيام، سيتأثر الأبناء ويتملكهم السخط.

إن في هذا النهـج ضمان تدمير للمجتمع، فهو اغتصاب فج لحقوق الأكفاء والمجتهدين، كما فيه تحطيم لمفاهيم الجد والعمل والاجتهاد، وبالتالي انتشار لمفاهيم مدمرة، منها كفر الناس بجدوى العمل والإخلاص. سيختفي الضمير لتبرز الأنانية، والآثار الناتجة في المجتمـع؛ بسبب إجهاض أحلام الأكفاء التي لا تعد ولا تحصى.

إضافة إلى أن رغبة هؤلاء المتنعمين النائمين في الحفاظ على ما لديهم ستتلاشى فور امتلاك ما بين أيديهم؛ لأنهم في الأساس لم يكتسبوه عن جدارة، ولم يشعروا بلذة الكسب وبذل الجهد الذاتي، ومن لم يشعر بلذة الكسـب يلذّ بالتبذير والتباهي بالإسراف على سفاسف الأمور، سينتهج في الحياة نهجا يولد في نفوس الآخرين الحقد والكراهية تجاهه، سيستفزهم بقصد أو بلا قصد، وسيولد في نفوسهم الحقد والكراهية، سيعتقد أنهم يحسدونه على ما هو فيه، دون أن يدرك أن ما هو فيه لم يحصل عليه بجدارته.