حكاية غذامية


ما الغاية من الوقوف أمام المرآة؟ الجواب ليس ببساطة السؤال، فالغايات جدلية فلسفية متعددة، لكن لنقتصر إلى المتعارف عليه. أولا: بالنسبة للإنسان الفرد فالغالب أنه لا يقف أمام المرآة ليتأمل جماله الآخاذ إنما ليبحث عن عيوبه حتى يعالجها، فيُحسِّن هندامه أو يحف شاربيه، أو تضع -هي- أحمر شفاه، كلها عمليات تجمل فطرية ليبدو الإنسان مقبولاً في نظر الآخرين. ثانياً: بالنسبة للجماعة الإنسانية "دينية، ثقافية، سياسية" ففي الغالب تختار الوقوف أمام المرآة التي لا تعكس عيوبها، والتي يصنعها صُنّاع أجراء يصنعون ما يعكس الأوهام لا الحقيقة، في الغالب أن الجماعة تتجمل بمحاربة كل من يصنع مرايا تعكس الحقيقة بلا زيادة أو نقصان، وهي حين تفعل ذلك تكون قد شجعت على وجود صناع مرايا ناقمين يصنعون مرايا لا تعكس إلا العيوب.
وإن كانت مرآة الإنسان الفرد من زجاج فإن مرآة الجماعة الإنسانية هي النقد ولا شيء آخر سوى النقد، وكل شيء عدا النقد فهو مدح أو قدح أو صمت، النقد وحده هو المِرآة التي تعكس الحقيقة بلا زيادة أو نقصان. بالنسبة للنقد في مجتمعنا السعودي هو أشبه بمِرآة عليها غشاوة، مشروع دخله الكثير من المادحين والناقمين والمعتكفين في صومعة الصمت الذين إن تحدثوا فحديثهم انفعال، تبقى هنالك قِلة من النقاد الحقيقيين، ومن أبرز هؤلاء القلة هو الدكتور "الغذامي". ناقد صريح صادق عميق الطرح واسع الإلمام، والأهم من كل هذا وذاك تواجده على الأرض وتفاعله مع الواقع.
لقد بدأت في قراءة الحكاية الغذامية منذ فترة وما زلت وأظنني سأستمر. المعيار الوحيد الذي جعلني أهيم بقراءة هذه الحكاية -وهو ليس معيارا علميا بالمناسبة- أنه سرقني من عالم "طلال مداح" ليدخلني في عالمه، أسلوبه في الإلقاء عفوي بسيط يوصل المعنى العميق بكل وضوح ومباشرة وصراحة بلا تجميل أو تقبيح، وهو ما جعلني أميل إلى أن خصومه في الحقيقة خصوم أنفسهم من حيث لا يشعرون! لكن -للأسف- كل هذه العفوية والبساطة في الإلقاء، كل هذه المعاني الواضحة والمباشرة خاصة فقط بالوجه المسموع من حكايته "محاضرات، ندوات، لقاءات"، لأن الوجه المقروء من الحكاية "كتب، مقالات" شيء مختلف تماماً، غير مفهوم أبداً، فالمعاني في الجانب المقروء مُلغزة والمفردات غرائبية والمقصود لا يصل إلا بطلوع الروح، هنا أعود ركضا إلى عالم "طلال مداح".
هذا التباين بين وجهي حكاية النقد الغذامية شيء مربك حقاً، هذا التباين هو ما دفعني إلى قراءة الحكاية الغذامية في الأساس، كنت أتخيل أن لها وجهين فتأكدت أن لها وجهين فعلاً، تأكدت أيضاً أن الوجه المسموع حيث البساطة والوضوح والمعاني المباشرة بمثابة العناوين ورؤوس الأقلام، بينما كل الموضوع مبهم وفيه من افتعال الغموض ما يعرقل الإدراك، وهذا يعني أن من سيحاول غدا دراسة المشروع النقدي للغذامي سيواجه ذات الارتباك، مع الأخذ في الاعتبار أن مشروعه النقدي ليس ثانويا بل من المشاريع الرئيسة في ثقافة النقد السعودية.
نأتي إلى "النسق"، هذا المصطلح الذي يتكرر ويتكرر في كل الحكاية الغذامية، حتى ليظن المتابع لكثرة هذا التكرار أنه سيصل إلى مفهوم واضح محدد عن مصطلح "نسق" فإذا جاءه لم يجده شيئا، سيجده مصطلحا عاما مبهما يصف كل شيء، وما يصف كل شيء فهو لا يصف أي شيء! إن "نسق" هو المصطلح المحوري الذي تُبنى عليه كل الحكاية، رغم هذا لا يزال مصطلحا غير واضح المعالم، فقد وصف في موضع أن "الأنساق" هي الفيروسات والأمراض الراسخة في الثقافة، فحمدت الله أنني أخيراً فهمت المقصود من "نسق" حتى جاء في موضع آخر وقال عن نفسه: أنا نسق! فقلت: إذًا، سأربأ بالنسق أن يكون فيروسا!
أما عن المرأة في الحكاية الغذامية، فقد فاق اهتمامه بها اهتمامها بنفسها، ذهب في الحديث عنها إلى أبعد مما ذهبت هي إليه، حديثه عنها حديث ممنهج منظم عميق. لاحق الخلل الذكوري إلى فترات تاريخية بعيدة، ثم وضع الوصفة العلاجية المناسبة للخروج بالمرأة من عنق الثقافة الذكورية، لم يغفل أي جانب من شأنه إضفاء قيمة للمرأة، فلقبها لا بد أن تُؤنثه، ولا بد لها أن تتفرد بأدبها الأنثوي، وأن تستحدث لها فقها نسويا.
واضح من خلال وصفه لمفهوم "المرأة عورة" في كتابه "الجهنية" أن المرأة عنده ليست عورة، اسمها ليس عورة، صوتها ليس عورة، لكن ماذا عن وجهها؟ الملاحظ أن وجهها لا يزال عورة في الجانب المسموع من الحكاية، لأنها إن تحدثت في محاضراته ستظهر كصوت فقط، أما الصورة فتُستبدل بمزهرية -كمثال-! إن المجتمع قد تجاوز هذه المسألة منذ فترة، وراح يتعامل مع المرأة صوتا وصورة في كل المحافل، فإما أن يكون تعامل المجتمع مع وجه المرأة "نسقا"، أو أن يكون حجب وجهها في محاضراته "نسق"، طبعاً من غير الإنصاف هنا أن نقول إن "الغذامي" هو المسؤول، فالمسؤولون عن الجانب التنظيمي للمحاضرة هم المعدون لها، لكن من الإنصاف أن نسأل: إن لم يكن لخطابه ذلك التأثير داخل هذه الدائرة المحدودة -مكان المحاضرة- فما مدى تأثير خطابه في الدائرة الأكبر: "المجتمع"؟
وأخيرا.. الغاية هنا هي تقديم هدية مغلفة بالتقدير والإعجاب -لا أقل ولا أكثر-.. مرآة صغيرة إلى أستاذ صناعة المرايا.

0 التعليقات :

إرسال تعليق