"الخرفنة".. من الماضي إلى الحاضر!


 
"خروف"، "متخرفن"، "تخرفن".. مصطلحات تقال في حق بعض الشباب والرجال للتقليل من قيمتهم والتشكيك في شخصياتهم ورجولتهم، قد تقال في حق الزوج الذي يطيع زوجته طاعة عمياء وإن كانت طلباتها تقسم ظهر البعير، قد تقال في حق الشاب الذي يفقد توازنه أمام أي فتاة عابرة، أو ذلك الذي يرى كل أنثى تمر أمامه "مزة"، فيتركها تقوده كيفما شاءت، مبتسماً بينما يقاد.
 
أما "المزة"، فالمفترض أن هذا المصطلح خاص بالمرأة أو الفتاة التي تتمتع بمواصفات جمالية عالية، إلا أنه في الحقيقة مصطلح يطلق في حق كثير من المتسكعات المائلات المميلات، المحترفات تصيد "الفاغرين" من الرجال. و"المزة" في المعجم العربي وصف لا خير فيه ويرتبط في الغالب بالخمر. يقول أبو نواس:
اسقني واسق يوسفا
مُزةَ الطعم قرقفا
 
إن العلاقة بين "المزة والخروف" ليست بالعلاقة الجديدة نظير هذا الانفتاح الذي نعيشه، إنها علاقة قديمة قِدم اهتمام المرأة بجمالها، فقد وعت المرأة وهي تهتم بجمالها لا "لتخرفن" الرجل إنما لتغيظ قريناتها، تضع مساحيق تجميل تكفي لطلاء واجهة عمارة؛ لتثير غيرة باقي النساء، ثم "تخرفن" بعض الرجال في المقابل كنتيجة لكل هذا الطلاء، أي أن عملية "الخرفنة" نتيجة وليست غاية، ولو كانت "الخرفنة" غاية لما احتاجت المرأة إلى كل هذا، لأن الخروف "سيتخرفن" بأقل مجهود وأرخص مكياج.
 
ها هي "كليوباترا السابعة" ملكة مصر القديمة، أول امرأة تستخدم مساحيق التجميل، فكانت النتيجة أن "يوليوس قيصر" الجنرال والقائد السياسي وأول من أطلق على نفسه لقب إمبراطور "تخرفن" أمامها، ومن يومها أعلن الحرب على كل أعدائها والمعارضين لها حتى هزمهم جميعاً، ثم أعادها إلى العرش معززة مكرمة، وفي الأخير خانته وأنجبت "قيصرون" ثم أقنعته بأنه والد هذا الطفل فاقتنع "المتخرفن".
 
أما في الأدب العربي، فيقول عنترة عن عبلة:
فولت حياءً ثم أرخت لثامها
وقد نثرت من خدها رطِب الورد
 
ها هي قد أرخت لثامها تصنعاً فتسمرت عيناه على خدها عن قناعة، فكانت النتيجة أن تقدم إلى أبيها، إلا أنه تفاجأ بأبيها يطلب منه ألف ناقة من نوّق الملك النعمان الملقبة بالعصافير مهراً لعبلة، فوافق عنترة وخاض الصعاب لإحضار المهر المطلوب، "تمرمط" بكل ما في "المرمطة" من معنى، اعترضته العواصف وتحدى السباع وغرق في رمال صحراء الربع الخالي وتعرض للأسر إلى أن نجح.
 
وحين تقدم بالمهر إلى والد عبلة فوجئ بالرفض القاطع! وأكثر من الرفض هو ذلك الإعلان الذي سرى في كل القبائل بأن من أراد الزواج من عبلة عليه أن يقدم رأس عنترة مهراً لها، ليدخل عنترة في "مرمطة" جديدة، ويواجه الفرسان واحداً تلو الآخر حتى تعرض للهزيمة، لينتهي به المطاف وهو يُقبِل ذا الجدار وذا الجدار. نعم عنترة فارس لا يشق له غبار، إلا أن عبلة نجحت في "خرفنته" من أجل نوّق العصافير لا أكثر.
 
وها هي قصة تتكرر في كل الثقافات، قصة ذلك الناسك الزاهد المعتكف في محرابه منذ أربعين عاما يتعبد ويتفكر ويتأمل، وكيف أنه في إحدى الليالي صعد إلى سطح المعبد ليتأمل في ملكوت الله فوقعت عيناه بالصدفة على "مزة" تنشر الغسيل، وكانت هذه النظرة كفيلة بإخراجه من صومعته لا ينوي إلا خطب ودها، فقابلها وصارحها بحبه، إلا أنها رفضته لأنه ليس على دينها، فارتد عن دينه بلا تردد، إلا أنها ماطلته وماطلته حتى شُوهِد هائماً بين الطرقات يقارع خمراً يذكرها ويصرخ باسمها المنقوش وشماً على كتفه وقفاه! إن هذه الحالة هي أدنى درجات "الخرفنة" وتسمى اصطلاحا بـ"الحميّرة".
 
فيا عزيزي "المتخرفن": إن "خرفنتك" ضمن السياق الإنساني العام، فلا تجزع، اقرأ الأحداث من الماضي البعيد حتى الحاضر ستجدها تعج بقصص "المزز والخرفان" وكثير من عمليات "الخرفنة"، بل ستتفاجأ بأن "الخرفنة" كثيراً ما أثرت التاريخ وكم غيرت في مجراه، أي أنك لست استثناء فلا تجزع.
 
ثم أعد قراءة هذا المقال وحين تنتهي ردد: "الحمد لله على أنها جات على بطاقات الشحن"، وأحمد الله أنك لا تملك أكثر من قيمة تلك البطاقات؛ لأن هنالك من هو أسوأ منك وهو "المتخرفن" من أصحاب الملايين، فتراه يسافر شرقاً ويسافر غرباً بحثاً عن "مزز" يقدنه كما تقاد الخِراف، وأي فتاة ملهى مبتدئة تسحبه كما تشاء وتسحب منه ما تشاء، وليس هنالك مقابل يناله مثل هذا "المتخرفن"، فالملايين تستنزف السنين، والسنون تستنزف الصحة، حينها يكون المقابل الوحيد الذي يناله المتصابي المليونير مجرد أحاديث ودردشة.
 
في الختام: تبقى "الخرفنة" حرفة قديمة تتجدد مع كل جيل، فللجيل السابق "خرفنته" التي تختلف عن "خرفنة" الجيل الحالي، و"خرفنة" الجيل القادم حتماً ستختلف، كذلك هي حرفة تختلف من مجتمع لآخر ومن مهنة لأخرى، وقانا الله شر "الخرفنة والمُمزمزات" من النساء.

حين اعتزلت متابعة الكرة السعودية



الآن، حين أفكر في سبب اعتزال متابعة الكرة السعودية، أقول: ربما كان الأمر من باب الحفاظ على الصحة، تجنبا لأمراض الضغط والسكر والقولون والأمراض النفسية؛ ولأنني ما عدت قادرا على التعلق بالأمل أكثر، ما عاد في استطاعتي أن أتتبع أخبار الفشل تلو الفشل، ممنيا النفس بالنجاح ولا نجاح في الأفق.

هذا جانب من الحقيقة، وللحقيقة ألف وجه، أحد تلك الأوجه أنني فقدت حلاوة متابعة الكرة السعودية، فقدت شغف تشجيع المنتخب السعودي، فقدت كل هذا في اللحظة التي فقدت فيها الكرة السعودية رونقها وما عادت لها هيبة، في اللحظة التي بدأت فيها الأندية ترفع شعار "نفسي نفسي"، حيث مصلحة النادي تعلو على مصلحة المنتخب، في اللحظة التي بدأت فيها أخبار رمي قوارير الماء على أرضية الملعب تتصدر عناوين الصحف لعدم وجود إنجازات أخرى تذكر.

نعم، قررت اعتزال متابعة الكرة السعودية، إلا أن الوطنية كثيرا ما أرغمتني على العدول عن هذا القرار، فأعود لأتابع مجددا ولا جديد، كلما عدت للمتابعة وجدت واقع الكرة السعودية ما يزال غير محفِز على المتابعة، شللية ومجاملات وتخبطات، تعصب إعلامي، إعلام رياضي سلبي، رؤساء أندية ما يزال بعضهم يعتقد أن الكثير من المال يكفي لعلاج كل المشاكل، أندية كبيرة تعيش على إحسان أعضاء الشرف والصغيرة منها على باب الله، محللون رياضيون من كل حدب ينسلون.. أسأل نفسي وسط هذا الواقع المرير: كيف بالله ستعود حلاوة تشجيع الكرة السعودية؟!

إن الشباب السعودي يلعبون كرة القدم تحت الكباري، على الإسفلت، حفاة في عز الظهيرة، يلعبون بحماس في مواجهة خطر السيارات العابرة، يضعون الأحذية مكان المرمى، ويرسمون بما بقي منها حدودا للملعب، إنه شغف وهوس بالكرة قلَّ أن يوجد له نظير في دول العالم، حواري لا تهدأ على مدار اليوم وطيلة العام، بطولات تقام في رمضان، وفي الصيف، وبين البطولة والبطولة هنالك بطولة تقام، عشق الكرة يجري في دماء الشباب السعودي، والموسف أن يُقابل هذا الجمهور بمثل هذا المستوى الكروي.

هذا الجمهور يحضر بالآلاف لمشاهدة مباراة في إحدى الحواري، وحين تقام مباراة رسمية في ملعب بإمكانيات أفضل لا يحضر إلا بالمئات وربما العشرات! إنها ثقة مفقودة يصحبها ألم وإحباط، صحيح هنالك سوء خدمات في الملاعب، إلا أن هذا ليس بالسبب الرئيس في العزوف عن الحضور.

إن السبب هو غياب الثقة نظير تردي المستوى وغياب النتائج والهبوط في التصنيف العالمي، هذا الهبوط الذي ـ ومنذ أن بدأ ـ وهو مستمر إلى أردأ.

ما نزع هذه الثقة هو هذه الحالة من الفوضى التي تعيشها الكرة السعودية، فوضى ليس لها مثيل، تغير المدربون، تغيرت الإدارات، تغير اللاعبون، وما يزال الفشل والتخبط يملآن الأجواء، تغير كل شيء إلا الثقافة بقيت كما هي، ثقافة تتطاير خلالها تصريحات مسؤولي الأندية بين بعضهم البعض كالحجارة، فتصيب اللاعبين والجمهور، ثقافة فيها يتبرع البعض من أعضاء الشرف للأندية من أجل الدعاية لمكاتب العقار ومعارض السيارات التي يمتلكونها، ثقافة تعشش فيها أفكار الدسائس والمؤامرات، ثقافةٌ كثيرون فيها يبحثون عن تحقيق نتيجة وقتية؛ حتى تسجل لصالح إدارة فلان وعلان وليذهب المستقبل والتخطيط الاستراتيجي غير مأسوف عليه.

ما الحل؟ كيف تعود الكرة السعودية إلى المسار الصحيح؟ من يعيد للكرة السعودية هيبتها؟ ما الذي سيعيد للمشجع شغفه بالتشجيع؟ من سيداوي هذا الجرح الغائر بين الجمهور والمنتخب؟ من سيعيد ثقة الجمهور في الكرة السعودية؟.

هل الحل في الخصخصة؟، أم في الاحتراف الخارجي؟، أم في الأكاديميات؟، أم في التوقف عن نفخ اللاعبين بكل هذه الملايين؟، هل يجب أن يبدأ الحل في البحث عن لعبة أخرى لنلتف حولها، "الكريكت" مثلا؟!، لا أدرى.

لن أنشغل بالبحث عن الحل، أو عمن يمتلك الحل، فمتعة مشاهدة كأس العالم في البرازيل أهم وأولى الآن، هذا المونديال الذي شاهدت خلاله مباراة "ألمانيا والبرتغال"، فلم تشدني الأهداف الأربعة، ولا الإحباط الذي بدا واضحا على ملامح "رونالدو"، إنما شدني في المباراة خبر أورده المعلق وهو يستعرض نتائج "ألمانيا" خلال تاريخها المونديالي، تحديدا حين قال: إن أعلى نتيجة حققتها "ألمانيا" في تاريخ مشاركاتها هو فوزها على السعودية بثمانية أهداف.

تذكرت على الفور أن تلك هي اللحظة التي قررت فيها اعتزال متابعة الكرة السعودية، تجنبا لأمراض الضغط والسكر والقولون، نعم لقد كان قرارا انفعاليا عاطفيا، كان من الممكن العدول عنه مع الوقت، إلا أن الكرة السعودية ـ ومنذ تلك المباراة ـ وهي تأبى مداواة الجراح، "ثمانية النكبة" كانت بمثابة صعقة كهربائية تعرض لها الجمهور، ومنذ تلك النكبة والجمهور ما يزال يتعرض للصعق الكهربائي حتى اليوم، ويبدو أن "الاتحاد السعودي" "استحلى الشغلة"، وبات يمتلك خبراء في الصعق الكهربائي، وفي رأيي أن الكرة السعودية باتحادها وإدارات أنديتها في حاجة إلى صدمة كهربائية؛ لإنعاش هذا الكيان، وبث الحياة فيه من جديد.

قبل أن تزول النعمة


أحداث اليوم هي نتيجة لما حدث بالأمس، كذلك أحداث الغد ستكون نتيجة لما يحدث اليوم، ولا يمكن الفصل بين الأمس واليوم والغد، فالأحداث والوقائع بين هذه الأزمنة تأتي مترابطة متلازمة.

المسألة كبناء يتكون من عدة طوابق لا يمكن تعليق طابق في الهواء بلا اتصال بين طابقين أو استناد على طابق، كذلك لا يمكن ألا يتأثر الحاضر بالأمس، وألا يؤثر على الغد.

اليوم نحن ولله الحمد نعيش في ترف، هذا الترف والنعيم لم يأت بلا مقدمات، إنما جاء نتيجة تضحيات الأمس، لقد كان هذا الوطن بِكرا في بداياته، ولم يبلغ الرشد إلا بالكثير من التضحيات والجهود المضنية، والسير في طرق شاقة دامية غير معبدة، لقد وضع الجيل السابق اللبنات الأولى في ظروف شديدة صعبة؛ من أجل الوصول بالوطن إلى هذا الترف الذي نعيشه اليوم.

والمؤسف أن تؤول مجهودات الماضي إلى هذا الواقع، الواقع الذي نعيشه لنستهلك لا نستهلك لنعيش، نأكل لنأكل ونتكاثر لنستهلك ثم نستهلك لنأكل ونتكاثر، نستهلك لمجرد الاستهلاك هكذا بلا هدف كأن هذا الترف سيدوم إلى الأبد، وإنه وإن زال ـ لا سمح الله ـ فبأيدينا حين أسرفنا ونسينا حياة الأمس وغضضنا الطرف عن قراءة تاريخ الأمم السابقة والمجتمعات من حولنا، كيف كانوا وإلى أين انتهى بهم الحال.

لقد فقدنا نظرتنا إلى الغد في ظل هذا الترف الذي نعيشه اليوم، نرفل في النعيم متناسين أن حياتنا لا تصمد بذاتها، إنما تحتاج إلى رعاية دائمة مستمرة، أو سنسقط في ظل عوامل تعرية لا ترحم، نعيش الحاضر كأن نعيمه دائم لا يزول، فقدنا التبصر بعواقب الأمور، أو ربما تكون المسألة استهتارا وعدم حكمة.
نعم، ليس الجميع مسرفين مبذرين، إلا أن الإسراف والتبذير باتا ثقافة يتشارك فيها كثير من الأغنياء وميسوري الحال والفقراء. أغنياء يسرفون وآخرون يقترضون ليقلدوا "وكلهم سفهاء".

إن كان الغني وميسور الحال يملك المادة التي تساعده على الإسراف، فهو لا يملك الحق حتى يبذرها كيفما شاء، ويجب أن يعاقب المسرف على إسرافه، ليس حفاظا على الموارد فقط، إنما حتى لا يتحول الإسراف والتبذير إلى ثقافة أكثر مما هي عليه الآن. الموارد ليست لليوم فقط إنما للغد أيضا، للأجيال القادمة التي ستعاني جراء هذا التبذير والاستهتار.
يأتي لأحدنا ضيف فيذبح له ذبيحة لا يؤكل منها إلا لقيمات ليرمي الباقي في المزبلة. في المناسبات الاجتماعية المختلفة "يهايط" الكثيرون سعيا وراء المدح والثناء ليلقي بعدها كل شيء "المدح والثناء والطعام" في القمامة حتى قبل أن يذهب المدعوون. تتناقل مواقع التواصل بين الفترة والأخرى صورا ومقاطع لأكوام من الأرز واللحم وهي ملقاة فوق التراب، وصورا ومقاطع أخرى لصحن ضخم يتوسطه "حاشي" وحوله مجموعة خراف، رغم أن المدعويين لا يتجاوزون الخمسين. يدخل أحدنا مطعما فيطلب فوق طاقته، ليترك ما بقي للمزبلة. سيحاسبنا الله على كل هذا، سنتجرع مرارة هذا الهدر غير المسؤول.

أحد الأفغان بكى حين رأى الطعام هنا في حاويات القمامة بجانب الأوساخ، ثم قال: لقد كانت أفغانستان دولة متمدنة وكنا مرفهين فيها، وقد تذكرت وأنا أشاهد كل هذا الطعام في نفاياتكم كيف كنا نلقي الطعام بنفس الطريقة، وها نحن نرى إلى أين انتهى الحال بهذه الدولة، فهل ننتظر حتى نصير إلى ما صارت إليه؟ أم نسارع إلى شكر النعم والحفاظ عليها حتى لا تزول؟!

لا يكفي أن تنشأ الجمعيات الخيرية المعنية بتلقف الطعام الزائد لإعادة توزيعه على المحتاجين، لا يكفي أن نتصدق بفائض الطعام، لا بد وأن تتكون ثقافة اعتدال ومحافظة على هذه النعم في المجتمع، ومثل هذه الثقافة لن تتكون بذاتها ولا بالتوعية والوعظ مهما كتب الكُتاب وخطب الخطباء، لا بد من فرض عقوبات قانونية في حق المسرفين والمبذرين، غرامة وعقوبة يعاقب بها كل من يهايط ويتباهى في المجتمع بهدر الطعام، ومن كان يعتقد أنه حر في ماله سيقتنع بالقانون أنه ليس حراً في هدر أمواله كيفما شاء.

قال علي بن أبي طالب "رضي الله عنه": "ما أنفقت على نفسك وأهل بيتك في غير سرف ولا تبذير وما تصدقت به فهو لك، وما أنفقت رياء وسمعة فذلك حظ الشيطان"، فلنكرم الضيف، ولنُظهر أثر النعم، لنتحل بالكرم والجود، لكن باعتدال لا إسراف ولا تبذير، بوعي وتحضر، إن الأوان لم يفت بعد، هنالك جيل سيأتي مستقبلا يستحق أن نؤمن له حياة كريمة، كما أمّن لنا الجيل السابق حياة اليوم.

أين الله؟


يظل الإنسان تائهاً مشتتاً باحثاً، يسأل عن الله والله موجود في سؤاله، إننا لا نسأل: أين العنقاء لعلمنا أنها أسطورة لا وجود لها، ولو سأل سائل هذا السؤال لحوى سؤاله قناعة بأن العنقاء حقيقة بالنسبة إليه لكنها تحتاج إلى إثبات -ولله المثل الأعلى-، سبحانه موجود حتى في عقل وكيان أعتى المشككين فيه، ودليل وجوده هو تشكيكهم فيه وبحثهم الدائم عنه، وإلا فلا أحد ينشغل بالبحث عن شيء إن كان مقتنعاً فعلاً بعدم وجوده، بمعنى آخر: أين الله؟ سؤال يقود إلى أن السائل غير مقتنع بفكرة عدم وجود إله.

أين الله؟. إنه -سبحانه- في التشابه بين الذرة داخل الخلية وبين المجموعة الشمسية وتشابه الاثنين والمجرة، دائماً هنالك نواة تدور حولها أجسام، لا شيء من هؤلاء بلا نواة ولا نواة في هؤلاء بلا قدرة جذب تحافظ بها على دوران الأجسام حولها في أفلاك محددة، المجموعات الشمسية تدور في أفلاكها حول نواة المجرة، الكواكب تدور في أفلاكها حول الشموس، الإلكترونات تدور في أفلاكها حول نواة الذرة (وكلٌ في فُلكٍ يسبحون)، ولو كان كل هذا من عند غير الله لوُجِد فيه اختلاف كبير.

أين الله؟. إنه -سبحانه- في الشفرات التي يحتويها الحمض النووي، حروف محددة تتشكل إلى عدد لا نهائي من الشفرات لتُشكِل بدورها كل أشكال الحياة، تغيير بسيط (1%) في هذه الشفرة أنتج كائنين مختلفين، أحدهما فأر والآخر إنسان! الأمر أشبه بعمل الحاسوب الذي يقرأ لغة البرمجة الأساسية (الـ 0 والـ 1) ثم يحولها إلى كل هذه البرمجيات الحاسوبية المختلفة، إنها نفس الحروف مدونة في كل الخلايا بطرق مختلفة لتُنتِج هذا العدد اللانهائي من أشكال الحياة، عملية معقدة بديعة تقودنا إلى أن خلف هذه الشفرات ذاتاً واعية.

أين الله؟. يُنسب إلى الإمام علي -كرم الله وجهه- بيت جميل يقول فيه: أتحسب أنك جرم صغير = وفيك انطوى العالم الأكبر. إن الإنسان حين يتأمل في تكوين جسده سيجده كوناً مستقلاً فيه أسرار وعجائب تفوق ما نعرفه عن الكون الفسيح، إن الخلية في جسد الإنسان، على ضآلتها، شديدة التعقيد كأنها مدينة تعج بالبشر، لكل فرد دوره المُحدد، فيها "الخلية" التي هي نظام اتصال لنقل المعلومات ومصنع لإنتاج الطاقة، إنها أكثر تعقيداً من مدينة مزدحمة تعمل بمعزل عن معرفة الإنسان فضلاً عن إرادته، كل هذا في خلية واحدة وجسد الإنسان يتكون من مليارات الخلايا تتجمع كما تتجمع الكواكب لتشكل الكون الفسيح، هنا من غير المنطقي ألا يُقال: سبحان الله.

الجنين في الرحم بدء كنطفة، هذه النطفة تحمل كل صفات المخلوق الذي ستكون عليه غداً، فتنقسم إلى خليتين كلاهما يحتفظ بكل مزاياه ثم إلى أربع فثمان إلى أن ينتهي الأمر بكائن حي مكتمل النمو، المخ والقلب والرئتان والعينان وكل شيء بدأ من خلية. البذرة التي تدفن في الأرض لتغدو شجرة تمتد إلى السماء تحتفظ بكل صفات النبات في داخلها على صغر حجمها، هنالك ملفات مُخزنة في كل خلية تحتوي كامل المعلومات عن الكائن، وكأن الحياة تحتفظ بنسخٍ عن نفسها في كل جزء من أجزائها، حتماً هنالك بديع أبدع كل هذا، وأي رأي غير القول بوجود خالق حكيم قدير فيه إسفاف بمعجزة الوجود.

إن الله -سبحانه- ليس في الذرة أو الخلية أو الكواكب والمجرات، فكل هذه أجزاء تتجمع لتشكل لوحة الوجود المنضبط المحكم الدقيق بلا خلل، حتى ما يفسره الإنسان بأنه فوضى هو في الحقيقة منضبط غاية الانضباط، وله هدف وإن لم تُدركه العقول، الكويكبات التي ضربت الأرض في بداية نشوئها حملت الماء، ولو أن الإنسان عاصر هذه العملية لوصفها بأنها ضربات فوضوية لا هدف منها.

إن معجزة هذا الوجود ليست في ما يشذ عن القاعدة، ليست في أن تتحول النار إلى برد وسلام، أو في خروج ناقة من الصخور، أو في تحول العصا إلى حية تسعى. إن تلك المعجزات التي أتى بها الأنبياء -عليهم السلام- هي خرق للنظام، شيء يظهر على غير المألوف ليُؤمِن الإنسان الكفور، ولو تمعن الإنسان ولم يكابر لوجد المعجزة الحقة أمامه تحدث كل يوم وكل لحظة، إن المعجزة في كل هذا الانضباط، في الشمس التي لم تدرك القمر، في الليل الذي لم يسبق النهار، ملايين السنين ولم يحدث أي خلل في تعاقب الليل والنهار، هذه هي المعجزة.

لكن الإنسان قد ألف الحياة واعتادها، لهذا ما عاد يدهشه الوجود، فيبحث عن دليل على وجود الله متناسياً أن تناسق هذا الوجود أمامه أعظم دليل، إن الأمر لا يحتاج إلى طرح سؤال: أين الله؟ إنما يحتاج أن نقرأ أن نتأمل ونتدبر، فإن لم تر الله في كل هذا فإنه يراك ويحيط بك من كل اتجاه، حتى داخل عقل وكيان من يزعم أنه لا يؤمن بوجود إله.