نوافذ التحرش




نافذة أولى:

أيها الناس، عليكم أن تدركوا بأن السبب الرئيسي وراء ظاهرة التحرش اليوم هو حالة التدين التي تعيشونها .. كيف لا ؟!، وأنتم تختنقون في ظل هذا الكبت والكم الهائل من الحجب والمنع تارةً بإسم الدين وتارةً باسم الحفاظ على الفضيلة وتارةً لسد الذرائع !.

رجال الدين عبر عقود وهم لا يسمحون بأن يلتقي الشاب بالفتاة، لا في مكانٍ عام ولا في مكانٍ خاص ولا حتى داخل بيت العائلة، فكيف بعد كل هذا المنع والحجب لا يتحرش بها وهو منذ عقود لا يعرفها ولا تعرفه ؟!، وكيف يتعرفان على بعضهما ورجال الدين قد حشروا أراءهم ومواعظهم حتي ما بين الأخ وأخته ؟!

وبعد كل ذلك الإنغلاق والحجب حدث اليوم أنهما إلتقيا وتقابلا وانفتح الإعلام على مصراعيه أمامهما وأصبحا يتواصلان ويتقابلان يومياً سواءً في الواقع أو في الواقع الإفتراضي، وحين حدث كل هذا طبيعي أن لا يراها إلا أداة تفريغ شهوة وأن لا تراه إلا ذئب مسعور !




نافذة ثانية:

لا يا أيها الناس، بل إن السبب الرئيسي وراء ظاهرة التحرش هو هذا الإنفتاح الذي نعيشه، كل هذه الخلاعة والمجون والفجور وفساد الأخلاق والإغراق في الملذات الذي نعيشه اليوم –والعياذ بالله- !

لقد أوصلنا التيار الليبرالي إلى هذا القاع، إلى هذا الحضيض، عقوداً وهذا التيار يمسك بقبضة الألة الإعلامية والتعليمية ويتغلغل فيها ليبث أفكاره في المجتمع ويدعوا من خلالها إلى الإختلاط والفجور والرذيلة، يسمي العلاقات المحرمة بالصداقة البريئة، يسمي الخيانة الزوجية بالحرية الفردية !، فماذا كنا ننتظر بعد عقود من دعاوي التغريب ورفع شعارات الحرية والمساواة ؟!

هذا التيار قد أغرى الفتاة بأن تتمرد على كل القيم والمبادئ، ثم أغرق الشاب في بحر من المهيجات الجنسبة، فكيف وقد نجحوا في سعيهم الشيطاني أن لا يصبح التحرش ظاهرة ؟!، كيف لا والشاب والفتاة ما عادا يحملاً قيم ولا مباديء ؟! .. طبيعي إذاً أن لا يراها اليوم أكثر من أداة تفريغ شهوة وأن لا تراه إلا ذئب مسعور.



نافذة ثالثة:

لا وجود لنافذة ثالثة هنا، أو لا نكاد نرى هذه النافذة فضلاً عن سماع الأصوات القادمة من خلفها، أولئك الباحثون عن حلول عملية لظاهرة التحرش يكاد صوتهم يتلاشى بسبب هذه الضوضاء التي يحدثها كلا الفريقان.
ضوضاء على شاكلة:
- أنتم الملام .. لا بل أنتم من يلام.
- أنتم من أغوى الفتاة أن تتعرى، ولو أنها لزمت بيتها وألتزمت بحجابها لما وصلنا لهذا الحال .. لا، بل أنتم من أقنع الشاب عبر الخطب والمواعظ أن ينظر للفتاة الغير محجبة أنها فريسة سهلة، فحدث أنه أصبح يرى كل النساء فرائس!.
- إن الإنفتاح الذين تدعون إليه هو السبب .. لا بل إن التزمت والتشدد في الدين هو السبب )

ما أسهل عملية دحرجة الكرة !، وإن هذه السهولة في دحرجة الكرة وتبادل التهم وتبرئة كل طرف لنفسه وإلقاء كامل اللوم على الطرف الآخر، هذه المسألة برمتها تعتبر أيضاً ظاهرة لا تختلف عن ظاهرة التحرش، لا تختلف إلا في كونها الظاهرة المسئولة عن إحداث جلبة وضوضاء وشوشرة تربك كل من يبحث عن حل ! .. وكأن الطرفان متفقان على أن لا يتفقا لكي لا يجد المجتمع أي حل لكل مشاكلة، لكي ينشغل المجتمع بمتابعة هذا التناحر المفتعل عن إيجاد الحلول العملية لمشاكلة !.

إن اللجوء للأجوبة الجاهزة والتهم المعلبة دلائل تخلف وجهل، وأن يتصدر كل فريق "المتدين والليبرالي" لشتم الآخر فهذا لا يعني أننا نقترب من إيجاد حل، بل يعني أننا نبتعد عن الحل بمقدار ما نتحدث عن المشكلة، لأننا في واقع الأمر لا نتحدث عن المشكلة إنما نتسامر برؤية كل فريق يدحرج الكرة لملعب الآخر !.

تبادل التهم لهو دلالة أيضاً على أن الطرفان لا يهتمان من قريب ولا من بعيد بالضحية ولا بالمتحرش، فلتذهب الضحية غير مأسوف عليها، وليذهب المتحرش مزهواً يتساءل: لماذا لا أتحرش ؟!، فالذين يتحدثون عن التحرش كظاهرة لا يهتمون بالضحية ولا بالمتحرش إنما بمحاولة تشويه صورة من يخالفهم الرأي والفكر !، كيف لا أتحرش وأكثر من يتهجم على فعلي الدنيء لا يهتم بما أفعل تجاه الضحية، أتحرش بها، أغتصبها، أمزق ملابسها على الملأ، لا أحد ينتبه، لا أحد يهتم !، فكل الأطراف مشغولة بالبحث عن إنتصارات لحظية، كل الأطراف تنظر لإعتدائي الشهواني أنه فرصة ذهبية لا تتكرر وعليهم لا يفوتوا مثل هذه الفرصة أبداً، عليهم أن يستغلوها لتحقيق بعض المكتسبات الآنية، عليهم أن يتعاملوا مع التحرش أنه وسيلة لتشويه الآخر، عليهم أن يفعلوا كل هذا بسرعة قبل أن يحدث فعلاً ويجد المجتمع حلاً لمشكلة التحرش ! .. فلماذا لا أتحرش ؟!

كأن الأمر برمته عبارة عن مصلحة متبادلة، إتفاقية غير مكتوبة ما بين المتحرش وطرفي الصراع "المتدين والليبرالي" إتفاقية لامرئية تنص على أن المتحرش له الحق في أن يشبع رغباته الحيوانية ولهما الحق أن يشبعا رغباتهم الإنتقامية، وكأن المتحرش هنا يهديهم بالتحرش سهام ورماح فيستخدمونها ليتصارعان صراعاً كفيلاً بأن يشتت الموضوع لكي تستعضل الحلول أكثر فأكثر.

بل وكأنهما دوماً ينتظران من المتحرش شارة البدء حين ينتهك أدمية الضحية، لينطلقا حاملين السكاكين والأحجار فيشتمان بعضهما البعض تاركين المتحرش يهنأ بالضحية.

أفلا يحق للمتحرش حينها أن يجر ضحيته مبتسماً، ويذهب تاركاً ساحة التناحرات الفكرية والثقافية يتناطح فيه "الليبرالي والمتدين" بشراسة في محاولة كل طرف أن يحقق الفوز لكي ينال ثناء أكبر شريحة في المجتمع !.
ثم تنتهي المعركة المفتعلة ويقدم المتناطحان عبارات الشكر والثناء للمتحرش لأنه وفر لهما مكان مناسب للنطح، وبدوره يقدم لهما جزيل الشكر أنهما أبعدا الأعين عنه !.


أليس هذا ما يحدث ؟!

حسناً .. إن للتحرش أنماط مختلفة، قد تتحرش الفتاة بالشاب، وقد تتحرش الفتاة بفتاة، ويحدث أن يتحرش الشاب بشاب، ويحدث كذلك أن يتحرش الرجل بطفلة أو طفل، وقد تتحرش المرأة كبيرة السن بفتى أو فتاة في سن المراهقة، هذا دون الحديث عما يحدث بين المحارم.

أنماط التحرش عديدة، وكل هذه الأنماط موجودة في كل مجتمع وداخل كل ثقافة، إنها أنماط موجودة ولا يمكن القضاء عليها أبداً، لكن من الممكن تحجيمها والتقليل منها كما ومن الممكن العمل على زيادتها ورفع وتيرتها.

إن التحرش يا سادة أبداً ليس قضية شاب وفتاة، ليس قضية طيش شباب وعنفوان مراهقة، لا علاقة للتحرش بالتدين والإنفلات، لا علاقة له بالإحتشام في اللبس أو التعري، نعم كل هذه عوامل مساعدة إلا أن التحرش أولاً وأخيراً قضية تزاحم داخل المجتمع، إن التعارف والتعايش والخروج والسعي لطلب الرزق داخل المجتمع له مزايا عديدة وله رزايا وبلايا، والتحرش أحد تلك الرزايا.

التحرش لا يمكن القضاء عليه بالكُليِّة لأنه من طبيعة التواجد داخل المجتمع الإنساني، لكن التحرش وغيره من المشاكل الاجتماعية يخف لحد السكون في المجتمعات التي لا تعاني من إنحطاط ثقافي وعلمي وأخلاقي، ثم يرتفع في المجتمعات التي تعج بالمشكلات.

وإن إحدى تلك المشكلات الاجتماعية التي تعتبر بيئة حاضنة للكثير من المشكلات الاجتماعية الأخرى، أن يحمل كل طرف في المجتمع مسطرته الخاصة به ليرسم بها بضع خطوط ثم يصب لعناته على من لا يسير عليها ! .. أن يقوم كل طرف في المجتمع بتفصيل ثوباً من الفضيلة يناسبه وحده فقط، ومن لا يشاركه هذا الثوب فهو ملعون بالضرورة ! .. هذا النهج هو المشكلة الاجتماعية المسئولة عن الكثير من المشاكل الاجتماعية، لأنه ببساطة (غباء إجتماعي).

إن التحرش قضية مجتمع، المجتمع مسئول عنها، إلا أن المتناحرون المتناطحون لا ينظرون إلى المجتمع إلا أنه حيز جغرافي لصب اللعنات والبصق وتبادل الإتهامات، يتعاملون مع المجتمع ككل أنه ساحة معركة حيث لابد لأحدهم أن يحقق النصر بالضربة القاضية ليحمل وحده فوق الأعناق !.


وفي مثل هذه الأجواء المشحونة بالغباء، فإن أهم خطوة في طريق القضاء على المشاكل الاجتماعية وإيجاد حلولاً لها، أن ينتبه المجتمع إلى هذا التناحر والتناطح الذي يحدث دائماً للتغبيش على الحلول العملية، على المجتمع إن أراد أن يوجد حلول لمشاكله أن يجبر هؤلاء على الصمت حتى يمكن الإستماع لمن يهتم فعلاً بالمجتمع لا بتلميع صورته أمام الآخرين بأي ثمن.


المقال التكعيبي


تنويه، إن لم تفهم شيئاً مما سيقال، فهذا لأن المقال تكعيبي، والتكعيبية هي لغة الزوايا المتعددة والوجوه مربعة الشكل، هو أشبه بالتعبير التجريدي، أي أنك إن لم تفهم فعليك أن تفهم جيداً أن لا أحد في زمن التكعيب يفهم شيئاً !



الآن .. خذ الفاعل في كل جملة واقطع كل علاقاته بالفعل، ثم ضع المفعول مكان الفاعل وقل: هذا هو المسئول!
لكن إحذر أن تفعل هذا فيما لو كان الفعل حميداً يستدعي التصفيق الحاد وشيئاً من تبجيلٍ وثناء، إن كان الفعل كذلك فعلاً فأعد الفاعل فاعلاً وخذ المفعول وأرم به خارج دائرة الإعراب.
فالفاعل في زمن التكعيب يُعرب أنه المسئول الغير مسئول إلا عن تلك الأفعال الغير مسبوقة بحروف العلة، فإن وُجِد ما قبل الفعل حرف عِلة فعليك أن تتبع في الإعراب إحدى إثنتين.
الأولى: قل أن الفعل هنا مبدوءً بالكسر، وفاعله ضمير مستتر وجوباً يرمز له دوماً بحرفين على شاكلة "أ.ط" أو "ج.ن" أو أي حرفين من خيالك لا محل لهما في الإعراب إلا أنهما يخلقان في المتلقي وهماً بأن محاولاتك في الإعراب دوؤبة.
الثانية: خذ الفعل المعتل المشبوه وأرميه في ملعب المفعول، قل مثلاً إن المفعول هو من استفز الفاعل أولاً وعليه يكون هو المسئول عن تصرفات الفاعل!.

هل استوعبت الدرس؟!
كيف أن الجملة المبنية بالكامل على النصب لا يمكن إعرابها بأدوات الضم!.
ولكي تفهم أين العِلة في كل الأمر، فالعِلة أبداً ليست في الجملة، ليست أيضاً في الإعراب، ولا حتى في المنهج، العِلة سببها ظرف خارج المنهج تقديره قرار سيادي، العِلة كل العِلة في الواقع من حولك، العِلة في هذا التكعيب الذي تعيشه، في واقعنا التكعيبي حيث الناس هنا بات للواحد منهم ستة أوجه مربعة الشكل، وضمائرهم قد حشرت حشراً بين أضلاع ما عادت متساوية!.

في هذا الجو التكعيبي، بات لِزاماً أن يخرج الخط المستقيم عن مسار النقطتين، أن يغلق على نفسه باب الغرفة ويبدأ تحت ضوء الشمعة يبث شكواه للممحاة، يشكوها كيف أنه ما عادت له علاقة أبداً بالنقطتين، وبأن الناس بدأوا يتنقلون ما بين النقطة (أ) والنقطة (ب) بشكل متشابك متعرج كالأفعى، مما جعل الكثيرون خبراء في فن التنطيط واللف والدوران كأنهم قروداً في سيرك، ومن لم يتقن منهم هذا الفن لازال مكانه يدور كالمجنون.

هل فهمت مما سبق شيئاً ؟!
إن لم تفهم فأنت لا تعيش بشكل تكعيبي، لا تفكر كما يفكر التكعيبيين، أما إن فهمت فعلاً فأرجوا فضلاً لا أمراً أن تشرح لي وتوضح.
كيف يخرج أحدنا من بيته متوجهاً لمقر العمل المتواجد في نهاية الشارع، إلا أنه لا يستطيع الوصول إليه أبداً في خط مستقيم؟!
حفريات، مطبات، إشارات، زحامٌ خانق، ورجل مرور يغلق منتصف الشارع ليطلب منك بكل هدوء أن تبدأ بممارسة فن التنطيط واللف والدوران وكأنك قرداً في سيرك لكي تصل أو لن تصل أبداً .. تسأله عن الفاعل، يخبرك بأنه المفعول، تسأله عن المفعول، يُحيِّلك للمِرآة!.

فإن لم تجد جواباً في الشارع، أخبرني إذاً ..
ماذا حين يذهب أحدنا لمؤسسة أو مستشفى، أوراقهم بين أيدينا كاملة، شروطهم فينا مستوفية، ولم نركتب حتى الآن –إلا- خطأ واحد، أننا لم نكفر مع التكعيبيين بالخط المستقيم، لازلنا كالبلهاء نعتقد بأنه فعلاً المسافة الأقرب بين النقطتين، لم نتعلم بعد فن التنطيط، ولا نعرف شيئاً عن اللف والدوران، لا نملك واسطة ولا نحفظ عبارات "تكفى وطالبك" وأهم ما في الأمر أنا لا نملك ما ندهن به السير.
نتبع النظام في زمن بات فيه من يتبع النظام مغفل لا يحميه القانون، لهذا كله نظل ندور عند النقطة (أ) كمجانين ولن نصل أبداً للنقطة (ب).

فهل نحن نعيش فعلاً في زمن التكعيب، حيث الواقع له ستة أوجه مربعة الشكل، وللناس ضمائر محشورة بين أضلاع غير متوازية؟! .. هل هذا ما يحدث فعلاَ؟!

تشاهد أمامك وجهاً جميل فتظن أنه الوجه الوحيد في هذا الرأس، لتكتشف سريعاً بأنك تنظر لقناع يخفي تحته كل نقيض، تشاهد إعلاناً جميل، حيث الزوج وسيم الوجه يمسك بيد زوجته ممشوقة القوام وحولهما أطفال يلعبون في حديقة منزل كلها أزهاراً وورود، تحت هذه الصورة المعدلة بالفوتوشوب تقرأ عبارة: بدون دفعة أولى، بدون فائدة، متوافق مع الشريعة، بس "هيا تعال" وأمتلك منزل الأحلام عبر القروض الميسرة.
تذهب للبنك فعلاً، وبعد التنطيط واللف والدوران والقسم بأغلظ الأيمان، تجد نفسك داخل شقة مساحتها 70متر مربع، في الدور الخامس داخل مبنى تنقطع عنه المياه بشكل إعتباطي، ومواقف السيارات تم تحويلها بأمر من صاحب العقار لغرف عُزاب مؤجرة بالكامل لعمالة مخالفة، تجهز فيها طعاماً فاسد لتبيعه على المّارة!.
تسأل جارك: فين الزهور والورود كما جاء في الإعلان؟!، يجاوبك: طالما حلقوا لغيرك هيا بل راسك وأستنى، أصل الموضوع إن إلي تشوفها في الشارع عروسة تلقاها في البيت جاموسة!.


فهل من تفسير لتكعيبية هذا الجو التكعيبي ؟!
الكل في زمن التكعيب أصبح تكعيبي، يفكر بطريقة تكعيبية، يكفر بوجود علاقة ما بين الخط المستقيم والنقطتين، يمارس فن التنطيط على جميع الأضلاع الغير متوازية، يتخطى الطابور، يلوي أدرعة الناس ليصل للمنبر، ينهش في لحم أخيه قبل أن تُغرز أسنان أخيه في عظامه، يشتم ليقول برأي فإن لم يقتنع محاوره قدم فيه تقرير!، يستحدث ضمن أدوات الإعراب "أدوات الشتم" ويدخل فيها شكل الآخر، عائلته، لونه، قبيلته، حتى تاريخ ميلاده، يشتمه بكل صفاتٍ خلقه الله عليها، تقرباً لله!

ألم تقتنع بعد أننا في زمن التكعيب؟!
وبأننا في زمن لكي تفهم فيه شيئاً عليك أولاً أن لا تفهم شيئاً على الإطلاق.
أن تقوم بتكعيب الإعراب.
أن تضع المفعول مكان الفاعل ما لم يكن الفعل محل إعجابٍ ظاهر.
أن ترسم حول الضمير المستتر علامة إستفهام وتحبسها في ضميرك.
أن تزخرف كل الجمل بالتشكيل وتترك المضمون بلا مضمون.
لآن طبق هذا المبدأ التكعيبي في الإعراب ثم أعرب جملة (حمل الوزير القرآن) وتذكر قبل البدء في الإعراب أن الفعل هنا يستدعي التصفيق الحاد.
فإن لم تنجح في الإعراب -لا تحزن- إقرأ وقت فراغك جملة (قتل الوالد طفلته) ثم تأمل بإمعان كيف بقدرة قادر يتحول هذا فعل القتل السادي في زمن التكعيب إلى (إسراف في التأديب)!.



********

(1) بتصرف مخل جداً لقصيدة (القصيدة التكعيبية) لإبراهيم الطيار.

هل تتقن فن التكعيب، في زمن التكعيب ؟!
فكِّر لا تيأس .. فكِّر بالتكعيب
ولكي تفهم .. ضع عقلك في كعب حذائك .. وأنثر في الدفتر أحجار اللعبة وأبدأ في التركيب.
لا تكتب شيئاً مفهوماً .. فالمفهوم هنا ممنوع، والممنوع هنا مرهوب، والمرهوب هنا مرغوب، والمرغوب أن لا تفهم إلا بالمقلوب!.

مثلاً ..
إقرأ كل الصحف اليومية .. وكذب منها ما يحتاج إلى تصديق، وصدق ما يحتاج إلى تكذيب.

مثلاً ..
افقأ عين الفاعل وقت حدوت الفعل .. ثم افعل بالمفعول ما لا يفعله الشيطان في صدر الفاعل.
تحدث عن جر المرفوع إن حاول يوماً أن يتدخل بين الساكن والمنصوب.

مثلاً ..
لا تسأل .. فلنا من دوماً يسأل عنّا .. ثم يُجيب.
ولنا دوماً من يستنسخ لنا نصراً .. يصنع لنا تاريخاً .. من يضحك علينا غداً وينجب لنا وطناً بطريقة طفل الأنبوب.
ولنا من يحرق في خطب الجمعة .. تل أبيب.
ولنا من يحصِن "هيلاري" ويخلع نعليه ليركع بدواعي الترحيب.

فهل تتقن فن التكعيب ؟!


الشياطين الخرس، تنطق بالحق !


بالأمس كانت الشياطين الخرس، خرساء فعلاً، ترى الحق فتتجاهله ولا تتحدث عنه أبداً، ولا يعنيها أن ينتشر الباطل أو ينتصر الضلال.

أما اليوم فالشياطين الخرس، أبداً ليست خرساء، بل إنها شياطين ثرثارة، تنشر كتباً، خطباً، تغريدات، تظهر في الإعلام كثيراً، تتحدث بالحق في كل مكان وبأي وسيلة.

ما عادت مشكلة الشياطين الخرس أنها خرساء، مشكلتها اليوم أنها شياطين ثرثارة، تثرثر بالحق، تنطق بكلاماً رائع لا يختلف على صحته إثنان، إلا أن الحق في أفواه شياطين اليوم، حقاً أعور أعرج، يتجه دوماً إلى أقصى اليسار، إلى أن يتخطى الخط الأصفر.

إنها شياطين مُصابة بالحول اللفظي، تنطق بالحق حين يكون في نطقها له مصلحة، فإن لم تجد لها مصلحة في نطق الحق عادت لجحورها، خرساء، بكماء، خاشعة كأن على رؤوسها الطير.

**

وحتى تفهم ما يحدث فعلاً، لابد وأن تعي أولاً أن الدمعة التي يذرفها الإنسان ليست دوماً دليل حزن وألم وحسرات، فكثيراً ما ذرف البكاؤون دموع زيف وخداع وتضليلاً للرأي العام، كثيراً ما ناحوا ولطموا وأرسلوا الدموع مدراراً لأهداف لا علاقة لها أبداً بالأحاسيس والأوجاع.

تابع ما يحدث في الإعلام، أرخي السمع لتنصت بعناية، كيف يذرفون دموعهم ليحققون بها أهدافاً مرسومة بدقة، كيف يذرفونها لإيصال رسائل مشوهة، ثم كيف يذرفون الدمع ليشوهون به كل المفاهيم أمامك، ما يعني أنك أمام ممثلون محترفون بارعون، قادرون في لحظة أن يؤدوا أدوار الحزانى المستائين التعساء ببراعة فائقة تجعلك تشاركهم البكاء، ثم وفي اللحظة التالية يأتي أمر المخرج بتبديل الأدوار، لتجدهم فوراً يؤدون أمامك دور الحمق والبلهاء، فور صدور الأمر من المخرج تجف دموعهم ليعودون شياطيناً خرس لا يبالون بأي شيء على الإطلاق.

ولكي يصبح الإنسان "شيطاناً أخرس" عليه أن يبدأ فوراً في تأدية الدور بإتقان، أن يتعلم كيف يبكي بكاءً مريراً بلا إحساس، أن يتعلم كيف ينوح ويلطم فور صدور الأمر بأداء دور المتألم الحزين، والأهم على الإنسان أن يتعلم جيداً كيف يذرف الدموع فقط حين يكون الضحية من جنس الشيطان الأخرس "أخ، صديق، فرداً من الجماعة، أو من نفس الطائفة" .. إن الدور دنئ، ذليل إلا أن العائد يستحق التضحية بماء الوجه كثمن.

**

تأمل كيف أن الشياطين الخرس لا تنطق بالحق، لا تبكي، إلا حين يكون الضحية أخ أو صديق أو فرداً من نفس الجماعة أو إبن الطائفة والمذهب، حينها فقط يذرفون الدموع، يشتمون الجاني في كل وسيلة، يصفون الجاني بالمتطرف، بالهمجي، بالمتطرف، ثم يُحمِلون أهله إلى الجد السابع جريرة فعل إبنهم، ثم يطالبون بإعادة النظر في المناهج الدراسية والأساليب التربوية ومراقبة المساجد والمنابر والمراكز الصيفية، ويتمادون بمطالبة السلطات أن تراقب أهل الجاني وجيرانه وأصدقائه وتضييق الخِناق عليهم، وليس أخيراً أن تجدهم ينبشون في إرث طائفة الجاني، يبحثون في خفايا مذهبه بعمق لتنظيفه تماماً من كل دعاوي العنف.

تأمل كيف أنهم يفعلون كل هذا –فقط- حين يكون الضحية أخ أو صديق أو فرداً من الجماعة أو إبن ذات الطائفة والمذهب، لكن حين يكون الضحية هو أخ الآخر أو صديقه أو حين لا ينتمي الضحية لنفس الطائفة والمذهب، فوراً يعودون "شياطينً خرساء" لا تبالي بشيء ولا تهتم ولا يعنيها دم الآخر أبداً.

تأمل ردة فعل الشياطين الخرس حين يكون الجاني أخاً لهم أو صديق أو من ذات المذهب والطائفة، تجدهم فوراً يتحدثون عن جمال الصباح، عن زقزقة العصافير، وطرق تكاثر السناجب وطريقة نوم الكوالا، فإن وجدوك تطالبهم بأي ردة فعل، أي إدانة أو إستنكار تجاه دم أخيك المهدر، سيقولون بكل بلادة: ما حدث لم يكن إلا طيش شباب، أو ربما تكون القضية جنائية لا دخل لنا بها أبداً، بل وسيطالبونك أن تبتعد ليأخذ القانون مجراه.

إن كان دم الآخر هو المُهدر والجاني منهم، ستجدهم فوراً يرددون: لا داعي لتهويل الأمر وتضخيم المسألة، فالجاني الذي هو أخوهم لم يقتل الضحية الذي هو أخيك بلا سبب، فربما أخيك قام بإستفزاز أخيهم، أو ربما أخوك غداً كان سينضم إلى "داعش"!، وفي كل الحالات، ومهما كانت التبريرات، ستجدهم يرددون بكثرة: أن الجاني الذي هو أخيهم، إبن نفس الطائفة والمذهب لا يمثل إلا نفسه الآمارة بالسوء، بالتالي فالأمر لا يستدعي أبداً أن تتم مراجعة أي مناهج دراسية، ولا يتطلب مراقبة المنابر الحسينية، كما وأنه لا حاجة للنبش في الإرث الديني بحثاً عن دعاوي العنف، فالقضية برمتها تهور وسِفه وطيش شباب، أو ربما تكون مجرد إنحراف سلوكي عابر.

**

الآن، ولكي تكون ذنبً بإمتياز، شيطاناً أخرس ضمن قطيع الشياطين الخرس، فكل المطلوب منك أن تكون خشبة، أو كرسي، أو كن ساعة حائط أو مزهرية، كن أي شيء بلا قيمة حين يكون دم الآخر هو المهدر، ولا بأس أن تتحدث علناً عن "المقامات الشرقية" عن الفرق بين البيات والنهاوند، ولا تنسى أن تُعيد الحديث عن جمال الصباح وزقزقة العصافير.

إلى هنا لم تصبح ذنبً بعد، لم تصبح شيطاناً أخرس بحق، ولكي تصل لتلك المرتبة الدنيا، عليك أن تكون ذئباً، أن تكون أسداً غضنفر، حين يكون دم أخيك هو المُهدر زمجر كالسباع عن همجية الجاني، عن وحشيته وتطرفه، اخلع عنه كل الصفات الإنسانية، ثم أشتم طائفته بالصالحين فيها والطالحين، دنس مقدساته كلها ولا تستثني منها صاحبي واحد، ولا بأس أن تستقبح شكله، لونه، لبسه، وحتى طريقة مشيه، المهم إن أردت أن تكون "شيطان أخرس" أن لا تخرس إلا إن كان دم أخوك هو المهدر.

**

قل عن حمل "داعش" للسلاح أنه أمراً يُغضِب الله وملائكته وأنبيائه وكل صاحب فطرةٍ سليمة، ثم قل عن حمل "خلايا حزب الله" للسلاح أنه أمراً يُخالِف المادة السابعة من الدستور رقم 463 لسنة 1951، هذا كل ما في الأمر!.

قل عن أفعال "القاعدة" أنها تطرف وإرهاب ودموية ووحشية وأنهم سفاكون للدماء سفاحون، ثم قل عن أفعال "الميليشيات الشيعية" وعن "الحشد الشعبي" في العراق أن أفعالهم أفعال غوغائية وربما فيها شيئاً من سفالة وقلة مروءة!.

قل عن "الإخوان" أنهم ذئاب مسعورة، ثم قل عن "ملالي طهران" أنهم الحملان الوديعة.

**

ختاماً ..

إن "الشياطين الخرس" تنطق بالحق إلا أنها لا تريد بنطقها للحق أن تُحِق الحق، بل ولا تهتم أساساً للقضاء على كل هذا التطرف والدموية، كل ما في الأمر أننا نعيش عملية تشويه ممنهجة لمذهب والتربيت على أكتاف ظهر الآخر، وإن الدموع التي تذرفها الشياطين الخرس تُخفي تحتها شعوراً غامراً بالسعادة جراء أحداث التفجير والقتل في الوطن العربي، إنهم يبكون على دماء إخوتهم أمام الكاميرات فقط وفي داخلهم هم سعداء بدماء أخيهم وهي تُهدر، لأن هذه الدماء أقوى أداة يشوهون بها مذهب الآخر.

**

على الهامش ..

لقد أصبح الموضوع برمته سامج، باهت، بارد، ما عاد له من طعم ولا لون، وما عاد قابلاً للمضغ أكثر.
صحيح أن النقد الديني على مستوى الطائفة والمذهب أمراً مطلوب، إلا أن النقد أحادي الخلية فهو شيء قبيح لا يؤدي إلا للمزيد من الفوضى، فوضى سيكفر فيها الجميع بمفاهيم كالنقد وتصحيح المسار.

حين تكون هنالك إنتقائية في النقد وإلقاء اللوم فلا تبحث عن سر إنضمام الشباب إلى "داعش" بين ثنايا الكتب الدراسية، فدافعهم الرئيس هنا أنهم لم يجدوا نقداً يوجه إلى وحشية وتطرف وبهيمية "الميليشيات الشيعية"، صحيح أن هذا ليس بالعذر المقبول، لكن من سيهتم بالمنطق والحق في عالم أحادي الخلية؟!، من سيتمسك بالمظهر الملائكي والشياطين الخرس تنال كل تجاهل؟!.