نوافذ التحرش




نافذة أولى:

أيها الناس، عليكم أن تدركوا بأن السبب الرئيسي وراء ظاهرة التحرش اليوم هو حالة التدين التي تعيشونها .. كيف لا ؟!، وأنتم تختنقون في ظل هذا الكبت والكم الهائل من الحجب والمنع تارةً بإسم الدين وتارةً باسم الحفاظ على الفضيلة وتارةً لسد الذرائع !.

رجال الدين عبر عقود وهم لا يسمحون بأن يلتقي الشاب بالفتاة، لا في مكانٍ عام ولا في مكانٍ خاص ولا حتى داخل بيت العائلة، فكيف بعد كل هذا المنع والحجب لا يتحرش بها وهو منذ عقود لا يعرفها ولا تعرفه ؟!، وكيف يتعرفان على بعضهما ورجال الدين قد حشروا أراءهم ومواعظهم حتي ما بين الأخ وأخته ؟!

وبعد كل ذلك الإنغلاق والحجب حدث اليوم أنهما إلتقيا وتقابلا وانفتح الإعلام على مصراعيه أمامهما وأصبحا يتواصلان ويتقابلان يومياً سواءً في الواقع أو في الواقع الإفتراضي، وحين حدث كل هذا طبيعي أن لا يراها إلا أداة تفريغ شهوة وأن لا تراه إلا ذئب مسعور !




نافذة ثانية:

لا يا أيها الناس، بل إن السبب الرئيسي وراء ظاهرة التحرش هو هذا الإنفتاح الذي نعيشه، كل هذه الخلاعة والمجون والفجور وفساد الأخلاق والإغراق في الملذات الذي نعيشه اليوم –والعياذ بالله- !

لقد أوصلنا التيار الليبرالي إلى هذا القاع، إلى هذا الحضيض، عقوداً وهذا التيار يمسك بقبضة الألة الإعلامية والتعليمية ويتغلغل فيها ليبث أفكاره في المجتمع ويدعوا من خلالها إلى الإختلاط والفجور والرذيلة، يسمي العلاقات المحرمة بالصداقة البريئة، يسمي الخيانة الزوجية بالحرية الفردية !، فماذا كنا ننتظر بعد عقود من دعاوي التغريب ورفع شعارات الحرية والمساواة ؟!

هذا التيار قد أغرى الفتاة بأن تتمرد على كل القيم والمبادئ، ثم أغرق الشاب في بحر من المهيجات الجنسبة، فكيف وقد نجحوا في سعيهم الشيطاني أن لا يصبح التحرش ظاهرة ؟!، كيف لا والشاب والفتاة ما عادا يحملاً قيم ولا مباديء ؟! .. طبيعي إذاً أن لا يراها اليوم أكثر من أداة تفريغ شهوة وأن لا تراه إلا ذئب مسعور.



نافذة ثالثة:

لا وجود لنافذة ثالثة هنا، أو لا نكاد نرى هذه النافذة فضلاً عن سماع الأصوات القادمة من خلفها، أولئك الباحثون عن حلول عملية لظاهرة التحرش يكاد صوتهم يتلاشى بسبب هذه الضوضاء التي يحدثها كلا الفريقان.
ضوضاء على شاكلة:
- أنتم الملام .. لا بل أنتم من يلام.
- أنتم من أغوى الفتاة أن تتعرى، ولو أنها لزمت بيتها وألتزمت بحجابها لما وصلنا لهذا الحال .. لا، بل أنتم من أقنع الشاب عبر الخطب والمواعظ أن ينظر للفتاة الغير محجبة أنها فريسة سهلة، فحدث أنه أصبح يرى كل النساء فرائس!.
- إن الإنفتاح الذين تدعون إليه هو السبب .. لا بل إن التزمت والتشدد في الدين هو السبب )

ما أسهل عملية دحرجة الكرة !، وإن هذه السهولة في دحرجة الكرة وتبادل التهم وتبرئة كل طرف لنفسه وإلقاء كامل اللوم على الطرف الآخر، هذه المسألة برمتها تعتبر أيضاً ظاهرة لا تختلف عن ظاهرة التحرش، لا تختلف إلا في كونها الظاهرة المسئولة عن إحداث جلبة وضوضاء وشوشرة تربك كل من يبحث عن حل ! .. وكأن الطرفان متفقان على أن لا يتفقا لكي لا يجد المجتمع أي حل لكل مشاكلة، لكي ينشغل المجتمع بمتابعة هذا التناحر المفتعل عن إيجاد الحلول العملية لمشاكلة !.

إن اللجوء للأجوبة الجاهزة والتهم المعلبة دلائل تخلف وجهل، وأن يتصدر كل فريق "المتدين والليبرالي" لشتم الآخر فهذا لا يعني أننا نقترب من إيجاد حل، بل يعني أننا نبتعد عن الحل بمقدار ما نتحدث عن المشكلة، لأننا في واقع الأمر لا نتحدث عن المشكلة إنما نتسامر برؤية كل فريق يدحرج الكرة لملعب الآخر !.

تبادل التهم لهو دلالة أيضاً على أن الطرفان لا يهتمان من قريب ولا من بعيد بالضحية ولا بالمتحرش، فلتذهب الضحية غير مأسوف عليها، وليذهب المتحرش مزهواً يتساءل: لماذا لا أتحرش ؟!، فالذين يتحدثون عن التحرش كظاهرة لا يهتمون بالضحية ولا بالمتحرش إنما بمحاولة تشويه صورة من يخالفهم الرأي والفكر !، كيف لا أتحرش وأكثر من يتهجم على فعلي الدنيء لا يهتم بما أفعل تجاه الضحية، أتحرش بها، أغتصبها، أمزق ملابسها على الملأ، لا أحد ينتبه، لا أحد يهتم !، فكل الأطراف مشغولة بالبحث عن إنتصارات لحظية، كل الأطراف تنظر لإعتدائي الشهواني أنه فرصة ذهبية لا تتكرر وعليهم لا يفوتوا مثل هذه الفرصة أبداً، عليهم أن يستغلوها لتحقيق بعض المكتسبات الآنية، عليهم أن يتعاملوا مع التحرش أنه وسيلة لتشويه الآخر، عليهم أن يفعلوا كل هذا بسرعة قبل أن يحدث فعلاً ويجد المجتمع حلاً لمشكلة التحرش ! .. فلماذا لا أتحرش ؟!

كأن الأمر برمته عبارة عن مصلحة متبادلة، إتفاقية غير مكتوبة ما بين المتحرش وطرفي الصراع "المتدين والليبرالي" إتفاقية لامرئية تنص على أن المتحرش له الحق في أن يشبع رغباته الحيوانية ولهما الحق أن يشبعا رغباتهم الإنتقامية، وكأن المتحرش هنا يهديهم بالتحرش سهام ورماح فيستخدمونها ليتصارعان صراعاً كفيلاً بأن يشتت الموضوع لكي تستعضل الحلول أكثر فأكثر.

بل وكأنهما دوماً ينتظران من المتحرش شارة البدء حين ينتهك أدمية الضحية، لينطلقا حاملين السكاكين والأحجار فيشتمان بعضهما البعض تاركين المتحرش يهنأ بالضحية.

أفلا يحق للمتحرش حينها أن يجر ضحيته مبتسماً، ويذهب تاركاً ساحة التناحرات الفكرية والثقافية يتناطح فيه "الليبرالي والمتدين" بشراسة في محاولة كل طرف أن يحقق الفوز لكي ينال ثناء أكبر شريحة في المجتمع !.
ثم تنتهي المعركة المفتعلة ويقدم المتناطحان عبارات الشكر والثناء للمتحرش لأنه وفر لهما مكان مناسب للنطح، وبدوره يقدم لهما جزيل الشكر أنهما أبعدا الأعين عنه !.


أليس هذا ما يحدث ؟!

حسناً .. إن للتحرش أنماط مختلفة، قد تتحرش الفتاة بالشاب، وقد تتحرش الفتاة بفتاة، ويحدث أن يتحرش الشاب بشاب، ويحدث كذلك أن يتحرش الرجل بطفلة أو طفل، وقد تتحرش المرأة كبيرة السن بفتى أو فتاة في سن المراهقة، هذا دون الحديث عما يحدث بين المحارم.

أنماط التحرش عديدة، وكل هذه الأنماط موجودة في كل مجتمع وداخل كل ثقافة، إنها أنماط موجودة ولا يمكن القضاء عليها أبداً، لكن من الممكن تحجيمها والتقليل منها كما ومن الممكن العمل على زيادتها ورفع وتيرتها.

إن التحرش يا سادة أبداً ليس قضية شاب وفتاة، ليس قضية طيش شباب وعنفوان مراهقة، لا علاقة للتحرش بالتدين والإنفلات، لا علاقة له بالإحتشام في اللبس أو التعري، نعم كل هذه عوامل مساعدة إلا أن التحرش أولاً وأخيراً قضية تزاحم داخل المجتمع، إن التعارف والتعايش والخروج والسعي لطلب الرزق داخل المجتمع له مزايا عديدة وله رزايا وبلايا، والتحرش أحد تلك الرزايا.

التحرش لا يمكن القضاء عليه بالكُليِّة لأنه من طبيعة التواجد داخل المجتمع الإنساني، لكن التحرش وغيره من المشاكل الاجتماعية يخف لحد السكون في المجتمعات التي لا تعاني من إنحطاط ثقافي وعلمي وأخلاقي، ثم يرتفع في المجتمعات التي تعج بالمشكلات.

وإن إحدى تلك المشكلات الاجتماعية التي تعتبر بيئة حاضنة للكثير من المشكلات الاجتماعية الأخرى، أن يحمل كل طرف في المجتمع مسطرته الخاصة به ليرسم بها بضع خطوط ثم يصب لعناته على من لا يسير عليها ! .. أن يقوم كل طرف في المجتمع بتفصيل ثوباً من الفضيلة يناسبه وحده فقط، ومن لا يشاركه هذا الثوب فهو ملعون بالضرورة ! .. هذا النهج هو المشكلة الاجتماعية المسئولة عن الكثير من المشاكل الاجتماعية، لأنه ببساطة (غباء إجتماعي).

إن التحرش قضية مجتمع، المجتمع مسئول عنها، إلا أن المتناحرون المتناطحون لا ينظرون إلى المجتمع إلا أنه حيز جغرافي لصب اللعنات والبصق وتبادل الإتهامات، يتعاملون مع المجتمع ككل أنه ساحة معركة حيث لابد لأحدهم أن يحقق النصر بالضربة القاضية ليحمل وحده فوق الأعناق !.


وفي مثل هذه الأجواء المشحونة بالغباء، فإن أهم خطوة في طريق القضاء على المشاكل الاجتماعية وإيجاد حلولاً لها، أن ينتبه المجتمع إلى هذا التناحر والتناطح الذي يحدث دائماً للتغبيش على الحلول العملية، على المجتمع إن أراد أن يوجد حلول لمشاكله أن يجبر هؤلاء على الصمت حتى يمكن الإستماع لمن يهتم فعلاً بالمجتمع لا بتلميع صورته أمام الآخرين بأي ثمن.


0 التعليقات :

إرسال تعليق