الشياطين الخرس، تنطق بالحق !


بالأمس كانت الشياطين الخرس، خرساء فعلاً، ترى الحق فتتجاهله ولا تتحدث عنه أبداً، ولا يعنيها أن ينتشر الباطل أو ينتصر الضلال.

أما اليوم فالشياطين الخرس، أبداً ليست خرساء، بل إنها شياطين ثرثارة، تنشر كتباً، خطباً، تغريدات، تظهر في الإعلام كثيراً، تتحدث بالحق في كل مكان وبأي وسيلة.

ما عادت مشكلة الشياطين الخرس أنها خرساء، مشكلتها اليوم أنها شياطين ثرثارة، تثرثر بالحق، تنطق بكلاماً رائع لا يختلف على صحته إثنان، إلا أن الحق في أفواه شياطين اليوم، حقاً أعور أعرج، يتجه دوماً إلى أقصى اليسار، إلى أن يتخطى الخط الأصفر.

إنها شياطين مُصابة بالحول اللفظي، تنطق بالحق حين يكون في نطقها له مصلحة، فإن لم تجد لها مصلحة في نطق الحق عادت لجحورها، خرساء، بكماء، خاشعة كأن على رؤوسها الطير.

**

وحتى تفهم ما يحدث فعلاً، لابد وأن تعي أولاً أن الدمعة التي يذرفها الإنسان ليست دوماً دليل حزن وألم وحسرات، فكثيراً ما ذرف البكاؤون دموع زيف وخداع وتضليلاً للرأي العام، كثيراً ما ناحوا ولطموا وأرسلوا الدموع مدراراً لأهداف لا علاقة لها أبداً بالأحاسيس والأوجاع.

تابع ما يحدث في الإعلام، أرخي السمع لتنصت بعناية، كيف يذرفون دموعهم ليحققون بها أهدافاً مرسومة بدقة، كيف يذرفونها لإيصال رسائل مشوهة، ثم كيف يذرفون الدمع ليشوهون به كل المفاهيم أمامك، ما يعني أنك أمام ممثلون محترفون بارعون، قادرون في لحظة أن يؤدوا أدوار الحزانى المستائين التعساء ببراعة فائقة تجعلك تشاركهم البكاء، ثم وفي اللحظة التالية يأتي أمر المخرج بتبديل الأدوار، لتجدهم فوراً يؤدون أمامك دور الحمق والبلهاء، فور صدور الأمر من المخرج تجف دموعهم ليعودون شياطيناً خرس لا يبالون بأي شيء على الإطلاق.

ولكي يصبح الإنسان "شيطاناً أخرس" عليه أن يبدأ فوراً في تأدية الدور بإتقان، أن يتعلم كيف يبكي بكاءً مريراً بلا إحساس، أن يتعلم كيف ينوح ويلطم فور صدور الأمر بأداء دور المتألم الحزين، والأهم على الإنسان أن يتعلم جيداً كيف يذرف الدموع فقط حين يكون الضحية من جنس الشيطان الأخرس "أخ، صديق، فرداً من الجماعة، أو من نفس الطائفة" .. إن الدور دنئ، ذليل إلا أن العائد يستحق التضحية بماء الوجه كثمن.

**

تأمل كيف أن الشياطين الخرس لا تنطق بالحق، لا تبكي، إلا حين يكون الضحية أخ أو صديق أو فرداً من نفس الجماعة أو إبن الطائفة والمذهب، حينها فقط يذرفون الدموع، يشتمون الجاني في كل وسيلة، يصفون الجاني بالمتطرف، بالهمجي، بالمتطرف، ثم يُحمِلون أهله إلى الجد السابع جريرة فعل إبنهم، ثم يطالبون بإعادة النظر في المناهج الدراسية والأساليب التربوية ومراقبة المساجد والمنابر والمراكز الصيفية، ويتمادون بمطالبة السلطات أن تراقب أهل الجاني وجيرانه وأصدقائه وتضييق الخِناق عليهم، وليس أخيراً أن تجدهم ينبشون في إرث طائفة الجاني، يبحثون في خفايا مذهبه بعمق لتنظيفه تماماً من كل دعاوي العنف.

تأمل كيف أنهم يفعلون كل هذا –فقط- حين يكون الضحية أخ أو صديق أو فرداً من الجماعة أو إبن ذات الطائفة والمذهب، لكن حين يكون الضحية هو أخ الآخر أو صديقه أو حين لا ينتمي الضحية لنفس الطائفة والمذهب، فوراً يعودون "شياطينً خرساء" لا تبالي بشيء ولا تهتم ولا يعنيها دم الآخر أبداً.

تأمل ردة فعل الشياطين الخرس حين يكون الجاني أخاً لهم أو صديق أو من ذات المذهب والطائفة، تجدهم فوراً يتحدثون عن جمال الصباح، عن زقزقة العصافير، وطرق تكاثر السناجب وطريقة نوم الكوالا، فإن وجدوك تطالبهم بأي ردة فعل، أي إدانة أو إستنكار تجاه دم أخيك المهدر، سيقولون بكل بلادة: ما حدث لم يكن إلا طيش شباب، أو ربما تكون القضية جنائية لا دخل لنا بها أبداً، بل وسيطالبونك أن تبتعد ليأخذ القانون مجراه.

إن كان دم الآخر هو المُهدر والجاني منهم، ستجدهم فوراً يرددون: لا داعي لتهويل الأمر وتضخيم المسألة، فالجاني الذي هو أخوهم لم يقتل الضحية الذي هو أخيك بلا سبب، فربما أخيك قام بإستفزاز أخيهم، أو ربما أخوك غداً كان سينضم إلى "داعش"!، وفي كل الحالات، ومهما كانت التبريرات، ستجدهم يرددون بكثرة: أن الجاني الذي هو أخيهم، إبن نفس الطائفة والمذهب لا يمثل إلا نفسه الآمارة بالسوء، بالتالي فالأمر لا يستدعي أبداً أن تتم مراجعة أي مناهج دراسية، ولا يتطلب مراقبة المنابر الحسينية، كما وأنه لا حاجة للنبش في الإرث الديني بحثاً عن دعاوي العنف، فالقضية برمتها تهور وسِفه وطيش شباب، أو ربما تكون مجرد إنحراف سلوكي عابر.

**

الآن، ولكي تكون ذنبً بإمتياز، شيطاناً أخرس ضمن قطيع الشياطين الخرس، فكل المطلوب منك أن تكون خشبة، أو كرسي، أو كن ساعة حائط أو مزهرية، كن أي شيء بلا قيمة حين يكون دم الآخر هو المهدر، ولا بأس أن تتحدث علناً عن "المقامات الشرقية" عن الفرق بين البيات والنهاوند، ولا تنسى أن تُعيد الحديث عن جمال الصباح وزقزقة العصافير.

إلى هنا لم تصبح ذنبً بعد، لم تصبح شيطاناً أخرس بحق، ولكي تصل لتلك المرتبة الدنيا، عليك أن تكون ذئباً، أن تكون أسداً غضنفر، حين يكون دم أخيك هو المُهدر زمجر كالسباع عن همجية الجاني، عن وحشيته وتطرفه، اخلع عنه كل الصفات الإنسانية، ثم أشتم طائفته بالصالحين فيها والطالحين، دنس مقدساته كلها ولا تستثني منها صاحبي واحد، ولا بأس أن تستقبح شكله، لونه، لبسه، وحتى طريقة مشيه، المهم إن أردت أن تكون "شيطان أخرس" أن لا تخرس إلا إن كان دم أخوك هو المهدر.

**

قل عن حمل "داعش" للسلاح أنه أمراً يُغضِب الله وملائكته وأنبيائه وكل صاحب فطرةٍ سليمة، ثم قل عن حمل "خلايا حزب الله" للسلاح أنه أمراً يُخالِف المادة السابعة من الدستور رقم 463 لسنة 1951، هذا كل ما في الأمر!.

قل عن أفعال "القاعدة" أنها تطرف وإرهاب ودموية ووحشية وأنهم سفاكون للدماء سفاحون، ثم قل عن أفعال "الميليشيات الشيعية" وعن "الحشد الشعبي" في العراق أن أفعالهم أفعال غوغائية وربما فيها شيئاً من سفالة وقلة مروءة!.

قل عن "الإخوان" أنهم ذئاب مسعورة، ثم قل عن "ملالي طهران" أنهم الحملان الوديعة.

**

ختاماً ..

إن "الشياطين الخرس" تنطق بالحق إلا أنها لا تريد بنطقها للحق أن تُحِق الحق، بل ولا تهتم أساساً للقضاء على كل هذا التطرف والدموية، كل ما في الأمر أننا نعيش عملية تشويه ممنهجة لمذهب والتربيت على أكتاف ظهر الآخر، وإن الدموع التي تذرفها الشياطين الخرس تُخفي تحتها شعوراً غامراً بالسعادة جراء أحداث التفجير والقتل في الوطن العربي، إنهم يبكون على دماء إخوتهم أمام الكاميرات فقط وفي داخلهم هم سعداء بدماء أخيهم وهي تُهدر، لأن هذه الدماء أقوى أداة يشوهون بها مذهب الآخر.

**

على الهامش ..

لقد أصبح الموضوع برمته سامج، باهت، بارد، ما عاد له من طعم ولا لون، وما عاد قابلاً للمضغ أكثر.
صحيح أن النقد الديني على مستوى الطائفة والمذهب أمراً مطلوب، إلا أن النقد أحادي الخلية فهو شيء قبيح لا يؤدي إلا للمزيد من الفوضى، فوضى سيكفر فيها الجميع بمفاهيم كالنقد وتصحيح المسار.

حين تكون هنالك إنتقائية في النقد وإلقاء اللوم فلا تبحث عن سر إنضمام الشباب إلى "داعش" بين ثنايا الكتب الدراسية، فدافعهم الرئيس هنا أنهم لم يجدوا نقداً يوجه إلى وحشية وتطرف وبهيمية "الميليشيات الشيعية"، صحيح أن هذا ليس بالعذر المقبول، لكن من سيهتم بالمنطق والحق في عالم أحادي الخلية؟!، من سيتمسك بالمظهر الملائكي والشياطين الخرس تنال كل تجاهل؟!.




0 التعليقات :

إرسال تعليق