المقال التكعيبي


تنويه، إن لم تفهم شيئاً مما سيقال، فهذا لأن المقال تكعيبي، والتكعيبية هي لغة الزوايا المتعددة والوجوه مربعة الشكل، هو أشبه بالتعبير التجريدي، أي أنك إن لم تفهم فعليك أن تفهم جيداً أن لا أحد في زمن التكعيب يفهم شيئاً !



الآن .. خذ الفاعل في كل جملة واقطع كل علاقاته بالفعل، ثم ضع المفعول مكان الفاعل وقل: هذا هو المسئول!
لكن إحذر أن تفعل هذا فيما لو كان الفعل حميداً يستدعي التصفيق الحاد وشيئاً من تبجيلٍ وثناء، إن كان الفعل كذلك فعلاً فأعد الفاعل فاعلاً وخذ المفعول وأرم به خارج دائرة الإعراب.
فالفاعل في زمن التكعيب يُعرب أنه المسئول الغير مسئول إلا عن تلك الأفعال الغير مسبوقة بحروف العلة، فإن وُجِد ما قبل الفعل حرف عِلة فعليك أن تتبع في الإعراب إحدى إثنتين.
الأولى: قل أن الفعل هنا مبدوءً بالكسر، وفاعله ضمير مستتر وجوباً يرمز له دوماً بحرفين على شاكلة "أ.ط" أو "ج.ن" أو أي حرفين من خيالك لا محل لهما في الإعراب إلا أنهما يخلقان في المتلقي وهماً بأن محاولاتك في الإعراب دوؤبة.
الثانية: خذ الفعل المعتل المشبوه وأرميه في ملعب المفعول، قل مثلاً إن المفعول هو من استفز الفاعل أولاً وعليه يكون هو المسئول عن تصرفات الفاعل!.

هل استوعبت الدرس؟!
كيف أن الجملة المبنية بالكامل على النصب لا يمكن إعرابها بأدوات الضم!.
ولكي تفهم أين العِلة في كل الأمر، فالعِلة أبداً ليست في الجملة، ليست أيضاً في الإعراب، ولا حتى في المنهج، العِلة سببها ظرف خارج المنهج تقديره قرار سيادي، العِلة كل العِلة في الواقع من حولك، العِلة في هذا التكعيب الذي تعيشه، في واقعنا التكعيبي حيث الناس هنا بات للواحد منهم ستة أوجه مربعة الشكل، وضمائرهم قد حشرت حشراً بين أضلاع ما عادت متساوية!.

في هذا الجو التكعيبي، بات لِزاماً أن يخرج الخط المستقيم عن مسار النقطتين، أن يغلق على نفسه باب الغرفة ويبدأ تحت ضوء الشمعة يبث شكواه للممحاة، يشكوها كيف أنه ما عادت له علاقة أبداً بالنقطتين، وبأن الناس بدأوا يتنقلون ما بين النقطة (أ) والنقطة (ب) بشكل متشابك متعرج كالأفعى، مما جعل الكثيرون خبراء في فن التنطيط واللف والدوران كأنهم قروداً في سيرك، ومن لم يتقن منهم هذا الفن لازال مكانه يدور كالمجنون.

هل فهمت مما سبق شيئاً ؟!
إن لم تفهم فأنت لا تعيش بشكل تكعيبي، لا تفكر كما يفكر التكعيبيين، أما إن فهمت فعلاً فأرجوا فضلاً لا أمراً أن تشرح لي وتوضح.
كيف يخرج أحدنا من بيته متوجهاً لمقر العمل المتواجد في نهاية الشارع، إلا أنه لا يستطيع الوصول إليه أبداً في خط مستقيم؟!
حفريات، مطبات، إشارات، زحامٌ خانق، ورجل مرور يغلق منتصف الشارع ليطلب منك بكل هدوء أن تبدأ بممارسة فن التنطيط واللف والدوران وكأنك قرداً في سيرك لكي تصل أو لن تصل أبداً .. تسأله عن الفاعل، يخبرك بأنه المفعول، تسأله عن المفعول، يُحيِّلك للمِرآة!.

فإن لم تجد جواباً في الشارع، أخبرني إذاً ..
ماذا حين يذهب أحدنا لمؤسسة أو مستشفى، أوراقهم بين أيدينا كاملة، شروطهم فينا مستوفية، ولم نركتب حتى الآن –إلا- خطأ واحد، أننا لم نكفر مع التكعيبيين بالخط المستقيم، لازلنا كالبلهاء نعتقد بأنه فعلاً المسافة الأقرب بين النقطتين، لم نتعلم بعد فن التنطيط، ولا نعرف شيئاً عن اللف والدوران، لا نملك واسطة ولا نحفظ عبارات "تكفى وطالبك" وأهم ما في الأمر أنا لا نملك ما ندهن به السير.
نتبع النظام في زمن بات فيه من يتبع النظام مغفل لا يحميه القانون، لهذا كله نظل ندور عند النقطة (أ) كمجانين ولن نصل أبداً للنقطة (ب).

فهل نحن نعيش فعلاً في زمن التكعيب، حيث الواقع له ستة أوجه مربعة الشكل، وللناس ضمائر محشورة بين أضلاع غير متوازية؟! .. هل هذا ما يحدث فعلاَ؟!

تشاهد أمامك وجهاً جميل فتظن أنه الوجه الوحيد في هذا الرأس، لتكتشف سريعاً بأنك تنظر لقناع يخفي تحته كل نقيض، تشاهد إعلاناً جميل، حيث الزوج وسيم الوجه يمسك بيد زوجته ممشوقة القوام وحولهما أطفال يلعبون في حديقة منزل كلها أزهاراً وورود، تحت هذه الصورة المعدلة بالفوتوشوب تقرأ عبارة: بدون دفعة أولى، بدون فائدة، متوافق مع الشريعة، بس "هيا تعال" وأمتلك منزل الأحلام عبر القروض الميسرة.
تذهب للبنك فعلاً، وبعد التنطيط واللف والدوران والقسم بأغلظ الأيمان، تجد نفسك داخل شقة مساحتها 70متر مربع، في الدور الخامس داخل مبنى تنقطع عنه المياه بشكل إعتباطي، ومواقف السيارات تم تحويلها بأمر من صاحب العقار لغرف عُزاب مؤجرة بالكامل لعمالة مخالفة، تجهز فيها طعاماً فاسد لتبيعه على المّارة!.
تسأل جارك: فين الزهور والورود كما جاء في الإعلان؟!، يجاوبك: طالما حلقوا لغيرك هيا بل راسك وأستنى، أصل الموضوع إن إلي تشوفها في الشارع عروسة تلقاها في البيت جاموسة!.


فهل من تفسير لتكعيبية هذا الجو التكعيبي ؟!
الكل في زمن التكعيب أصبح تكعيبي، يفكر بطريقة تكعيبية، يكفر بوجود علاقة ما بين الخط المستقيم والنقطتين، يمارس فن التنطيط على جميع الأضلاع الغير متوازية، يتخطى الطابور، يلوي أدرعة الناس ليصل للمنبر، ينهش في لحم أخيه قبل أن تُغرز أسنان أخيه في عظامه، يشتم ليقول برأي فإن لم يقتنع محاوره قدم فيه تقرير!، يستحدث ضمن أدوات الإعراب "أدوات الشتم" ويدخل فيها شكل الآخر، عائلته، لونه، قبيلته، حتى تاريخ ميلاده، يشتمه بكل صفاتٍ خلقه الله عليها، تقرباً لله!

ألم تقتنع بعد أننا في زمن التكعيب؟!
وبأننا في زمن لكي تفهم فيه شيئاً عليك أولاً أن لا تفهم شيئاً على الإطلاق.
أن تقوم بتكعيب الإعراب.
أن تضع المفعول مكان الفاعل ما لم يكن الفعل محل إعجابٍ ظاهر.
أن ترسم حول الضمير المستتر علامة إستفهام وتحبسها في ضميرك.
أن تزخرف كل الجمل بالتشكيل وتترك المضمون بلا مضمون.
لآن طبق هذا المبدأ التكعيبي في الإعراب ثم أعرب جملة (حمل الوزير القرآن) وتذكر قبل البدء في الإعراب أن الفعل هنا يستدعي التصفيق الحاد.
فإن لم تنجح في الإعراب -لا تحزن- إقرأ وقت فراغك جملة (قتل الوالد طفلته) ثم تأمل بإمعان كيف بقدرة قادر يتحول هذا فعل القتل السادي في زمن التكعيب إلى (إسراف في التأديب)!.



********

(1) بتصرف مخل جداً لقصيدة (القصيدة التكعيبية) لإبراهيم الطيار.

هل تتقن فن التكعيب، في زمن التكعيب ؟!
فكِّر لا تيأس .. فكِّر بالتكعيب
ولكي تفهم .. ضع عقلك في كعب حذائك .. وأنثر في الدفتر أحجار اللعبة وأبدأ في التركيب.
لا تكتب شيئاً مفهوماً .. فالمفهوم هنا ممنوع، والممنوع هنا مرهوب، والمرهوب هنا مرغوب، والمرغوب أن لا تفهم إلا بالمقلوب!.

مثلاً ..
إقرأ كل الصحف اليومية .. وكذب منها ما يحتاج إلى تصديق، وصدق ما يحتاج إلى تكذيب.

مثلاً ..
افقأ عين الفاعل وقت حدوت الفعل .. ثم افعل بالمفعول ما لا يفعله الشيطان في صدر الفاعل.
تحدث عن جر المرفوع إن حاول يوماً أن يتدخل بين الساكن والمنصوب.

مثلاً ..
لا تسأل .. فلنا من دوماً يسأل عنّا .. ثم يُجيب.
ولنا دوماً من يستنسخ لنا نصراً .. يصنع لنا تاريخاً .. من يضحك علينا غداً وينجب لنا وطناً بطريقة طفل الأنبوب.
ولنا من يحرق في خطب الجمعة .. تل أبيب.
ولنا من يحصِن "هيلاري" ويخلع نعليه ليركع بدواعي الترحيب.

فهل تتقن فن التكعيب ؟!


0 التعليقات :

إرسال تعليق