ضمائر أبرد من هذا الشتاء

جلس "أبو الحسن الأشعري" بين تلاميذه يشرح لهم الآيات ويفسرها، وقبل أن ينتهي أخذ يتلفت حوله فلم يجد القرآن الذي كان بين يديه! نظر إلى تلامذته فوجدهم بين تقي مستغفر وخاشع متعبِد، كانت الدموع الغزيرة تبلل لحاهم من شدة الورع، فتعجب وراح يتساءل: كلكم يبكي، فمن سرق المصحف؟! وسؤال "أبو الحسن الأشعري" بات مع الوقت مثلا يضرب للدلالة على النفاق والزيف والخداع، للدلالة على أن ارتداء قناع الفضيلة لن يخفي الحقيقة الشيطانية، للدلالة على أن براءة الوجه وعلامات الإيمان البادية عليه لا علاقة لها بالأخلاق، بل قد تكون دليلاً على مدى تردي الأخلاق.
ولو أن "أبو الحسن" يعيش بيننا معشر العرب والمسلمين اليوم لتعجب أيما تعجب وهو يرى بكاءنا على حال اللاجئين السوريين في هذا الشتاء، وكيف نتبادل صور معاناتهم وموت أطفالهم لنجهش بالبكاء، كيف نعتلي المنابِر للدعاء لهم بالنصر وتخفيف المصاب. لو أنه -رحمه الله- رآنا على هذه الحال لقال: إن مآسي المنكوبين بالنسبة لكم، ليست أكثر من مادة تدعوكم للبكاء دون الشعور بالألم، وأن دعاءكم من على المنابر ما عاد له طعم ولا لون، إنكم إن كنتم فعلاً على هذا القدر من التلاحم فمن الذي شتت هؤلاء اللاجئين؟ فابكوا أو لا تبكوا، لا فائدة من الدموع والضمائر أشد برودة على المنكوبين من برد الشتاء.
لو أن "أبو الحسن" سأل العالم الإسلامي اليوم لأجبناه بكل بجاحة: إن المتسبب في تجمد اللاجئين هو النِظام السوري الذي وضع يده بيد إيران وحزب الله لتمزيق شعبه. آخرون سيصرخون: بل إنه المجتمع الدولي الذي وعد بحل المسألة ثم أخلف وعده. أطراف أخرى ستشرح كيف أن التيارات الإسلامية حين تدخلت في الشأن السوري مزقت الصف، ليرد عليهم المتعاطفون مع تلك التيارات بتكفير الجميع.. وهكذا نجد اللاجئين لا يزالون يتجمدون من البرد ونحن مشغولون بإشعال النيران في أنفسنا! كل طرف يتهم الأطراف الأخرى حتى يواري سوءاته ويدرأ عن نفسه التهم الغارق فيها حتى أذنيه، كل نظام يلمع لنفسه أمام شعبه الذي يصفق له خوفا فيخيل إليه أن هذا التصفيق عن قناعة.
إن المتسبب في تجمد اللاجئين "نحن" بكل أطيافنا وأنظمتنا، الشيخ والمثقف والسياسي، كل من ذرف دمعة وبكى بكاء الثكالى، إنه هذا الشتات واشتداد الخلاف عند كل مأساة. المتسبب هو هذه النيران التي دائما هي في حالة اشتعال، كأننا لا نجيد إلا زراعة الفتن فيما بيننا، وإذكاء الخلافات والانقسامات، والتشجيع على الاقتتال. كل وسيلة إعلام في بلد عربي لا تزمجِر إلا في وجه دول الجوار، لا تعري إلا دول الجوار، ميزانيات ضخمة تصرف على وسائل إعلام لا تجيد إلا القذف والشتم والتهديد والوعيد، لا أحد يضع حلا، لا أحد يهتم. إن روابط اللغة والدين والقيم والعادات والتقاليد والأرض والدم التي تجمعنا أشياء تركتنا كأسنان المشط المتناثرة في كل اتجاه. إن السبب في تجمد اللاجئين أن الإسلام لم يؤثر فينا، ما زلنا قبائل متناحرة بقناع حضاري. إننا لم ندرك بعد أن تسلط إيران وتلاعب الغرب ليس إلا نتيجة تفرقنا وحسب، والآخرون يستغلون تشتتنا فقط.
وزيادة في انحطاطنا، ها هو "أبو الحسن الجديد" يعتلي المنبر فيتألم لهذا الهدوء البادي على وجوه الجميع، إنه لا يريدهم صامتين، بل يريد أن يرى دموعهم تبلل لحاهم، حتى يسترزق بدوره من هذه الدموع قدر المستطاع. ولهذا يسارِع الخطى في استثمار معاناة المنكوبين، يعرِض صورا لأشلاء القتلى ودماء الجرحى، فإذا تأثر الناس وبدأوا في البكاء والنواح راح يحثهم ويذكِرهم بوجوب التبرع وبعظَم أجر المتبرعين، سيدعو ويُلح في الدعاء بالمغفرة والجنة والرزق في البركة للمتبرعين إن استجابوا وأخرجوا ما في جيوبهم فورا وبلا جدال. سيُقسم بأغلظ الأيمان أن التبرعات ستصل إلى المحتاجين، ونحن يكفينا هذا القسم، يخدعنا دائما هذا القسم. إننا لا نسأل بعد قسمه: أين تذهب التبرعات؟ ولماذا نسأل في الأساس؟ إننا نحن أيضا لم نتبرع لإنهاء معاناة المنكوبين إنما ليغفر الله لنا، ليتجاوز عن خطايانا، ليبني لنا قصورا في الجنة تجري من تحتها الأنهار. لهذا لا يهم أن تصل التبرعات إلى مستحقيها أم لا تصل، لا يهم إن كان "أبو الحسن الجديد" دجالا أم صادقا أمين، في كل الحالات نحن قد أدينا الأمانة وسننام مُطمئنين. وحتى إن افتضح أمره وتبين أنه أخد التبرعات ليغذي فحولته ويعيد فحص ذكورته، لن نهتم أبدا!
قد تردد عزيزي القارئ بعد كل ما سبق، أنني أبالغ في انفعالاتي، وأن في هذا دلالة على عدم نضجي العقلي! حسناً، ما قيمة النضج العقلي في بيئة يتسيدها مجانين بالفعل؟ مجانين يستغلون معاناة المنكوبين لتصفية الحسابات تارة، وتارة أخرى لإعادة فحص ذكورية المسترزقين من النكبات! ما قيمة النضج العقلي وضمائرنا أبرد من هذا الشتاء؟ 

لصوص الزمن الجميل

يُحكى أن رجُلاً صالحا لم يتأخر عن صلاة الجماعة طِيلة خمسين عاما، وعلى مدى الخمسين عاما لم يكن يحضر إلى المسجد إلا وهو حافي القدمين!
كان الرجل الصالح يُبرر هذا التصرف بحادثة وقعت له، حيث حضر للصلاة ذات يوم وهو ينتعل حِذاءه وحين خرج اكتشف أنه قد سُرِق، فأقسم من يومها ألا يرتدي الحذاء أبداً حتى لا يكون طرفاً في ذنبٍ يكتبه الله على أحدهم.
تعالوا إذن، لنقرأ واقعنا بمنطق هذا الرجل الصالح، تُرى ما الذي سنستغني عنه حتى لا يجد اللصوص ما يسرقونه؟
الجواب: كل شيء!. سننام في العَراءِ حُفاةً عُراة جائعين، سنتعالج بالأعشاب وندرس في كتاتيب، فاللصوص اليوم يسرقوننا في النوم واليقظة، في الحِل والتِّرحالِ، في المرض والعافية، يسرقوننا إلى أن نجوع فإن جُعنا رفعوا الأسعار.
ما عاد يُغريهم منظر أحذيتنا المُهترِئة، لم يعد يُجدي بالنسبة إليهم أن يتربصوا بنا على أبواب المساجد، لهذا نراهم قد احتكروا تجارة الأحذية حتى يتحكموا في الأسعار كيفما شاؤوا، حينها حتى تخلفنا عن الصلاة لن يردعهم عن السرقة!
كم أترحم على لصوص الزمن الجميل، كانوا مُلتزمين بآداب المهنة، لا يسرِقون إلا لحاجة، لا ينتهكون عِرضاً إلا في سكرتهم، لا يقتلون إلا من يُقاوِمهم.
أما لصوص اليوم فيسرقون للمتعة، مُتعة زرع المعاناة على وجوه الضعفاء.
يسرقون لضمان استمرار الرفاهية، تاركين خلفهم آثاراً مُدمِرة سيُعاني منها أحفاد أحفادنا. لهذا أترحم على لصوص ذلك الزمان الذي كان فيه اللص لا يسطو إلا على بيوت المُترفين وإن فعل فلا يحمِل معه إلا ما خف وزنه وغلا ثمنه، أما لصوص اليوم فلا ينهبون إلا بيوت المُعدمين ثم لا يتركون فيها شيئاً إلا وينزِعونه، حتى الأحلام.
لصوص الزمن الجميل، كانوا يتحركون تحت جنح الظلام خائفين، هذا التحرك في الظلام والخوف دلالة على وجود إحساس دفين بالإثم - لكنه الشيطان الرجيم - أما لصوص اليوم فيتحركون تحت ضوء الشمس، رؤوسهم مرفوعة، ضمائرهم مُطمئِنة، ملامحهم بشوشة!
وفي الحقيقة من سيُقنِعهم بغير هذا وهم يسهِمون - إعلامياً - في بناء المساجد، يتبرعون - إعلامياً - للجمعيات الخيرية، يُطعِمون الفقراء والمساكين - في العلن -. (يسرقون رغيف خُبزِك ثم يُعطونك منه كِسرة خُبز، ثم يطلبون منك أن تشكر كرمهم) "غسان كنفاني"
لقد كان الناس في الزمن الجميل، إن شاهدوا لصا يقفز من سور بيت فوراً سيركضون خلفه بالعصِي والحجارة من شارِع لشارع، وإن لم يقبضوا عليه فإن مجرد ركضهم خلفه وشتمهم إياه بأقدع الألفاظ كفيلان بأن يتركا في نفوس الجميع انطباعاً بانحطاط فعل السرقة.
أما اليوم، وفي العلم كله، فقد تلاشت تلك القناعة لتحل محلها قناعة أخرى بأن من يسطو على أرزاق الناس ومجهوداتهم وأحلامهم ليس لصاً إنما "فهلوي، شاطر، يعرف من أين تُؤكل الكتف" بل قد ينظر أحدنا لابنه بحسرة وهو يُردِد: غلطتي إني ما ربيتك على الفهلوة والشطارة، أو قد ينظر الموظف إلى زميله المُخلص الفقير معاتِباً: ماذا استفدت من الأمانة والضمير إلا الفشل؟
بقي أن نعرف أن السرقة في الزمن الجميل كانت دلالة على فشل، فشل يجعل المرء يمتهن السرقة، نعم؛ لقد ترك الدراسة وطرده والداه إلى الشارع، وهناك تعرف على أصدقاء سوء زينوا له السرقة، فأخذ يسرق المحافِظ وقدور الطبخ والملابس من على الغسيل، إنه فاشل وهذا سلوك الفاشلين.
أما اليوم فاللص كان تلميذاً نجيبا، ثم درس في أفضل الجامعات، حتى تحصل على الدكتوراه، فكان حرياً به أن يتعيَن في منصِب مرموق يُمهِد له الانزلاق إلى اللصوصية مُتستِراً بهذا الغطاء الذي يسُر الناظرين.
إن كل هذه البهرجة تجعل المُتنفعين يحيطون به ويُبرِرون سرِقاتِه، ومدحهم له سيجعله يتمادى في لصوصيته أكثر لينتفعوا بدورهم أطول فترة ممكنة، ومن أجل الحفاظ على ديمومة هذا الوضع سيُقسِمون له أنه من أولياء الله الصالحين!
هل تذكرون كيف كانت أمهاتنا يحدثننا عن اللصوص، يُخوِفننا باللصوص "كُل لا يجيك الحرامي، نام أو يطلع لك الحرامي، ذاكر ترى الحرامي عالباب".
إن أمهاتنا كن وسيلة الإعلام في ذلك الزمن، وسيلة إعلامية نجحت تماما في تشويه ملامح اللص، حتى جعلته كائناً منبوذاً مُطاردا بالحجارة والأحذية.
أما اليوم، فوسائل الإعلام تعرض علينا عشرات الممارسات التي تُسرق بها المليارات، ومع قانون عدم التشهير باللص حِفاظاً على سمعته نكون قد جمّلنا صورة اللص في الأذهان، بل وسَهّلنا أمر السرقة حتى لدى من لم يُفكِر في احتراف هذا المجال من قبل.
وأسوأ ما في الموضوع أن الإعلام يكون حينها قد خلق تبريراً مُسبقاً يلجأ إليه اللص دائماً حتى ينام مُطمئِن البال، فالإعلام يعرض أمامه ما يُؤكِد له فعلاً أن المال سائب، لهذا أصبح اللص يُحاجِج من يُعارضه بتردِيد عبارة: "المال السائب يُعلِم السرقة".. كأنه بهذه العبارة يستغفر الله.. وأستغفر الله العظيم.

المسلم وفوضى الانتماءات

أنت سلفي أم إخواني؟ شيعي أم سني؟ إباضي أم زيدي أم يزيدي؟.. هل أنت على المذهب الحنبلي أم الشافعي أم المالكي؟ أو ربما تكون جعفرياًّ، أم هل أنت صوفي؟

ليتك تُحدِد بالضبط انتماءك قبل أن تطرح أفكارك، فالسائل يا سيدي لا يسأل ليعرف من أنت، وإلى أين تنتمي، إنما يسأل ليحدد بالضبط أين سيوجه شتائمه، فهو لا يريد بعد الآن أن يخطئ الهدف أثناء الشتم، فالأحداث من حولنا لم تعد تحتمل أي أخطاء، لذلك إن لم تكن معي وتؤمن بما آمنت به فأنت حتما إلى الجحيم أقرب، أنت حتما تسعى للإسراع في الخراب أكثر.

من أنت! لا أريد في الحقيقة أن أعرفك .. لكنني أريد أن أعرف كيف أشتمك وأنتقص منك وأهدم كل معتقدك.

أبدا لا يهم من أنت !

إن هذا النهج الذي تزدحم به عقلية المسلم لم يكن ليكون لو لم نصب في البدء بفوبيا الانتماءات، نخاف أن لا ننتمي فنكون أضعف، رغم أننا بالانتماءات أضعف! فكل انتماء لا يتحقق إلا على حساب إسلامنا، ألا نرى كيف أنه لم يعد يكفي أن يكون المرء فينا إنسانا مسلما فقط! أصبح المسلم لا يستطيع أن يصرح بإسلامه فقط دون أن يتبعه بطائفة، وبعد تحديد الطائفة عليه أن يُحدِد المذهب المُتفرِع عن تلك الطائفة، ولا يكفي هذا لأن عليه أيضا أن يحدد انتماءه لأحد الفروع المتفرعة عن المذهب الذي يتبِعه، ثم يحدد إلى أي تنظيم أو تنظير أو إمام أو شيخ ينتمي! إننا نمزِق إنسانيتنا ثم إسلامنا إلى آلاف الأجزاء المتناثرة، ثم نأخذ كل جزء وننصبه دينا مستقلا بذاته، له أئمته وأعلامه وأدبياته، ثم نكفر ونشتم ونلعن من لا يتبِع هذا الجزء المُمزق عن الإسلام! فأي فوضى نعيشها؟
 


هذا لا يعني أن تلك التفرعات والتنوعات الهائلة عن الإسلام خلل، بل هي من أهم الدلالات التي نستشف من خلالها كيف أن هذا الإسلام حيوي مرن ملائم جدا لكل التنوعات الإنسانية، فالتفرعات والتنوعات التي نتجت عن الإسلام تحاكي تلك التفرعات والتنوعات النظرية والفلسفية والفكرية التي أنتجتها البشرية، وهذا دليل على مدى تأقلم الإسلام مع كل زمان ومكان وكل فِكر واتجاه وفلسفة، وستنشأ في المستقبل مزيد من التفرعات والتنوعات عن الإسلام ولن يتوقف الأمر حتى تتوقف الإنسانية عن التأقلم مع الحياة، ولن تتوقف الإنسانية عن التأقلم مع الحياة! إلا أن الأمر الذي غاب ولا يزال يغيب عن أفهامنا أن روعة كل هذه التفرعات والتنوعات الإسلامية تتجلى فقط حين نتعامل معها كمواد لمجرد الاطلاع لا الاتباع. الأمر أشبه بأن يدخل المرء إلى مكتبة عامِرة بالكتب فيأخذ في قراءة ما يريد، تاركاً ما لا يريد على الرف دون حرج أو خوف من كفر.
 


إن فوضى الانتماءات أدخلتنا في فوضى أنكى وأشد، وهي فوضى تحديد ماهية الآخر، وفي سبيل تحديد ماهيته وإلى أين ينتمي لم يعد أحد يهتم بفكر هذا الآخر وغايته وهدفه، يكفي مثلاً أن يُصرِح أحدهم بأنه سلفي ليكون كل قوله تخلفاً ورجعية وإن لم يقل سوى عبارة "السلام عليكم"، أو أن يُصرِح أحدهم أنه صوفي ليكون كل ما يقوله كُفرا وإن لم يقل سوى عبارة "تحية عطرة"، حتى أصبح من يعرض فكرته يعرضها بلا سلام ولا تحية فهو يُخاطِب عقليات تُحاكِم على الهوية، وليس الخلل في المُتلقي فقط، لأن المتلقي لم يكن سيهتم بتحديد انتماء المتحدث لو لم يكن الانتماء بالنسبة للمتحدث هاجسا مرضيا!
 


أتدري عزيزي القارئ لماذا يكره المسلم من لا ينتمي إلى مذهبه أو طائفته؟ لماذا ينبش في خباياه؟ الجواب الذي لا نريد الاعتراف به هو أننا منذ بدأنا الإدراك وجدنا أنفسنا معتكفين أمام هذا المذهب الذي ننتمي إليه الآن، ثم بنينا اعتقادا راسخا أننا ننتمي إلى الحق المبين وأن الآخر ينتمي إلى الباطل، بدلالة طول أمد اعتكافنا ودلالة عدم اعتكاف الآخر معنا. وللأمانة، الآخر أيضاً يرانا كما نراه! إن كل ما في الأمر أننا قد ألِفنا ما نحن عليه، إننا بدأنا في التكسب ماديا ومعنويا وبدأنا في بناء العلاقات الاجتماعية بناء على انتماءاتنا، ولهذا نستصعب جدا القبول بالآخر ليس كرها فيه إنما خوفٌ من أن يكون الاعتراف به البداية لخسارة لمكتسباتنا طيلة فترة الاعتكاف. إن – أبي لهب - لم يتنازل عن الانتماء لمعتقداته إلا خوفاً من أن يكون اتباعه لمحمد – عليه الصلاة والسلام - بداية لخسارة مكاسبه المادية والاجتماعية!
 

أخيرا.. إن الفرقة الناجية هي التي يهرب أفرادها بإنسانيتهم وإسلامهم من كل أشكال الانتماء، ولا تدع أحدا يخبرك بغير هذا، فإن محمداً – عليه الصلاة والسلام - ما جاء ليشجع على التفرقة والتحزب والانتماءات العمياء، كيف يشجِع على هذا والله تعالى يقول: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم).

استثمار البؤس إعلاميا !


ابنتي البالغة من العمر عشرين عاما صماء بكماء. وأخوها الذي يكبرها بخمس سنين مصاب بالشلل التام. أما أكبر أبنائي فقد بلغ الخامسة والثلاثين وهو مدمن عاطل وفيه سفه. كل هذه الظروف جعلت من زوجتي إنسانة مضطربة نفسيا لا يعول عليها. وأنا قد هرمت، بالكاد أقوى على الوقوف!..
وقبل أن ينتهي المحتاج من سرد قصته، مال المصور إلى الإعلامي بجانبه وقال: أعتقد أن هنالك شيئا ناقصا في القصة؟ فرد الإعلامي: الشيء الذي ينقص المشهد هو أن منظر هذا المحتاج لا يحتوي على الكمية اللازمة من البؤس، عليه أن يخلع الثوب ليرتدي جلبابا ممزقا، وأن يتحدث في انكسار شديد، وحبذا لو تلطخ وجه ابنه المشلول ببعض الغبار لموازنة البؤس، بعدها سنضيف قليلا من الآهات مع صوت بكاء خافت أثناء الحديث حتى ترتفع قيمة التبرعات.
رغم أن المشهد أعلاه تخيلي بالكامل، إلا أنه واقعي جدا، فإعلامنا المقروء والمسموع والمكتوب - غالبا - عندما يعرض حالة إنسانية فإنه يركز على إذكاء مشاعر الشفقة في المتلقي قدر المستطاع، وذلك عبر المبالغة في عرض البؤس الإنساني للحالة موضع الاستجداء، والإعلام في هذه الحالة لا يكاد يختلف عن ذلك الإنسان الذي يمتهن تقطيع أطراف الراغبين في التسول، فالجميع يسير وفق نفس المنطق، منطق أن مظاهر البؤس كلما زادت سيزيد إحسان المحسنين تباعا! وفي الحقيقة أن هذا الدور الإعلامي يعطي انطباعا بأن ضمير المجتمع قد صدئ وتصلب لدرجة كان لزاما معها أن يزيد الإعلام من ضرباته ويزيد المحتاج من بؤسه، حتى يثيرا شفقة أحدهم، هذه الشفقة التي قد تثار وقد لا تثار، لتصبح المسألة برمتها لعبة قمار، يتم فيها إلغاء الكرامة ثم ينتظر الحظ، الذي قد يبتسم بعد المحاولة الألف وقد لا يبتسم.
إن أسلوب التسول في أي مجتمع يعد نوعا من المجسات التي يقاس عن طريقها تقدم المجتمع من عدمه، وبمجرد اطلاع سريع على نهج الإعلام عند عرض حاجات المحتاجين سنصل إلى نتيجة: أن البؤس الإنساني قد أصبح مادة إعلامية يجب التعامل معها وفق أسس وأصول محددة وروتين خانق، وإلا فلن يتقدم فاعل الخير متعللا بأن المادة الإعلامية التي عرضت أمامه لم تكن تحتوي على القدر المعتاد من البؤس!. وأن يصبح البؤس مادة إعلامية فهذه دلالة على أن المجتمع غير متقدم، لأن فاعلي الخير في المجتمعات المتقدمة يفعلون الخير لمن يثير إعجابهم أكثر، لهذا نجد المحتاجين في المجتمعات المتقدمة يتقنون العزف والرسم والخدع البصرية بينما في المجتمعات غير المتقدمة يلجأ المحتاجون إلى تقطيع أطرافهم.
ثم إننا أصبحنا لا نؤمن إلا بالمظاهر، مظاهر نحن من وضع مقاييسها حتى يسهل حكمنا وتفاعلنا مع الآخرين. قد وضعنا مقاييس محددة للمتدين، للمثقف، للمحتاج، لفاعل الخير.. إلخ. من يجيد الالتزام بالمقاييس التي وضعناها سنصدقه، بمعنى أن المحتاج كاذب ما لم يتمظهر بمظاهر البؤس وفقا للمقاييس التي فرضناها نحن، وبهذا نكون قد أضفنا على المحتاج عبئا يضاف على أعبائه، وهو عبء التمظهر بالبؤس واللاكرامة التي يجب أن يلتزم بها حتى يستطيع فاعل الخير بدوره أن يتمظهر بالإحسان!. ومجتمع التمظهر في الحقيقة يربي المحتالين، فطالما الأمر لا يتطلب إلا إتقان التمظهر فمن الطبيعي أن يأتي من يتسول لمجرد الرغبة في الحصول على المال. "انتهى المقال"
ثم أبصرت البنت ذات العشرين عاما ونظرت لأبيها، ثم نطقت فقالت: لقد أسمعني بكاؤك سياط الذل، فلا تحزن. إنني لا ألومك أبدا إنما ألوم هذا النهج الإعلامي الذي شجع كل محتاج أن يتخلى عن كرامته عبر إغرائه بمشاهد العطاء اليومية. إننا يا أبي في زمن المادة فيه قد تجبرت، وقيمة الإنسان تدنت، والأغنياء يلهون بأرزاق العباد، والجمعيات الخيرية تؤصل للتسول، وفاعلو الخير يكفرون عن سيئاتهم بالتصدق علينا من فائض الأموال والطعام. إن الجميع يريد شراء الأجر بالمال، يريد محو الذنوب بالمال، يريد المكانة الاجتماعية بالمال، ثم يطالبوننا عند كل عطاء أن ندعو لهم بالمزيد من المال حتى يستطيعوا شراء الدنيا والآخرة بالمال!.
فرد الأب: بكائي ليس على ما نحن فيه، إنما على حال المجتمع الذي أرغم إعلامه على أن يستثمر فضائحنا وبؤسنا، وأجبره أن يكشف عوراتنا حتى يكفر الأغنياء عن فسادهم. أبكي لأنهم أجبرونا على أن نبالغ في التمظهر بالبؤس والشقاء أمام عدسة المصور. أبكي لأنها المرة الأولى التي يطلب فيها مني أن لا أبتسم أمام الكاميرا حتى تطلع الصورة حلوة، إنهم يروننا بالبؤس أجمل، لقد خفت إن أنا ابتسمت أمام الكاميرا أن أوصف بالمخادع!. أبكي هذه المادية التي انزلقنا إليها، حتى أصبح بؤس المحتاجين مجرد مادة إعلامية.
أخيرا.. هذا المقال ليس نفيا للإحسان والمحسنين، والصدقة والمتصدقين، بل هو أمل بأن تتم إغاثة المحتاجين – قانونيا - قبل كل شيء، حتى يطمئن المحتاج إلى أنه لن يضطر لإهدار كل كرامته مقابل الحصول على القليل، وحتى لا يستغل بؤسه أكثر من هذا.

عواء الذئاب البشرية


آهٍ من هذه المرأة، مشيها إِغراء، وضحكها إغواء، وغنجها يذل أعزة، فكم من فارس مقدام وقع أسير عينيها، وكيف بِشاب "هلفوت" في حاضر بائس أن ينجو من حبائلها؟
هذه هي صورة المرأة في عقلية المجتمع الذكوري، إنها فتنة متيقظة كأفعى تتربص لتلدغ سما يذهب العقول، وإن أراد المجتمع أن يخفف من نظرته إليها سيراها باب إبليس إلى الرجل المسكين الذي لا يملك حيلة تجنبه فتنتها مهما كان قويا.
ثقافتنا ملبدة بالأفكار التي تصف المرأة بأنها كل شيء إلا أن تكون إنسانا، قد نصبناها ملكة ثم ألبسناها رداء أفعى، فما أكرمناها كملكة ولم نتجنبها كأفعى، فأين الخلل؟ هل هو في الأدب أم في المواعظ؟ هل هو عِند المتدينين أم عِند الليبرالين؟ من الذي شوه نظرتنا تجاه المرأة؟ إن تراشق التهم بين جميع الأطراف دليل إضافي على أننا غُثاء، وطالما نحن غُثاء فلا بد من الاعتراف بأن الخلل في المنظومة ككل، في الجميع بلا استثناء، وإقرارنا بهذا يعد خطوة أولى للارتقاء، أما انشغال كل طرف بتحميل الأطراف الأخرى كامل الخلل فهذا سيزيدنا استقرارا في الغثاء.
المنظومة ككل، بكل ما فيها من آراء ومعتقدات وأفكار وعادات وتقاليد، حتى القِصص والقصائد، والخطب والمواعظ، وأحاديث المجالِس، كل شيء في الواقع وفي الواقع الافتراضي يخلق في ضمير الذكر وعقله الجاهزية لأن يكون ذئباً بشرياً من حقه أن يفترس، وأنه إذا ما افترس فلن يكون فاعِلاً إنما مفعول به، مغيباً تحت تأثير إغواء الضحية. إن الحيوان عندما يفترس فإنه يفترس ليعيش، إلا أن الإنسان بمُجرد أن يفترس سيتحول فِعل الافتراس لديه هو إلى ما يثير شهوته، بغض النظر عن الضحية وماذا ترتدي أو كيف تصرفت، لأن ما يثيره هنا ليس المرأة ووضعها إنما فعل التحرش!
صحيح أن قضية التحرش بالمرأة موجودة في كل العالم، لكنني لا أعيش في كل العالم، أعيش هنا حيث الجرح، والذي مهما كان صغيراً سيؤلم، والإنسان لا يصرخ لأن جسد غيره قد جُرِح، و"هنا" في هذا المجتمع يبدأ الأمر عندما قام إبليس باستغلال حواء لإغواء آدم حتى يأكل من الشجرة، وينتهي بافتراض أن المرأة إن قادت سيارتها فستنهش الذئاب لحمها كلما بنشر لها كفر، وما بين الافتراضين تتراكم الافتراضات تلو الافتراضات لتُركز في أفهام الرجل أن المرأة ما خلقت في الأرض إلا كفتنة وعليه أن يحذرها. إننا إن لم نغيِر في كل تلك الافتراضات ونبدأ في تصحيحها، فلن يُجدي استحداث قانون يحمي المرأة مهما كان صارما، وجمس الهيئة لن يحمي أعراض النساء طالما كان الخلل في أفهامِنا.
إن الشيء الذي لفت نظري في حادثة التحرش بالنساء في الشرقية أنها حدثت تحت ضوء الشمس! وأن يحدث الجُرم تحت ضوء الشمس، حينها سندرك أن المجرم لن يشعر أنه ارتكب جرما، وأنه أجرم بكل عفوية وتلقائية، "هي أغرته وهو تحرش" هكذا بكل بساطة! ولا يشترط هنا أن تغريه مباشرة لأنه قد يفسِر ضحكها بصوت مُرتفِع أو اصطدامها به بلا قصد، أنه إغراء وإغواء يُمارس عليه، وهو لا يفسِر تصرفاتِها على هذا النحو إلا استنادا على ثقافة مجتمع دفعته إلى هذا، وفي ظل هذه الثقافة فإن القانون لن يفعل إلا ضمان عدم التحرش تحت ضوء الشمس – في العلن-! الشيء الآخر أن المجتمع في الحقيقة لم يستنكر وقوع حادِثة التحرش إنما استنكر أنه "رأى" ما حدث، لهذا طالب الكثيرون بسن قوانين صارمة وبعودة جمس الهيئة لموقعه حتى "لا يرى" المجتمع مثل هذه الحادثة مستقبلا.
وبعيداً عن عالم الأفكار "أدبياً وثقافياً ودينياً" فإن الحياة اليومية بما تحويه من بحث عن رِزق وعمل وتجارة ومسؤوليات أسرية، كل هذا يدخل ضمن المنظومة منبع الخلل - ولتقريب الصورة- فإننا حين نصف الحياة في البادية والقُرى؛ نصفها بأنها حياة بسيطة، والحقيقة أن الحياة في القُرى ليست بسيطة إنما هي حياة متصالحة مع نفسها، لأن المرأة هناك تتشارك مع الرجل في أغلب أنشطة الحياة اليومية، ترعى معه وتزرع معه وتتاجِر مثله، وهذا ما نحتاجه أن تتشارك المرأة مع الرجل في بناء المجتمع، لأنه وبدون هذه المشاركة ومع الإصرار على الحجب والمنع والفصل، فلن يُدرك كل طرف أن للآخر قيمة، وسيجهلان بعضهما جهلاً سيزيد من تقبُل الافتراضات الفوضوية أعلاه، حينها من الطبيعي أن تراه ذئباً بشرياً وأن يراها أفعى، يتحرش بها، ثم يجد في المجتمع من يتساءل: لماذا لا نقول إنها هي من بدأت ولدغته بفتنتها؟
الخلاصة: أن استحداث قانون صارم ليس أكثر من حل سريع رغم أنه مطلوب، إلا أن المطلوب أكثر أن يتم البدء في تغيير المنظومة ككل حتى تكون النظرة الاجتماعية تجاه المرأة أنها كائن اجتماعي إنساني يشارك بقوة في بناء المجتمع، وإلا فستستمر الذئاب تعوي، وسيستمر المجتمع عاجزا إلا عن إخفاء الفريسة!

مجتمع المرحلة المتوسطة !


الآن وبعد انقضاء عشرين عاما على التخرج من المرحلة المتوسطة، هاهي الذاكرة تعود بي إلى تلك المرحلة بكل فوضويتها وانفعالاتها وما فيها من اكتئاب وحاجة إلى التمرد وبحث عن الاستقلابية والكثير جدا من الغضب غير المبرر دائما. أعود بالذاكرة إلى تلك المرحلة فيتملكني شعور بالشفقة على المعلمين، لأنهم بخلاف معلمي المراحل الأخرى، كانوا يعلّمون ويربون ويوجهون ويشرفون ويراعون ويواسون ثم لا يجدون إلا السخط والغضب والكره، وأحيانا يتطور الأمر إلى مواجهتهم باليد واللسان. الأمر لم يكن شخصيا أبدا، لكنها الأقدار التي ألقت بهم في مواجهة طلاب لا يدركون لماذا هم منفعلون!
من أهم الملاحظات في تلك المرحلة، أن الكلمة الفصل بين الطلبة كانت للأضخم جسديا، فحلم الوصول إلى الرجولة وامتلاك القوة هو السائد بين الأغلبية، هذه الأغلبية تخاطب ود الأضخم جسديا وتصاحبه ليس حبا فيه إنما تجنبا للدخول معه في مواجهة لا تحمد عقباها، وهو يعلم هذا جيدا، يعلم أنه لا يتميز عن البقية إلا بالضخامة والقوة، وفي الحقيقة هذه الميزة تؤدي الغرض تماما في هذه المرحلة، وهو في المقابل لا يحتاج لأكثر من هذا حتى يفرض ذاته ورأيه على الجميع، لا يحتاج إلى أن يقنع الآخرين بالمنطق حول أي شيء يريده، فيكفي أن يقول وسيقبل الجميع "وإلا"! .. يمكن القول إن الإقناع والرأي والمشورة في تلك المرحلة كانت ترفا لا أحد يحتاجه.
ثم ينتقل الطالب إلى المرحلة الثانوية ومنها إلى الجامعة ثم التخرج، وشيئا فشيئا تبدأ تلك الأعراض بالتقلص حتى تندثر نوعا ما ويتم استبدالها بالهدوء النسبي والاستقرار النفسي، وهكذا لا يتخرج الطالب من الجامعة إلا وقد أزاح الكثير من انفعالاته وغضبه وفرضه للرأي استنادا على القوة الجسمانية، ليعتبر كل تلك الفوضى التي كان يمر بها مجرد مرحلة وانتهت، يتذكرها فيبتسم أحيانا وأحيانا يستغفر الله -إلا أن هنالك استثناءات- ففي حين نجد أغلبية الطلاب يتخرجون من الجامعة باتزان عقلي ونفسي، تبقى هنالك فئة محدودة تصر على الاحتفاظ بفوضوية المرحلة المتوسطة، وهؤلاء غالبا يتم تجنبهم في هذه المرحلة والنظر إليهم أنهم مثال سيئ، بعد أن كانوا في المرحلة المتوسطة مثالا يحتذى!
وفي الحقيقة.. رغم أننا جميعنا ذلك الطالب الذي مّر بمرحلة المتوسطة بكل مافيها من تعقيدات نفسية بسبب المراهقة ثم تجاوزها شيئا فشيئا حتى نضج واتزن، ورغم أن هنالك استثناءات محدودة تحتفظ بملامح مراهقتها القديمة، إلا أننا عندما خرجنا إلى المجتمع وعقدنا عليه الآمال، فوجئنا بأن المجتمع نفسه لا يزال في مرحلة المتوسطة بكل ما تحتويه من مراهقة فوضوية، وجدناه مجتمعا متقلبا في الرأي، يحتاج دائما إلى من يلقنه الأوامر، مجتمعا على الرغم من تحليه بالكبرياء إلا أنه سهل الاستغلال، لأنه عاطفي جدا!
نتمعن في صورة المجتمع فنراها نسخة مكبرة من طالب المرحلة المتوسطة، مجتمع منطو على نفسه من جهة، ومن جهة أخرى ناقم على الأوضاع، جالد للذات، ساخط على الدوام، متأفف لمجرد التنفيس لا للإصلاح، يؤمن بأنه محور الكون وأن الجميع يريد النيل منه أو التقرب إليه، وأسوأ ما فيه أن خطابه مملوء بالأنا، وأن الآخر المختلف دائما "بعبع" يجب الحذر منه، والآخر هنا قد يكون شخصا وقد يكون فكرا أو ثقافة جديدة أو جهاز جوال أو تقنية حديثة. كل شيء جديد هو مختلف ويجب التعامل معه بتخوف حتى يستساغ. وإذا كان المراهق يلجأ دوما إلى الانطواء، نجد المجتمع يلجأ إلى الخصوصية ويحتج بها ويصر عليها.
ثم نأتي إلى أهم وأبرز الملاحظات على مجتمع المرحلة المتوسطة، وهي أن الإعجاب والانبهار غالبا ينصب لصالح الأقوى والأضخم وليس للأكثر عقلانية أو اتزانا، والأقوى هنا لا يشترط أن يكون شخصا فقد يأتي على هيئة جماعة تؤمن بأنها ليست في حاجة إلى إقناع الآخرين بالمنطق والرأي والمشورة، فيكفي أنها الأقوى لتفرض رأيها "وإلا"، وطبعا المجتمع يدرك أن أدوات المنطق والإقناع بالعقل في هذه الحالة مجرد ترف لا أحد يحتاجه، فالرأي هنا يقال وعلى البقية الرضوخ تجنبا للدخول في مواجهة لا تحمد عقباها، وهذا يتضح من خلال الآراء التي تخرج بين الفينة والأخرى، آراء رغم عدم منطقيتها أو عقلانيتها إلا أنها تلقى القبول لدى البعض، أما على من لا يستسيغها أن يبلع العافية. من تلك الآراء كمثال: أن المرأة تمتلك غدة تمنعها عن الجمع بين النطق والتذكر في نفس الوقت، لهذا فهي إما أن تتذكر أو تتكلم، أما الجمع بين الوظيفتين فمن خصائص الرجل!. وغيرها من الآراء التي توضح بجلاء أن الفرض هنا يعتمد على مبدأ: "هوا كذا".
إنه من الطبيعي أن يمر الإنسان بأكثر من مرحلة، فينتقل من الطفولة إلى المراهقة ثم النضخ، أما بالنسبة للمجتمع فإما أن يكون بدائيا أو مراهقا أو مجتمعا ناضجا. نحن لسنا مجتمعا بدائيا – ولله الحمد - لكننا في نفس الوقت لم نتجاوز بعد مراهقة المرحلة المتوسطة بكل فوضويتها.

إعجاز بلا إنجاز

مُوجد هذا القرآن هو خالق الوجود، فلا عَجب إذاً أن يطابق القرآن ما في الوجود!، والإنسان جزء من هذا الوجود قد خصه الله بتوجيه الخطاب القرآني له ثم حبَاه بالقدرة على قراءة الوجود، ولأن الإنسان كفور قد جاءه التحدي الإلهي بأن يأتي بمثل هذا القرآن أو جزءا منه، فقَبّل الإنسان التحدي وراح يحاول ولا يزال حتى الساعة متأملاً أن يوجد الثغرات التي يَلج منها لإبطال القرآن، فباءت كل المحاولات بالفشل وستبوء في الغد، ولن يتعلم الإنسان من كل هذا الفشل المتعاقب أبداً وسيحاول ويحاول ولن يتوقف، حتى إن أيقن أن محاولاته ستفشل!
والمتأمل في أمر هذا التحدي ربما يتساءل: لماذا يتحدى الله على رغم علمه المسبق بأن الإنسان لن ينجح؟ والأغرب، لماذا يستمر الإنسان في خوض التحدي على رغم تتابع الفشل طيلة 1400عام؟! كلما تفكرت في هذه المسألة يقودني التفكير إلى أن الله لم يتحد الإنسان "فقط" ليقيم عليه الحجة أو ليثبت له بأن القرآن حق، على ورغم أن هذه الأمور تعتبر أجزاءً أساسية من الحقيقة إلا أن الجزء والهدف الأسمى من هذا التحدي هو تحفيز الإنسان وحثه عن طريق التحدي! فالله يعلم أن الإنسان سيقبل التحدي وسيمضي فيه، ويعلم أيضاً أن الإنسان لن يتراجع وإن أيقن الفشل، على رغم هذا قد تحداه الله بأن يأتي بمثل هذا القرآن لعلمه المسبق بأن هذا التحدي كفيل بتحفيز الإنسان على تطوير أدواته وقدراته، سواء كان مشككاً أو مؤمناً!
والطرف الثالث في هذا التحدي الإلهي القائم بين القرآن والمشككين هم المؤمنون، بل إنهم المحور الأساسي في هذا التحدي! فكما أن المشككين سيطورون من أدواتهم كذلك من يدافع عن القرآن سيطور من أدواته بشكل أكبر، حينها سيتجلى الإعجاز الحقيقي والأعظم للقرآن، بأن ينمي في المؤمن الرغبة الحقيقية للإنجاز والتطور والتقدم في شتى المجالات والعلوم، ولا أقول بأن التحدي هو الأداة الوحيدة للتحفيز، لكن الحديث هنا عن التحدي.
في الماضي كان التحدي "بلاغيا، بيانيا" – ولا يزال - فأثمر حينها أن طوّر المسلمين من قدراتهم البلاغية والبيانية للدرجة التي فاقوا بها حتى من نزل القرآن بينهم، فقاموا بتنقيط الحروف وتشكيلها ووضع القواعد المنظمة لها وأبدعوا في هذا العلم حتى خرج علماء أمثال "سيبويه، الجاحظ، الباقلاني، الجرجاني"، هؤلاء العلماء وغيرهم لم يبحروا في علم البلاغة والبيان بسبب تحدي القرآن للمشككين فقط، لكن وبشكل ما قد أثرت محاولات المشككين في تحفيز هؤلاء العلماء إلى أن أصبح علمهم إلى اليوم يعتبر علامة يستدل بها.
هنا سيطرأ سؤال: أي الإعجاز أعمق، أن يحتوي القرآن على آيات قمة في البلاغة، أم أن يكون إعجاز القرآن البلاغي دافعاً رئيسياً لأن يطور أهل البلاغة من أنفسهم، فيخرجون لنا كل هذا العلم اللغوي والبياني الضخم؟.. ولو أعدنا صياغة السؤال سنسأل: ما الحكمة من احتواء القرآن على كل هذا الإعجاز؟ أن يتفاخر المؤمنون بكون القرآن معجزاً أم أن يتخذوا من إعجاز القرآن دافعاً رئيسياً للإنجاز حتى يسهموا في إعمار الأرض!.. ها نحن اليوم نعيش فترة تشهد فيها الإنسانية تطوراً علمياً ضخماً على كافة الأصعدة، فبماذا شارك المسلمون؟ إننا لم نشارك حاضراً إلا في ما لا يسمن من جوع، لأننا لم نستثمر دهشتنا من الإعجاز القرآني، إننا لو عدنا للتاريخ سنجد السلف وفور انقطاع الوحي، راحوا يستثمرون تساؤلاتهم ودهشتهم حول إعجاز القرآن في بناء اتجاهات علمية متعددة أصبحت في ما بعد "فاصلة" في تاريخ البشرية يشار إليها بالبنان إلى اليوم.
من خلال ما سبق يتضح جلياً بأن الخلل ليس في القرآن -معاذ الله- ولا في خلو القرآن من الإعجاز، إنما في تعاطينا نحن مع الإعجاز القرآني -كعادتنا مع أي أمر آخر- إننا لم نسع منذ البدء إلى استخدام الإعجاز القرآني لإلجام الغرب وإفحامه، إنما أردنا مواساة أنفسنا بالإعجاز القرآني حتى نستسيغ هذا الواقع الذي نعاني فيه، بمعنى آخر أننا وعبر الإعجاز القرآني أردنا أن نهيئ لأنفسنا مساحة من الاطمئنان نتخفف فيها من عبء تخلفنا! ولهذا كان من الطبيعي أن يتحول الإعجاز إلى إزعاج نزاحم به الأمم التي تعمل وتتعلم دون أن نضيف شيئاً، وأن نضيف للإنسانية شيئاً يعني أن نقتدي بالسلف -حقاً- ونبدأ في الجمع بين قراءة الوجود -علمياً- وقراءة القرآن حتى نترك للأجيال اللاحقة ما يستحق أن يبنوا عليه لتستمر عجلة التقدم، لأننا حتى الآن لسنا أكثر من حلقة وصل - مفرَّغة - كل مهمتها إيصال مآثر السلف إلى الخلف، كأننا هنا مجرد فراغ سيتخطاه التاريخ أثناء عبوره من الماضي للمستقبل!
خلاصة القول: إن القرآن حق، والإعجاز في القرآن حق، ولا ينكر هذا الحق إلا متكبر مدرك قبل أن ينكر أن إنكاره باطل! لكنّ اكتفاءنا بترديد أن القرآن حق وأنه كتاب معجز، فهذا لن يفيد، طالما نحن نقف عند حد الإعجاب والاندهاش والتسبيح، دون أن نُتبع هذه الدهشة بإنجاز حضاري يعيدنا إلى المضمار.

القانون والمغفلون!

تتضاءل المدينة شيئاً فشيئاً تحت أقدام المسافر، فينظر إليها قبل أن تتقزم وتختفي عن ناظريه تحت السحاب ليفاجأ بأن مدينته أصبحت بحجم علبة سردين، الزحام الخانق فيها لم يخلق أُلفة ومودة بين المتزاحمين، لأن هنالك مفهوما درج في مجتمعه العربي أن القانون لا ولن يحمي المغفلين، مما حدا بالأفراد أن يكون همسهم ريِبة وتبادلهم للنظرات احترازاً ولغتهم مشبعة بالاستظراف المصطَنع، ومشاعرهم مجرد وسيلة تنتهي بتحقيق مصلحة، كل هذا حتى لا يوصف أحدهم بالمغفل فيتجاهله القانون!
راحت الأسئلة والأفكار تنهال عليه، حتى أصبح صدره ضيقا حرجا لا مجال لانشراحه بمنظر السحب أمامه، ولم يدرِ هل وجوده بين السحاب حلم، أم إنه قد أفاق للتو من كابوس؟ كيف بالقانون الذي لا يحمي المغفلين، ينجح في حماية المفسدين بكل جدارة؟! هل الفاسد إنسان حريص جدا، يجيد التحايل على القانون بكل حرفية ومهارة؟ أم إنه مجرد مغفل ساذج قد وهبه القانون حق الافتراس؟ كقانون الغاب الذي أعطى الحيوان المفترس حق الافتراس في كل حالاته، سواء كان قادراً أو عاجزاً، وعلى المتضرر "الفريسة" اللجؤ إلى الحفَر والخنادق للاختباء.. أو أن يتعلم فن الفهلوة والتلون والتمويه لتجنب الافتراس قدر المستطاع. وفي بلاد العرب، فالأمر لا يختلف كثيراً، لأن القانون يهب الفاسِد حق الإفساد بغض النظر عن سذاجته أو رجاحة عقله، وبهذا فالفاسد لا يتحايل على القانون إنما يمارس إفساده بِرِعاية القانون! والقانون الذي يهب الفاسد حق الإفساد لا بد أن يترك الباب مواربا ليستطيع الضحية أن يتحلى بشيء من الفهلوة والقدرة على التلون حتى يخلص بعض حقوقه من أيادي المترفين!
انقشعت السحب فظهر المُحيط الشاسِع من تحتها أزرق، كمِرآة مصقولة. نظر المسافر فرأى مدينته تحت هذا المُحيط، حيث القوي يأكل الضعيف، والمساحة المفتوحة لا تترك للضعيف مجالاً للهرب أو الاختباء، والانسجام الظاهر يُخبىء تحته صراعاً دامياً يخوضه "المُغفلون" بينما هم يُؤدون أدوار الفهلوة بكل سذاجة، دون أن يُدرِكوا أن القانون لن يُعطيهم حق الافتراس، إنما اقْتِيات رزق الأصغر فقط! هذا الصراع اليومي من الطبيعي أن يخلف وراءه أفرادا مصابين بشتى الأمراض والعِلل، من ضغط وسكر وجلطات وأرق وقلق ووسوسة وعنف أسري ومشاكل أخلاقية، فالأفراد هنا نصفهم يشعر بأنه مغفل، لأن القانون لم يحمه حتى الآن ولن يحميه، والنصف الآخر أرهقته الفهلوة وأتعبه الجري في كل مكان لانتهاز الفُرص المتساقطة من موائد المترفين!
لم يستفق صاحبنا من خيالاته إلا على ارتجاج الطائرة وإعلان الطيار عن الوصول. وفور توقف الطائرة أخذ يُلملِم أغراضه للخروج.. مضى على مكوثه في هذه المدينة بضعة أيام، شاهد خلالها مجتمعاً لا يتصنع أفراده الابتسامة، وينطلقون في تصرفاتهم بكل عفوية، لم يجد أحداً هنا يشتري شهادات وهمية، ولم يسمع عن مناقصات تتم في الباطن، لم يُشاهِد تجمعاً لآلاف العاطلين، لم يُصادف شخصاً يبتسم ابتسامة صفراء فيفهم منها الآخر أن المعاملة لن تتم إلا برشوة معتبرة.. شاهد هنا أشياء جعلته يستغرب، فخاطب أحد المارة: إنكم تتصرفون في هذه البلاد بطريقة فيها الكثير من السذاجة، تبتسمون ببلاهة، وتتحدثون بلا احتراز! إن القليل من الحرص واجب، فالقانون لا يحمي المغفلين، فما السر في هذه التصرفات؟
ابتسم المار وقال: السر كله في القانون! صحيح أننا مجتمع فيه نصابون، وفيه أناس يحترفون قطع الأرزاق، ولدينا مشاكلنا التي تفرضها طبيعة الحياة في المدينة كأي مدينة أخرى، نحن نشبِهكم أنتم العرب كثيراً، لكننا نختلف عنكم في أمرين، الأمر الأول: أن القانون هنا وُضع أساساً لحماية من تُطلِقون عليهم مُغفلين، بينما ننظر نحن إليهم أنهم أصحاب ضمير وأخلاق وطيبة قلب، وهؤلاء من يستحقون الحماية قانونياً قبل أي أحد آخر، لأن القانون الذي لا يحمي هؤلاء فهو ببساطة سيحمي من يستغل نقاء سريرتهم، الأمر الثاني: أن القانون هنا يُطبق على كل نصاب وفهلوي من أي فئة من فئات المجتمع دون مجاملة أو تمييز. نحن لسنا مجتمعا ملائكيا، بل وتكثر بيننا الشياطين، غير أنه لا أحد من تلك الشياطين يعتقد بأن من حقه، قانونياً، أن يكون شيطانا! وهذا هو السر في حالة الطمأنينة التي تراها على وجوه الجميع هنا، فالكل يؤمِن بسيادية القانون ولا مجال للمحاباة عند التطبيق.
إن أي خلل في تطبيق القانون سيقسم المجتمع فوراً إلى ثلاث فئات، فئة مفترِسة، وفئة متلونة تجيد الفهلوة، وفئة ثالثة ساخطة على باقي الفِئات.
يرى "علي عزت بيجوفيتش" أن الهدف النهائي من القانون ليس العقوبة أو المنع أو الفرض أو حتى التحسين، إنما الهدف الجوهري هو خلق توازن أخلاقي في المجتمع.. كما يرى أن القوانين إذا كثرت وتراكمت وتعطلت، فينبغي عندئذ أن تتوقف الدولة عن إصدار أي قوانين جديدة لن تزيد الأمر إلا سوءا، وأن يبدأ الحكماء والمفكرون فوراً في إعادة تربية المجتمع من جديد!

حادثة الهيئة والجدل الاجتماعي


قضية وفاة الشابين في اليوم الوطني بسبب مطاردة رجال الهيئة لن أتناولها في المقام الأول هنا، لأن ما لفت نظري أكثر هو الجدل الاجتماعي الذي دار حول القضية، هذا الجدل يعتبر قضية أخرى بحد ذاتها، فالبعض أخذ يدافع عن الهيئة وفي طريقه راح يوزِع التهم على الطرف الآخر تارة بالنفاق وتارة بالفسوق وأخرى بكره الدين وأهله، ولم تتبق تهمة إلا وألقيت على من ينتقد الهيئة! وفي المقابل راح الطرف الآخر يصف الهيئة وكل من يقف في صفها بأوصاف كارثية بمعنى الكلمة، من يتتبع تلك الأوصاف سيعتقد أن الموصوف "شيطان رجيم"! ورغم أن القضية برمتها قد أحيلت إلى القضاء ولم يبت فيها بعد، إلا أن طرفي الجِدال قد حسموا القضية بالنسبة لهم ورفعت الجلسة!
في الحقيقة أن هذا الجدل يعد أمراً طبيعيا، فالكل يُدلي بدلوه إلى أن يصدر أمر المحكمة، ولكن المفارقة أن أمر المحكمة إذا ما صدر فعلا فلن ينهي الجِدال، لأن من حكم ببراءة أعضاء الهيئة مسبقا فلن يلتفت إلى ثبوت التهمة عليهم، والعكس كذلك، ويمكن القول إن ملف القضية قد أغلق "اجتماعياً" حتى قبل أن تباشر فيه المحكمة! مثل هذا الجدل الاجتماعي ليس خللا، إنما هو جِدل صحي مهما كان فوضويا ومؤلما، لأن فيه دلالة على تفاعل المجتمع مع قضاياه، ودلالة على وجود اختلافات في الآراء والتوجهات، تلك الاختلافات استحالت أن تظهر دون حوادث وقضايا تؤلِم، والأمر الأهم في كل هذا الجِدال أنه يخفِف من حِدة "المديح" الذي يطرِب لكنه يمرِض أيضاً.. يمكننا اعتبار مسألة الجدل في مثل هذه القضايا خطوة على طريق إيقاف التدهور على الرغم مما تسبِبه من ضجيج!
وبما أن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر هي مِحور الجدال في هذا الموضوع، فعليها أن تستفيد من الجِدال الدائر قدر الاستطاعة، وأن تركِز وترحِب بالنقد الهادف وحتى الجارح منه، فلا سبيل أبداً للتقدم والتطور خطوة واحدة للأمام ولا مجال لإصلاح وتدارك الأخطاء إلا بالاستماع إلى حُجَج المُعارضين مهما كانت جارحة، لأن المدح والثناء أبداً لن يضيف ولن يفيد في شيء، بل إنه في الغالب يأتي للإبقاء على ركود الماء الراكِد، ومن أجل الإبقاء على حالة الركود فلن يتوانى المادحون عن التصدي لكل اعتراض ونقد، بل وسيشيطنون المُنتقدين ويزندقونهم قدر المستطاع!
الوجه الآخر "القبيح" لهذا الجدل ولكل جدل يخوضه المجتمع أنه دائماً يكون "محتقِنا، متملمِلا، متذمِرا، متأففا... إلخ" والسبب أن المجتمع في الحقيقة لا يناقش مشاكله، إنما عناوين المشاكل التي تطفو على السطح بين الفترة والأخرى، كأن المجتمع يفاجأ كل مرة برغم أن المشاكل هي نفسها تتكرر دائماً! بمعنى أننا نصرخ ثم نهدأ ثم نعود لنثور فنهدأ من جديد، وغداً ستعود نفس المشكلة بنفس الكيفية، وسيبدأ الجِدال من جديد تسبِقه نفس حالة الدهشة! سنستمر على هذا المِنوال إلى الأبد طالما نحن نتجنب الخوض في منبع هذه التصرفات، في الثقافة التي تُغذي وتضمن توالد نفس المشاكل بنفس الكيفيات -والحديث هنا ليس عن قضية الهيئة في اليوم الوطني- إنما عن كل قضايانا عموماً.. يموت المريض على يد الطبيب فنتجادل لفترة ثم يموت آخر وهو يهرب من رجال الهيئة فنتجادل وننسى المريض الذي مات سابقاً، في الأخير لم تُحل مشاكلنا مع الصحة ولا مع الهيئة ولا حتى مع التعليم أو الجوازات أو حتى مشاكل الأسرة. صحيح أن الجدل كثيراً ما يفيد لكن إذا ظل مجرد ردة فِعل فسنظل نتجادل لمجرد الجِدال!
لقد تساءل "أبو العلاء المُعري" سابقاً: يا ليت شعري، ما الصحيح؟ هل الصحيح أن نستمر في الجدل بلا معنى، إلى أن نصل للهدف – بالصدفة -؟ أم نبني لجِدالنا قاعدة ننطلق منها إلى هدف مرسوم؟ أم ألا نتجادل من الأساس؟ أم نحتضن بعضنا البعض ونبكي على حالنا؟
إننا لم ننتبه في زخم كل هذه الجِدالات أن كل جِهة أخطأت وأصبحت مِحور الجِدال، قد راهنت قبل أن تخطىء وستراهِن مستقبلاً على أن الجدال لا بد أن ينقضي، والصراخ حتماً سيخِف وسينسى الجميع في الأخير، والمفارقة أنهم غالبا يكسبون الرهان!