استثمار البؤس إعلاميا !


ابنتي البالغة من العمر عشرين عاما صماء بكماء. وأخوها الذي يكبرها بخمس سنين مصاب بالشلل التام. أما أكبر أبنائي فقد بلغ الخامسة والثلاثين وهو مدمن عاطل وفيه سفه. كل هذه الظروف جعلت من زوجتي إنسانة مضطربة نفسيا لا يعول عليها. وأنا قد هرمت، بالكاد أقوى على الوقوف!..
وقبل أن ينتهي المحتاج من سرد قصته، مال المصور إلى الإعلامي بجانبه وقال: أعتقد أن هنالك شيئا ناقصا في القصة؟ فرد الإعلامي: الشيء الذي ينقص المشهد هو أن منظر هذا المحتاج لا يحتوي على الكمية اللازمة من البؤس، عليه أن يخلع الثوب ليرتدي جلبابا ممزقا، وأن يتحدث في انكسار شديد، وحبذا لو تلطخ وجه ابنه المشلول ببعض الغبار لموازنة البؤس، بعدها سنضيف قليلا من الآهات مع صوت بكاء خافت أثناء الحديث حتى ترتفع قيمة التبرعات.
رغم أن المشهد أعلاه تخيلي بالكامل، إلا أنه واقعي جدا، فإعلامنا المقروء والمسموع والمكتوب - غالبا - عندما يعرض حالة إنسانية فإنه يركز على إذكاء مشاعر الشفقة في المتلقي قدر المستطاع، وذلك عبر المبالغة في عرض البؤس الإنساني للحالة موضع الاستجداء، والإعلام في هذه الحالة لا يكاد يختلف عن ذلك الإنسان الذي يمتهن تقطيع أطراف الراغبين في التسول، فالجميع يسير وفق نفس المنطق، منطق أن مظاهر البؤس كلما زادت سيزيد إحسان المحسنين تباعا! وفي الحقيقة أن هذا الدور الإعلامي يعطي انطباعا بأن ضمير المجتمع قد صدئ وتصلب لدرجة كان لزاما معها أن يزيد الإعلام من ضرباته ويزيد المحتاج من بؤسه، حتى يثيرا شفقة أحدهم، هذه الشفقة التي قد تثار وقد لا تثار، لتصبح المسألة برمتها لعبة قمار، يتم فيها إلغاء الكرامة ثم ينتظر الحظ، الذي قد يبتسم بعد المحاولة الألف وقد لا يبتسم.
إن أسلوب التسول في أي مجتمع يعد نوعا من المجسات التي يقاس عن طريقها تقدم المجتمع من عدمه، وبمجرد اطلاع سريع على نهج الإعلام عند عرض حاجات المحتاجين سنصل إلى نتيجة: أن البؤس الإنساني قد أصبح مادة إعلامية يجب التعامل معها وفق أسس وأصول محددة وروتين خانق، وإلا فلن يتقدم فاعل الخير متعللا بأن المادة الإعلامية التي عرضت أمامه لم تكن تحتوي على القدر المعتاد من البؤس!. وأن يصبح البؤس مادة إعلامية فهذه دلالة على أن المجتمع غير متقدم، لأن فاعلي الخير في المجتمعات المتقدمة يفعلون الخير لمن يثير إعجابهم أكثر، لهذا نجد المحتاجين في المجتمعات المتقدمة يتقنون العزف والرسم والخدع البصرية بينما في المجتمعات غير المتقدمة يلجأ المحتاجون إلى تقطيع أطرافهم.
ثم إننا أصبحنا لا نؤمن إلا بالمظاهر، مظاهر نحن من وضع مقاييسها حتى يسهل حكمنا وتفاعلنا مع الآخرين. قد وضعنا مقاييس محددة للمتدين، للمثقف، للمحتاج، لفاعل الخير.. إلخ. من يجيد الالتزام بالمقاييس التي وضعناها سنصدقه، بمعنى أن المحتاج كاذب ما لم يتمظهر بمظاهر البؤس وفقا للمقاييس التي فرضناها نحن، وبهذا نكون قد أضفنا على المحتاج عبئا يضاف على أعبائه، وهو عبء التمظهر بالبؤس واللاكرامة التي يجب أن يلتزم بها حتى يستطيع فاعل الخير بدوره أن يتمظهر بالإحسان!. ومجتمع التمظهر في الحقيقة يربي المحتالين، فطالما الأمر لا يتطلب إلا إتقان التمظهر فمن الطبيعي أن يأتي من يتسول لمجرد الرغبة في الحصول على المال. "انتهى المقال"
ثم أبصرت البنت ذات العشرين عاما ونظرت لأبيها، ثم نطقت فقالت: لقد أسمعني بكاؤك سياط الذل، فلا تحزن. إنني لا ألومك أبدا إنما ألوم هذا النهج الإعلامي الذي شجع كل محتاج أن يتخلى عن كرامته عبر إغرائه بمشاهد العطاء اليومية. إننا يا أبي في زمن المادة فيه قد تجبرت، وقيمة الإنسان تدنت، والأغنياء يلهون بأرزاق العباد، والجمعيات الخيرية تؤصل للتسول، وفاعلو الخير يكفرون عن سيئاتهم بالتصدق علينا من فائض الأموال والطعام. إن الجميع يريد شراء الأجر بالمال، يريد محو الذنوب بالمال، يريد المكانة الاجتماعية بالمال، ثم يطالبوننا عند كل عطاء أن ندعو لهم بالمزيد من المال حتى يستطيعوا شراء الدنيا والآخرة بالمال!.
فرد الأب: بكائي ليس على ما نحن فيه، إنما على حال المجتمع الذي أرغم إعلامه على أن يستثمر فضائحنا وبؤسنا، وأجبره أن يكشف عوراتنا حتى يكفر الأغنياء عن فسادهم. أبكي لأنهم أجبرونا على أن نبالغ في التمظهر بالبؤس والشقاء أمام عدسة المصور. أبكي لأنها المرة الأولى التي يطلب فيها مني أن لا أبتسم أمام الكاميرا حتى تطلع الصورة حلوة، إنهم يروننا بالبؤس أجمل، لقد خفت إن أنا ابتسمت أمام الكاميرا أن أوصف بالمخادع!. أبكي هذه المادية التي انزلقنا إليها، حتى أصبح بؤس المحتاجين مجرد مادة إعلامية.
أخيرا.. هذا المقال ليس نفيا للإحسان والمحسنين، والصدقة والمتصدقين، بل هو أمل بأن تتم إغاثة المحتاجين – قانونيا - قبل كل شيء، حتى يطمئن المحتاج إلى أنه لن يضطر لإهدار كل كرامته مقابل الحصول على القليل، وحتى لا يستغل بؤسه أكثر من هذا.

0 التعليقات :

إرسال تعليق