مجتمع المرحلة المتوسطة !


الآن وبعد انقضاء عشرين عاما على التخرج من المرحلة المتوسطة، هاهي الذاكرة تعود بي إلى تلك المرحلة بكل فوضويتها وانفعالاتها وما فيها من اكتئاب وحاجة إلى التمرد وبحث عن الاستقلابية والكثير جدا من الغضب غير المبرر دائما. أعود بالذاكرة إلى تلك المرحلة فيتملكني شعور بالشفقة على المعلمين، لأنهم بخلاف معلمي المراحل الأخرى، كانوا يعلّمون ويربون ويوجهون ويشرفون ويراعون ويواسون ثم لا يجدون إلا السخط والغضب والكره، وأحيانا يتطور الأمر إلى مواجهتهم باليد واللسان. الأمر لم يكن شخصيا أبدا، لكنها الأقدار التي ألقت بهم في مواجهة طلاب لا يدركون لماذا هم منفعلون!
من أهم الملاحظات في تلك المرحلة، أن الكلمة الفصل بين الطلبة كانت للأضخم جسديا، فحلم الوصول إلى الرجولة وامتلاك القوة هو السائد بين الأغلبية، هذه الأغلبية تخاطب ود الأضخم جسديا وتصاحبه ليس حبا فيه إنما تجنبا للدخول معه في مواجهة لا تحمد عقباها، وهو يعلم هذا جيدا، يعلم أنه لا يتميز عن البقية إلا بالضخامة والقوة، وفي الحقيقة هذه الميزة تؤدي الغرض تماما في هذه المرحلة، وهو في المقابل لا يحتاج لأكثر من هذا حتى يفرض ذاته ورأيه على الجميع، لا يحتاج إلى أن يقنع الآخرين بالمنطق حول أي شيء يريده، فيكفي أن يقول وسيقبل الجميع "وإلا"! .. يمكن القول إن الإقناع والرأي والمشورة في تلك المرحلة كانت ترفا لا أحد يحتاجه.
ثم ينتقل الطالب إلى المرحلة الثانوية ومنها إلى الجامعة ثم التخرج، وشيئا فشيئا تبدأ تلك الأعراض بالتقلص حتى تندثر نوعا ما ويتم استبدالها بالهدوء النسبي والاستقرار النفسي، وهكذا لا يتخرج الطالب من الجامعة إلا وقد أزاح الكثير من انفعالاته وغضبه وفرضه للرأي استنادا على القوة الجسمانية، ليعتبر كل تلك الفوضى التي كان يمر بها مجرد مرحلة وانتهت، يتذكرها فيبتسم أحيانا وأحيانا يستغفر الله -إلا أن هنالك استثناءات- ففي حين نجد أغلبية الطلاب يتخرجون من الجامعة باتزان عقلي ونفسي، تبقى هنالك فئة محدودة تصر على الاحتفاظ بفوضوية المرحلة المتوسطة، وهؤلاء غالبا يتم تجنبهم في هذه المرحلة والنظر إليهم أنهم مثال سيئ، بعد أن كانوا في المرحلة المتوسطة مثالا يحتذى!
وفي الحقيقة.. رغم أننا جميعنا ذلك الطالب الذي مّر بمرحلة المتوسطة بكل مافيها من تعقيدات نفسية بسبب المراهقة ثم تجاوزها شيئا فشيئا حتى نضج واتزن، ورغم أن هنالك استثناءات محدودة تحتفظ بملامح مراهقتها القديمة، إلا أننا عندما خرجنا إلى المجتمع وعقدنا عليه الآمال، فوجئنا بأن المجتمع نفسه لا يزال في مرحلة المتوسطة بكل ما تحتويه من مراهقة فوضوية، وجدناه مجتمعا متقلبا في الرأي، يحتاج دائما إلى من يلقنه الأوامر، مجتمعا على الرغم من تحليه بالكبرياء إلا أنه سهل الاستغلال، لأنه عاطفي جدا!
نتمعن في صورة المجتمع فنراها نسخة مكبرة من طالب المرحلة المتوسطة، مجتمع منطو على نفسه من جهة، ومن جهة أخرى ناقم على الأوضاع، جالد للذات، ساخط على الدوام، متأفف لمجرد التنفيس لا للإصلاح، يؤمن بأنه محور الكون وأن الجميع يريد النيل منه أو التقرب إليه، وأسوأ ما فيه أن خطابه مملوء بالأنا، وأن الآخر المختلف دائما "بعبع" يجب الحذر منه، والآخر هنا قد يكون شخصا وقد يكون فكرا أو ثقافة جديدة أو جهاز جوال أو تقنية حديثة. كل شيء جديد هو مختلف ويجب التعامل معه بتخوف حتى يستساغ. وإذا كان المراهق يلجأ دوما إلى الانطواء، نجد المجتمع يلجأ إلى الخصوصية ويحتج بها ويصر عليها.
ثم نأتي إلى أهم وأبرز الملاحظات على مجتمع المرحلة المتوسطة، وهي أن الإعجاب والانبهار غالبا ينصب لصالح الأقوى والأضخم وليس للأكثر عقلانية أو اتزانا، والأقوى هنا لا يشترط أن يكون شخصا فقد يأتي على هيئة جماعة تؤمن بأنها ليست في حاجة إلى إقناع الآخرين بالمنطق والرأي والمشورة، فيكفي أنها الأقوى لتفرض رأيها "وإلا"، وطبعا المجتمع يدرك أن أدوات المنطق والإقناع بالعقل في هذه الحالة مجرد ترف لا أحد يحتاجه، فالرأي هنا يقال وعلى البقية الرضوخ تجنبا للدخول في مواجهة لا تحمد عقباها، وهذا يتضح من خلال الآراء التي تخرج بين الفينة والأخرى، آراء رغم عدم منطقيتها أو عقلانيتها إلا أنها تلقى القبول لدى البعض، أما على من لا يستسيغها أن يبلع العافية. من تلك الآراء كمثال: أن المرأة تمتلك غدة تمنعها عن الجمع بين النطق والتذكر في نفس الوقت، لهذا فهي إما أن تتذكر أو تتكلم، أما الجمع بين الوظيفتين فمن خصائص الرجل!. وغيرها من الآراء التي توضح بجلاء أن الفرض هنا يعتمد على مبدأ: "هوا كذا".
إنه من الطبيعي أن يمر الإنسان بأكثر من مرحلة، فينتقل من الطفولة إلى المراهقة ثم النضخ، أما بالنسبة للمجتمع فإما أن يكون بدائيا أو مراهقا أو مجتمعا ناضجا. نحن لسنا مجتمعا بدائيا – ولله الحمد - لكننا في نفس الوقت لم نتجاوز بعد مراهقة المرحلة المتوسطة بكل فوضويتها.

0 التعليقات :

إرسال تعليق