وما العلم إلا من أساطير الأولين!


الخرافة والأسطورة لا تنتمي بالمجمل إلى عالم الخيال والميتافيزيقيا، فكثيراً من الخرافات والأساطير إن تتبعناها سنجدها مجموعة من القصص والحكايات التي دونت وقائع وأحداث وشخصيات وحتى كائنات حقيقية لكن بأسلوب رمزي تخيلي بغرض تخزين هذه المعرفة وحفظها من الإندثار، ما يعني أن الأسطورة والخرافة في حقيقتها هي أدوات تخزين وحفظ للمعرفة الإنسانية، وهي بهذا لا تنتمي لعالم الخيال إلا في النادر.

واليوم، بيننا في العرب من يلعب لعبة خطيرة، لعبة من شأنها أن تقوم بترحيل "النهج العلمي" بكل أدواته ومعامله ومختبراته ومعادلاته الرياضية إلى عالم الخرافات والأساطير، وربما سيخلفنا أبناء أو أحفاد يتداولون فيما بينهم من باب الدردشة أن النظريات العلمية والأدوات المعملية والمعادلات الرياضية وكل هذه المفاهيم من أساطير الأولين، فإن حدث وبات العلم في زمانهم أسطورة وخرافة فهذا يعني أن الجهل هو من له السيادة حينها، إن حدث هذا في ذلك الزمن البعيد أو ربما القريب فسنكون نحن هم أولئك الأولين محل التندر والسخرية.

هذه اللعبة هي لعبة الإستغناء عن النهج العلمي وإستبداله بالشطح الذي لا وزن له، يخرج علينا عالم بعلاجات عديدة منها ما هو للإيدز وأخر للكورونا وثالث للسرطان دون تمرير أيٌ من هذه العلب الفارغة على المعامل والمختبرات ومراكز البحوث المتخصصة، دون الحاجة إلى إخضاع علاجاته للتقييم الطبي العلمي الدقيق، دون إجراء دراسة علمية ونشرها في المجلات المتخصصة، دون الإستعانة حتى بفأر تجارب يتيم!، فقط هو علاج ويتم الترويج له إستناداً على المكانة والإسم لنكون نحن فئران تجاربه، بعضنا يستنكر وأكثرنا يقول: ربما!.

الحقيقة أن مسألة ترحيل النهج العلمي إلى المستقبل في هيئة خرافة أو أسطورة ليست ببعيدة، فهذه اللعبة التي نلعبها اليوم لم تأتي من عدم إنما هي نتيجة تراكمية كانت بدايتها حين حيّد السابقون هذا العقل وجعلوه رديفاً للزندقة والكفر وباب ظلال لا تؤمن عواقبه!، فينا اليوم من يركل النهج العلمي بقدميه لأن من أجدادنا من حمل العقل بيديه ووضعه على الرصيف، وبمبدأ التراكم سيأتي أحفادنا ليقولون: لا تدخلوا البيوت المهجورة فإنها مسكونة بالعلم!

صحيح أن مثل هذه المنجزات الخنفشارية هي حالات فردية لا ينبغي تعميمها، لكن الصحيح أيضاً أن كثيراً من الكتب والمؤلفات والحوارات التي تدار في مواقع التواصل وحتى في الإعلام لا تعترف بالعلم أبداً، كتاب مغلف بشكل فخم عن الإعجاز العلمي في القرآن يحاول إقناعنا بأن هذا القدر من العلم يكفي جداً، داعية يطل علينا ليفرد الأرض ويجعلها مسطحة ثم يأتي بالصين تحت الرياض ويجد من يصفق له!، مغرد نشط يلخص "كيمياء الكم" في تغريدتان وفي الثالثة يقول: أنا لا أعتقد!، سؤال يأتي في إحدى الكتب الدراسية: عزيزي الطالب، أشرح نظرية التطور في سطرين فقط!، فإلى متى سنمارس هذه اللعبة التي ستجعل أبناءنا غداً يرددون: وما العلم إلا من أساطير الأولين!.