إعجاز بلا إنجاز

مُوجد هذا القرآن هو خالق الوجود، فلا عَجب إذاً أن يطابق القرآن ما في الوجود!، والإنسان جزء من هذا الوجود قد خصه الله بتوجيه الخطاب القرآني له ثم حبَاه بالقدرة على قراءة الوجود، ولأن الإنسان كفور قد جاءه التحدي الإلهي بأن يأتي بمثل هذا القرآن أو جزءا منه، فقَبّل الإنسان التحدي وراح يحاول ولا يزال حتى الساعة متأملاً أن يوجد الثغرات التي يَلج منها لإبطال القرآن، فباءت كل المحاولات بالفشل وستبوء في الغد، ولن يتعلم الإنسان من كل هذا الفشل المتعاقب أبداً وسيحاول ويحاول ولن يتوقف، حتى إن أيقن أن محاولاته ستفشل!
والمتأمل في أمر هذا التحدي ربما يتساءل: لماذا يتحدى الله على رغم علمه المسبق بأن الإنسان لن ينجح؟ والأغرب، لماذا يستمر الإنسان في خوض التحدي على رغم تتابع الفشل طيلة 1400عام؟! كلما تفكرت في هذه المسألة يقودني التفكير إلى أن الله لم يتحد الإنسان "فقط" ليقيم عليه الحجة أو ليثبت له بأن القرآن حق، على ورغم أن هذه الأمور تعتبر أجزاءً أساسية من الحقيقة إلا أن الجزء والهدف الأسمى من هذا التحدي هو تحفيز الإنسان وحثه عن طريق التحدي! فالله يعلم أن الإنسان سيقبل التحدي وسيمضي فيه، ويعلم أيضاً أن الإنسان لن يتراجع وإن أيقن الفشل، على رغم هذا قد تحداه الله بأن يأتي بمثل هذا القرآن لعلمه المسبق بأن هذا التحدي كفيل بتحفيز الإنسان على تطوير أدواته وقدراته، سواء كان مشككاً أو مؤمناً!
والطرف الثالث في هذا التحدي الإلهي القائم بين القرآن والمشككين هم المؤمنون، بل إنهم المحور الأساسي في هذا التحدي! فكما أن المشككين سيطورون من أدواتهم كذلك من يدافع عن القرآن سيطور من أدواته بشكل أكبر، حينها سيتجلى الإعجاز الحقيقي والأعظم للقرآن، بأن ينمي في المؤمن الرغبة الحقيقية للإنجاز والتطور والتقدم في شتى المجالات والعلوم، ولا أقول بأن التحدي هو الأداة الوحيدة للتحفيز، لكن الحديث هنا عن التحدي.
في الماضي كان التحدي "بلاغيا، بيانيا" – ولا يزال - فأثمر حينها أن طوّر المسلمين من قدراتهم البلاغية والبيانية للدرجة التي فاقوا بها حتى من نزل القرآن بينهم، فقاموا بتنقيط الحروف وتشكيلها ووضع القواعد المنظمة لها وأبدعوا في هذا العلم حتى خرج علماء أمثال "سيبويه، الجاحظ، الباقلاني، الجرجاني"، هؤلاء العلماء وغيرهم لم يبحروا في علم البلاغة والبيان بسبب تحدي القرآن للمشككين فقط، لكن وبشكل ما قد أثرت محاولات المشككين في تحفيز هؤلاء العلماء إلى أن أصبح علمهم إلى اليوم يعتبر علامة يستدل بها.
هنا سيطرأ سؤال: أي الإعجاز أعمق، أن يحتوي القرآن على آيات قمة في البلاغة، أم أن يكون إعجاز القرآن البلاغي دافعاً رئيسياً لأن يطور أهل البلاغة من أنفسهم، فيخرجون لنا كل هذا العلم اللغوي والبياني الضخم؟.. ولو أعدنا صياغة السؤال سنسأل: ما الحكمة من احتواء القرآن على كل هذا الإعجاز؟ أن يتفاخر المؤمنون بكون القرآن معجزاً أم أن يتخذوا من إعجاز القرآن دافعاً رئيسياً للإنجاز حتى يسهموا في إعمار الأرض!.. ها نحن اليوم نعيش فترة تشهد فيها الإنسانية تطوراً علمياً ضخماً على كافة الأصعدة، فبماذا شارك المسلمون؟ إننا لم نشارك حاضراً إلا في ما لا يسمن من جوع، لأننا لم نستثمر دهشتنا من الإعجاز القرآني، إننا لو عدنا للتاريخ سنجد السلف وفور انقطاع الوحي، راحوا يستثمرون تساؤلاتهم ودهشتهم حول إعجاز القرآن في بناء اتجاهات علمية متعددة أصبحت في ما بعد "فاصلة" في تاريخ البشرية يشار إليها بالبنان إلى اليوم.
من خلال ما سبق يتضح جلياً بأن الخلل ليس في القرآن -معاذ الله- ولا في خلو القرآن من الإعجاز، إنما في تعاطينا نحن مع الإعجاز القرآني -كعادتنا مع أي أمر آخر- إننا لم نسع منذ البدء إلى استخدام الإعجاز القرآني لإلجام الغرب وإفحامه، إنما أردنا مواساة أنفسنا بالإعجاز القرآني حتى نستسيغ هذا الواقع الذي نعاني فيه، بمعنى آخر أننا وعبر الإعجاز القرآني أردنا أن نهيئ لأنفسنا مساحة من الاطمئنان نتخفف فيها من عبء تخلفنا! ولهذا كان من الطبيعي أن يتحول الإعجاز إلى إزعاج نزاحم به الأمم التي تعمل وتتعلم دون أن نضيف شيئاً، وأن نضيف للإنسانية شيئاً يعني أن نقتدي بالسلف -حقاً- ونبدأ في الجمع بين قراءة الوجود -علمياً- وقراءة القرآن حتى نترك للأجيال اللاحقة ما يستحق أن يبنوا عليه لتستمر عجلة التقدم، لأننا حتى الآن لسنا أكثر من حلقة وصل - مفرَّغة - كل مهمتها إيصال مآثر السلف إلى الخلف، كأننا هنا مجرد فراغ سيتخطاه التاريخ أثناء عبوره من الماضي للمستقبل!
خلاصة القول: إن القرآن حق، والإعجاز في القرآن حق، ولا ينكر هذا الحق إلا متكبر مدرك قبل أن ينكر أن إنكاره باطل! لكنّ اكتفاءنا بترديد أن القرآن حق وأنه كتاب معجز، فهذا لن يفيد، طالما نحن نقف عند حد الإعجاب والاندهاش والتسبيح، دون أن نُتبع هذه الدهشة بإنجاز حضاري يعيدنا إلى المضمار.

القانون والمغفلون!

تتضاءل المدينة شيئاً فشيئاً تحت أقدام المسافر، فينظر إليها قبل أن تتقزم وتختفي عن ناظريه تحت السحاب ليفاجأ بأن مدينته أصبحت بحجم علبة سردين، الزحام الخانق فيها لم يخلق أُلفة ومودة بين المتزاحمين، لأن هنالك مفهوما درج في مجتمعه العربي أن القانون لا ولن يحمي المغفلين، مما حدا بالأفراد أن يكون همسهم ريِبة وتبادلهم للنظرات احترازاً ولغتهم مشبعة بالاستظراف المصطَنع، ومشاعرهم مجرد وسيلة تنتهي بتحقيق مصلحة، كل هذا حتى لا يوصف أحدهم بالمغفل فيتجاهله القانون!
راحت الأسئلة والأفكار تنهال عليه، حتى أصبح صدره ضيقا حرجا لا مجال لانشراحه بمنظر السحب أمامه، ولم يدرِ هل وجوده بين السحاب حلم، أم إنه قد أفاق للتو من كابوس؟ كيف بالقانون الذي لا يحمي المغفلين، ينجح في حماية المفسدين بكل جدارة؟! هل الفاسد إنسان حريص جدا، يجيد التحايل على القانون بكل حرفية ومهارة؟ أم إنه مجرد مغفل ساذج قد وهبه القانون حق الافتراس؟ كقانون الغاب الذي أعطى الحيوان المفترس حق الافتراس في كل حالاته، سواء كان قادراً أو عاجزاً، وعلى المتضرر "الفريسة" اللجؤ إلى الحفَر والخنادق للاختباء.. أو أن يتعلم فن الفهلوة والتلون والتمويه لتجنب الافتراس قدر المستطاع. وفي بلاد العرب، فالأمر لا يختلف كثيراً، لأن القانون يهب الفاسِد حق الإفساد بغض النظر عن سذاجته أو رجاحة عقله، وبهذا فالفاسد لا يتحايل على القانون إنما يمارس إفساده بِرِعاية القانون! والقانون الذي يهب الفاسد حق الإفساد لا بد أن يترك الباب مواربا ليستطيع الضحية أن يتحلى بشيء من الفهلوة والقدرة على التلون حتى يخلص بعض حقوقه من أيادي المترفين!
انقشعت السحب فظهر المُحيط الشاسِع من تحتها أزرق، كمِرآة مصقولة. نظر المسافر فرأى مدينته تحت هذا المُحيط، حيث القوي يأكل الضعيف، والمساحة المفتوحة لا تترك للضعيف مجالاً للهرب أو الاختباء، والانسجام الظاهر يُخبىء تحته صراعاً دامياً يخوضه "المُغفلون" بينما هم يُؤدون أدوار الفهلوة بكل سذاجة، دون أن يُدرِكوا أن القانون لن يُعطيهم حق الافتراس، إنما اقْتِيات رزق الأصغر فقط! هذا الصراع اليومي من الطبيعي أن يخلف وراءه أفرادا مصابين بشتى الأمراض والعِلل، من ضغط وسكر وجلطات وأرق وقلق ووسوسة وعنف أسري ومشاكل أخلاقية، فالأفراد هنا نصفهم يشعر بأنه مغفل، لأن القانون لم يحمه حتى الآن ولن يحميه، والنصف الآخر أرهقته الفهلوة وأتعبه الجري في كل مكان لانتهاز الفُرص المتساقطة من موائد المترفين!
لم يستفق صاحبنا من خيالاته إلا على ارتجاج الطائرة وإعلان الطيار عن الوصول. وفور توقف الطائرة أخذ يُلملِم أغراضه للخروج.. مضى على مكوثه في هذه المدينة بضعة أيام، شاهد خلالها مجتمعاً لا يتصنع أفراده الابتسامة، وينطلقون في تصرفاتهم بكل عفوية، لم يجد أحداً هنا يشتري شهادات وهمية، ولم يسمع عن مناقصات تتم في الباطن، لم يُشاهِد تجمعاً لآلاف العاطلين، لم يُصادف شخصاً يبتسم ابتسامة صفراء فيفهم منها الآخر أن المعاملة لن تتم إلا برشوة معتبرة.. شاهد هنا أشياء جعلته يستغرب، فخاطب أحد المارة: إنكم تتصرفون في هذه البلاد بطريقة فيها الكثير من السذاجة، تبتسمون ببلاهة، وتتحدثون بلا احتراز! إن القليل من الحرص واجب، فالقانون لا يحمي المغفلين، فما السر في هذه التصرفات؟
ابتسم المار وقال: السر كله في القانون! صحيح أننا مجتمع فيه نصابون، وفيه أناس يحترفون قطع الأرزاق، ولدينا مشاكلنا التي تفرضها طبيعة الحياة في المدينة كأي مدينة أخرى، نحن نشبِهكم أنتم العرب كثيراً، لكننا نختلف عنكم في أمرين، الأمر الأول: أن القانون هنا وُضع أساساً لحماية من تُطلِقون عليهم مُغفلين، بينما ننظر نحن إليهم أنهم أصحاب ضمير وأخلاق وطيبة قلب، وهؤلاء من يستحقون الحماية قانونياً قبل أي أحد آخر، لأن القانون الذي لا يحمي هؤلاء فهو ببساطة سيحمي من يستغل نقاء سريرتهم، الأمر الثاني: أن القانون هنا يُطبق على كل نصاب وفهلوي من أي فئة من فئات المجتمع دون مجاملة أو تمييز. نحن لسنا مجتمعا ملائكيا، بل وتكثر بيننا الشياطين، غير أنه لا أحد من تلك الشياطين يعتقد بأن من حقه، قانونياً، أن يكون شيطانا! وهذا هو السر في حالة الطمأنينة التي تراها على وجوه الجميع هنا، فالكل يؤمِن بسيادية القانون ولا مجال للمحاباة عند التطبيق.
إن أي خلل في تطبيق القانون سيقسم المجتمع فوراً إلى ثلاث فئات، فئة مفترِسة، وفئة متلونة تجيد الفهلوة، وفئة ثالثة ساخطة على باقي الفِئات.
يرى "علي عزت بيجوفيتش" أن الهدف النهائي من القانون ليس العقوبة أو المنع أو الفرض أو حتى التحسين، إنما الهدف الجوهري هو خلق توازن أخلاقي في المجتمع.. كما يرى أن القوانين إذا كثرت وتراكمت وتعطلت، فينبغي عندئذ أن تتوقف الدولة عن إصدار أي قوانين جديدة لن تزيد الأمر إلا سوءا، وأن يبدأ الحكماء والمفكرون فوراً في إعادة تربية المجتمع من جديد!

حادثة الهيئة والجدل الاجتماعي


قضية وفاة الشابين في اليوم الوطني بسبب مطاردة رجال الهيئة لن أتناولها في المقام الأول هنا، لأن ما لفت نظري أكثر هو الجدل الاجتماعي الذي دار حول القضية، هذا الجدل يعتبر قضية أخرى بحد ذاتها، فالبعض أخذ يدافع عن الهيئة وفي طريقه راح يوزِع التهم على الطرف الآخر تارة بالنفاق وتارة بالفسوق وأخرى بكره الدين وأهله، ولم تتبق تهمة إلا وألقيت على من ينتقد الهيئة! وفي المقابل راح الطرف الآخر يصف الهيئة وكل من يقف في صفها بأوصاف كارثية بمعنى الكلمة، من يتتبع تلك الأوصاف سيعتقد أن الموصوف "شيطان رجيم"! ورغم أن القضية برمتها قد أحيلت إلى القضاء ولم يبت فيها بعد، إلا أن طرفي الجِدال قد حسموا القضية بالنسبة لهم ورفعت الجلسة!
في الحقيقة أن هذا الجدل يعد أمراً طبيعيا، فالكل يُدلي بدلوه إلى أن يصدر أمر المحكمة، ولكن المفارقة أن أمر المحكمة إذا ما صدر فعلا فلن ينهي الجِدال، لأن من حكم ببراءة أعضاء الهيئة مسبقا فلن يلتفت إلى ثبوت التهمة عليهم، والعكس كذلك، ويمكن القول إن ملف القضية قد أغلق "اجتماعياً" حتى قبل أن تباشر فيه المحكمة! مثل هذا الجدل الاجتماعي ليس خللا، إنما هو جِدل صحي مهما كان فوضويا ومؤلما، لأن فيه دلالة على تفاعل المجتمع مع قضاياه، ودلالة على وجود اختلافات في الآراء والتوجهات، تلك الاختلافات استحالت أن تظهر دون حوادث وقضايا تؤلِم، والأمر الأهم في كل هذا الجِدال أنه يخفِف من حِدة "المديح" الذي يطرِب لكنه يمرِض أيضاً.. يمكننا اعتبار مسألة الجدل في مثل هذه القضايا خطوة على طريق إيقاف التدهور على الرغم مما تسبِبه من ضجيج!
وبما أن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر هي مِحور الجدال في هذا الموضوع، فعليها أن تستفيد من الجِدال الدائر قدر الاستطاعة، وأن تركِز وترحِب بالنقد الهادف وحتى الجارح منه، فلا سبيل أبداً للتقدم والتطور خطوة واحدة للأمام ولا مجال لإصلاح وتدارك الأخطاء إلا بالاستماع إلى حُجَج المُعارضين مهما كانت جارحة، لأن المدح والثناء أبداً لن يضيف ولن يفيد في شيء، بل إنه في الغالب يأتي للإبقاء على ركود الماء الراكِد، ومن أجل الإبقاء على حالة الركود فلن يتوانى المادحون عن التصدي لكل اعتراض ونقد، بل وسيشيطنون المُنتقدين ويزندقونهم قدر المستطاع!
الوجه الآخر "القبيح" لهذا الجدل ولكل جدل يخوضه المجتمع أنه دائماً يكون "محتقِنا، متملمِلا، متذمِرا، متأففا... إلخ" والسبب أن المجتمع في الحقيقة لا يناقش مشاكله، إنما عناوين المشاكل التي تطفو على السطح بين الفترة والأخرى، كأن المجتمع يفاجأ كل مرة برغم أن المشاكل هي نفسها تتكرر دائماً! بمعنى أننا نصرخ ثم نهدأ ثم نعود لنثور فنهدأ من جديد، وغداً ستعود نفس المشكلة بنفس الكيفية، وسيبدأ الجِدال من جديد تسبِقه نفس حالة الدهشة! سنستمر على هذا المِنوال إلى الأبد طالما نحن نتجنب الخوض في منبع هذه التصرفات، في الثقافة التي تُغذي وتضمن توالد نفس المشاكل بنفس الكيفيات -والحديث هنا ليس عن قضية الهيئة في اليوم الوطني- إنما عن كل قضايانا عموماً.. يموت المريض على يد الطبيب فنتجادل لفترة ثم يموت آخر وهو يهرب من رجال الهيئة فنتجادل وننسى المريض الذي مات سابقاً، في الأخير لم تُحل مشاكلنا مع الصحة ولا مع الهيئة ولا حتى مع التعليم أو الجوازات أو حتى مشاكل الأسرة. صحيح أن الجدل كثيراً ما يفيد لكن إذا ظل مجرد ردة فِعل فسنظل نتجادل لمجرد الجِدال!
لقد تساءل "أبو العلاء المُعري" سابقاً: يا ليت شعري، ما الصحيح؟ هل الصحيح أن نستمر في الجدل بلا معنى، إلى أن نصل للهدف – بالصدفة -؟ أم نبني لجِدالنا قاعدة ننطلق منها إلى هدف مرسوم؟ أم ألا نتجادل من الأساس؟ أم نحتضن بعضنا البعض ونبكي على حالنا؟
إننا لم ننتبه في زخم كل هذه الجِدالات أن كل جِهة أخطأت وأصبحت مِحور الجِدال، قد راهنت قبل أن تخطىء وستراهِن مستقبلاً على أن الجدال لا بد أن ينقضي، والصراخ حتماً سيخِف وسينسى الجميع في الأخير، والمفارقة أنهم غالبا يكسبون الرهان!

ما الذي تفعله المرأة السعودية في المجتمع؟

ما الذي تفعله المرأة السعودية في المجتمع؟ هل هي منفذة لأجندة تغريبية؟ أم باحثة عن حقوقها؟ إن آمنا بأنها فعلا تنفذ أجندة تغريبية، ألسنا بهذا الاتهام نقلل من قيمة المرأة؟ هذه المرأة التي لا تزال تثبت كل يوم أنها أكبر بكثير من أن تكون مجرد أداة تغريب!.. إن تهمة التغريب التي كثيرا ما تتهم بها المرأة السعودية عندما تطالب بحقوقها ليس لها إلا أحد تفسيرين؛ التفسير الأول: أن تكون التهمة من نسج خيالنا، وتلك مصيبة لأننا حينها نتهرب تماما من المسؤولية -كالعادة-، والتفسير الثاني: أن تكون تهمة التغريب حقيقة، وتلك مصيبة أعظم لأنها ـ وبشكل واضح ـ تدل على أن المجتمع قد مارس اضطهاد المرأة حتى أجبرها على أن تتجه غربا للخلاص.. فأي التفسيرين نختار؟ نحن إما أن نختار ما نعلل به تهمة التغريب، أو أن نخجل ونعترف بأن المرأة السعودية أكبر من أن تكون مجرد أداة للتغريب.
على الجانب الآخر، هل تبحث المرأة عن حقوقها فعلا؟ هل هي مضطهدة إلى درجة تدفعها لممارسة كل هذا الحراك؟ ألا ترى المرأة السعودية أن الحقوق التي تطالب بها لنفسها أكثر مما تحصل عليه الرجل في "مجتمعه الذكوري"؟! ألا تخفف هذه الحقيقة من معاناتها؟ ولماذا تصر على الظهور بمظهر الضحية؟
في الحقيقة إن كثرة الأسئلة هنا دلالة على مدى تعقد قضية المرأة السعودية، والتعقيد في قضيتها ليس لأنها امرأة في مجتمع ذكوري، إنما لأنها في مجتمع كل قضاياه على هذا النحو، عليها أن تدرك أنها ليست الضحية في هذا المجتمع إنما المجتمع هو الضحية، والمجتمع الضحية هو المجتمع الذي يعاني من تفاقم مشاكله وتشابك قضاياه.
إذا لو عدنا للسؤال الأول: "ما الذي تفعله المرأة السعودية في المجتمع؟".. نستطيع أن نقول إنها لا تنفذ أجندة تغريبية، ولا تطالب بحقوقها!، هي ببساطة تؤذي دورها الذي خلقت له المرأة منذ أن خلقت على هذه الأرض، ودورها هو أن تهيئ البيئة المحيطة بها للتغيير القادم، هذا التغيير الذي إن حصل فستكون المرأة أيضا هي محوره.. إن المتأمل في القرآن الكريم والسنة النبوية سيجد أن المرأة قد أنجبت الأنبياء ومهدت لهم وساندتهم وشاركتهم حمل الرسالة، موسى – عليه السلام - ألقته في اليم امرأة وتتبعت أخباره امرأة وربته امرأة، وعيسى – عليه السلام - أنجبته امرأة وتحدت مجتمعها من أجله، وإلى أين اتجه محمد – عليه الصلاة والسلام - وهو خائف مما وجده في غار حراء؟ أليس إلى خديجة – رضي الله عنها- التي لم تكتف فقط بطمأنته إنما ساندته وحمته ودعمته حتى وافتها المنية؟
إن المرأة لا تصنع الحدث، كذلك الرجل، ولا مجال للتفرد بصناعة الحدث أبدا، إنما الذي يصنع الحدث ويبني التغيير هو المرأة والرجل مجتمعين، إلا أن المرأة تتفرد على الرجل في تهيئة المجتمع أو البيئة للتغيير، والقرآن عندما يذكر لنا أدوار النساء مع الأنبياء ففي هذا دلالة على أن المرأة استطاعت تهيئة بيئتها لمواجهة أصعب التغييرات، فالأنبياء لا يأتون لتغيير جزء فقط إنما لتغيير المنظومة كاملة "فكريا واجتماعيا" وفي حالة النبي محمد –عليه الصلاة والسلام- شمل التغيير حتى "اقتصاديا وعسكريا وإداريا".. إذن، عندما نريد فهم طبيعة الحراك الذي تقوم به المرأة السعودية اليوم فلن نستوعبه إلا بفهم دور المرأة على مدى التاريخ، هذا الدور الذي يتكرر تاريخيا بنفس النمط مع اختلاف الكيفيات! وعملية تكرار هذا الدور للمرأة يخبرنا بكل وضوح أن الدور الذي تؤديه بهذا المفهوم تحديدا يعتبر سنة من سنن الله في الإنسانية، ولن تأتي المرأة السعودية اليوم لتبدل سنة الله حتى إن أرادت!
وبالنسبة لمسألة اختلاف الكيفيات أعلاه فهذا تحدده طبيعة المشكلة الاجتماعية، ومن خلال قراءة تاريخية يمكن القول: إن المرأة لا تقوم في الغالب بعمل ثوري جبار من أجل التهيئة، فكثيرا ما كانت تقوم بعمل بسيط نسبيا، كأن ترفض التخلي عن مقعدها في الباص من أجل رجل أبيض، ليترتب على هذا الرفض إلغاء التمييز العنصري في أميركا لاحقا! وفي المجتمع السعودي، قد تكون "قيادة السيارة" هي هذا الحدث البسيط نوعا ما، أو قد يكون الحدث أبسط من هذا -الله أعلم-.. عموما، هذا الدور العظيم للمرأة دائما تقابله محنة عظيمة، في السابق قيّل لها "ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا" واليوم تتهم بأنها "أداة للتغريب" 

بين أحياء الفقراء وأحياء الأغنياء

كل شيء في الأحياء الراقية مرتب جداً ومنظم بشكل مثالي، للحد الذي يُشعِرني بالملل، كل الخدمات متوفرة هنا إلا الحياة! نعم، لا أستطيع الشعور بالحياة داخل الأحياء الراقية، فمنظر الأسوار العالية تُحيِلها قلاعاً، كأن الجميع بداخلها مسجون بكامل إرادته، والشوارع شبه الخالية من المارة تجعل المكان مُوحشاً وحشةً يستحيل إخفاؤها بتناسق الأشجار والأضواء، وساكنو هذه الأحياء كأنهم قد كرِهوا السُكنى فيها لاختفاء الحياة عن أحيائهم، كرهاً جعلهم يطوفون العالم على مدار العام بحثاً عن حياة قد أخرجوها من حياتهم طلباً لرفاهية خانِقة! فهل هذه هي الحياة التي يصنعها المال فعلا؟ أم أن القوم يتوهمون ضرورة تصنع الموت من أجل المال؟
وعلى العكس تماماً، أجد في أحياء الفقراء فوضى عارمة تُشعِرالموجود فيها بالضجر، كل الخدمات مفقودة هنا باستثناء حياة ليست كالحياة، حياة تحوي الكثير من الضجيج والصراخ، فيها بيوت تكاد تمتزج من شِدة الالتصاق، حتى أن المرأة تستطيع معرفة كل أسرار جارتها بالسمّاعِ فقط دون عناء التلصص! وبشر مُتراكمون في كل مكان، تراكماً وازدحاما يغتصِب الخصوصية بالإكراه! وإن كان الأغنياء يهربون من حياتهم إلى السفر والترحال فإن ملاذ الفقراء من هذه الحياة هو رفع حِدة الصخب في كل مكان حتى لا يسمعون أنين بؤسهم.
يقول النبي –عليه الصلاة والسلام-: "من أمسى منكم آمناً في سربِه معافى في جسده عِنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا"، من خلال هذا الحديث نستطيع القول بأن خط الحياة الطبيعي داخل أي مجتمع هو الذي يتمثل في "الطبقة الوسطى" حيث يضمن الأفراد فيها "الأمن والرعاية الصحية والغذاء" بلا زيادة أو نقصان، ومن الواضح أن أحياء الأغنياء وأحياء الفقراء لا تنطبق عليهم هذه الشروط الثلاث، فالأسوار العالية والحراسات على الأبواب في الأحياء الراقية توفِر لساكنيها أمناً لكنه أمن بلا طمأنينة، وتلاصق البيوت والازدحام البشري بالإضافة إلى الحاجة داخل أحياء الفقراء تجعل كل شيء وكل شخص هنا عرضة للانتهاك.
تختلف كذلك ما بين أحياء الأغنياء والفقراء: الثقافة والفِكر والدين والعادات وكل شيء، معايير الحلال والحرام مثلاً تختلف جذرياً، فحكم الرشوة في أحياء الأغنياء ليس بتلك الحرمة طالما هي تُساعد على توفير متطلبات البذخ، بينما الرشوة في أحياء الفقراء مسألة غير مطروحة للنقاش في الغالب، لكن أن تُسرق محفظة أحد المارة فهذه الحادثة ستدعو للضحك والتسامر.. والمقارنات بين أحياء الأغنياء وأحياء الفقراء لن تنتهي، لذلك سننتقل إلى الحديث عن أحياء الطبقة الوسطى التي يتوفِر لأفرادها نفس المقدار الوارد في حديث النبي –عليه الصلاة والسلام- "الأمن والرعاية الصحية والغذاء" بشكل معتدل لا زيادة فيه ولا نقصان، حينها فمن الطبيعي أن تجمع أحياء الطبقة الوسطى بين الخصوصية والمشاركة، بين الهدوء والمقدار المُعتدل من الضجيج، تجمع بين الأمن والطمأنينة، يتحصل أفرادها على الرعاية الصحية دون الحاجة إلى السفر للخارج أو الاستجداء في الداخل، ويضمن أفراد هذه الطبقة قوت يومهم دون الاضطرار إلى الاستيلاء عليه بأي شكل من الأشكال.
إن كل الدول تنظر إلى أحياء الفقراء كخلل اجتماعي يجب التعامل معه، بل وتتفاخر الحكومات بأنها بصدد تقليص الفقر في بلدانها، لكن ماذا عن الأغنياء؟ أليس من الواضح أنهم خلل اجتماعي يقع في الاتجاه المعاكس للفقر؟! أم أن حرص الإنسان على المادة يجعله يتغاضى عن فوضى الأغنياء؟! إن الخلل ليس في وجود الفقراء أو الأغنياء داخل المجتمع، فلا مجال لفصل وجودهم داخل أي مجتمع بأي حال من الأحوال، إنما المشكلة والخلل الذي يستحيل التعامل معه هو أن يكون تمدد نسبة الأغنياء أو الفقراء على حساب تقليص الطبقة الوسطى، لأنها "رمانة الميزان" التي تحافظ على توازن الحياة داخل المجتمع، بل ولا سبيل لتقدم وتطور أي مجتمع في حال تضاءلت نسبة الطبقة الوسطى فيه، وكلمة في سركم: أنه لا سبيل لانتشار الفساد بكل أنواعه وأشكاله داخل أي مجتمع إلا بعد القضاء على هذه الطبقة، والقضاء عليها لا يكون فقط بأن تتحول إلى طبقة الأغنياء أو الفقراء، إنما يكفي تحطيمها بإلغاء دورها في المجتمع، مع العلم أن الطبقة الوسطى هي عِماد المجتمع التي يحث عليها حتى الشرع كما في الحديث أعلاه، هذه الطبقة متى ما سقطت أو همِشت سيتسيد الفساد!
في الختام.. يحكى أن لصاً صادف رجلاً يمشي في الشارع فسرق محفظته، ولم تنته الحكاية فالرجل – الضحية - لم يكن من الفقراء لأنه يحمل في جيبه محفظة فيها ما يسد به الرمق، كذلك لم يكن من الأغنياء لأنه يسير في الشارع مطمئناً، المهم أن اللص أعاد المحفظة فوراً إلى صاحبها! فشكره صاحب المحفظة وأخذ يعِظه بوجوب التوجه بالحمد والشكر إلى الله على استيقاظ ضميره المفاجئ، فرد اللص: يا غبي إن ضميري لم يستيقظ، كل ما في الأمر أن الأغنياء لم يتركوا في محفظتك ما يستحق السرقة!