بين أحياء الفقراء وأحياء الأغنياء

كل شيء في الأحياء الراقية مرتب جداً ومنظم بشكل مثالي، للحد الذي يُشعِرني بالملل، كل الخدمات متوفرة هنا إلا الحياة! نعم، لا أستطيع الشعور بالحياة داخل الأحياء الراقية، فمنظر الأسوار العالية تُحيِلها قلاعاً، كأن الجميع بداخلها مسجون بكامل إرادته، والشوارع شبه الخالية من المارة تجعل المكان مُوحشاً وحشةً يستحيل إخفاؤها بتناسق الأشجار والأضواء، وساكنو هذه الأحياء كأنهم قد كرِهوا السُكنى فيها لاختفاء الحياة عن أحيائهم، كرهاً جعلهم يطوفون العالم على مدار العام بحثاً عن حياة قد أخرجوها من حياتهم طلباً لرفاهية خانِقة! فهل هذه هي الحياة التي يصنعها المال فعلا؟ أم أن القوم يتوهمون ضرورة تصنع الموت من أجل المال؟
وعلى العكس تماماً، أجد في أحياء الفقراء فوضى عارمة تُشعِرالموجود فيها بالضجر، كل الخدمات مفقودة هنا باستثناء حياة ليست كالحياة، حياة تحوي الكثير من الضجيج والصراخ، فيها بيوت تكاد تمتزج من شِدة الالتصاق، حتى أن المرأة تستطيع معرفة كل أسرار جارتها بالسمّاعِ فقط دون عناء التلصص! وبشر مُتراكمون في كل مكان، تراكماً وازدحاما يغتصِب الخصوصية بالإكراه! وإن كان الأغنياء يهربون من حياتهم إلى السفر والترحال فإن ملاذ الفقراء من هذه الحياة هو رفع حِدة الصخب في كل مكان حتى لا يسمعون أنين بؤسهم.
يقول النبي –عليه الصلاة والسلام-: "من أمسى منكم آمناً في سربِه معافى في جسده عِنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا"، من خلال هذا الحديث نستطيع القول بأن خط الحياة الطبيعي داخل أي مجتمع هو الذي يتمثل في "الطبقة الوسطى" حيث يضمن الأفراد فيها "الأمن والرعاية الصحية والغذاء" بلا زيادة أو نقصان، ومن الواضح أن أحياء الأغنياء وأحياء الفقراء لا تنطبق عليهم هذه الشروط الثلاث، فالأسوار العالية والحراسات على الأبواب في الأحياء الراقية توفِر لساكنيها أمناً لكنه أمن بلا طمأنينة، وتلاصق البيوت والازدحام البشري بالإضافة إلى الحاجة داخل أحياء الفقراء تجعل كل شيء وكل شخص هنا عرضة للانتهاك.
تختلف كذلك ما بين أحياء الأغنياء والفقراء: الثقافة والفِكر والدين والعادات وكل شيء، معايير الحلال والحرام مثلاً تختلف جذرياً، فحكم الرشوة في أحياء الأغنياء ليس بتلك الحرمة طالما هي تُساعد على توفير متطلبات البذخ، بينما الرشوة في أحياء الفقراء مسألة غير مطروحة للنقاش في الغالب، لكن أن تُسرق محفظة أحد المارة فهذه الحادثة ستدعو للضحك والتسامر.. والمقارنات بين أحياء الأغنياء وأحياء الفقراء لن تنتهي، لذلك سننتقل إلى الحديث عن أحياء الطبقة الوسطى التي يتوفِر لأفرادها نفس المقدار الوارد في حديث النبي –عليه الصلاة والسلام- "الأمن والرعاية الصحية والغذاء" بشكل معتدل لا زيادة فيه ولا نقصان، حينها فمن الطبيعي أن تجمع أحياء الطبقة الوسطى بين الخصوصية والمشاركة، بين الهدوء والمقدار المُعتدل من الضجيج، تجمع بين الأمن والطمأنينة، يتحصل أفرادها على الرعاية الصحية دون الحاجة إلى السفر للخارج أو الاستجداء في الداخل، ويضمن أفراد هذه الطبقة قوت يومهم دون الاضطرار إلى الاستيلاء عليه بأي شكل من الأشكال.
إن كل الدول تنظر إلى أحياء الفقراء كخلل اجتماعي يجب التعامل معه، بل وتتفاخر الحكومات بأنها بصدد تقليص الفقر في بلدانها، لكن ماذا عن الأغنياء؟ أليس من الواضح أنهم خلل اجتماعي يقع في الاتجاه المعاكس للفقر؟! أم أن حرص الإنسان على المادة يجعله يتغاضى عن فوضى الأغنياء؟! إن الخلل ليس في وجود الفقراء أو الأغنياء داخل المجتمع، فلا مجال لفصل وجودهم داخل أي مجتمع بأي حال من الأحوال، إنما المشكلة والخلل الذي يستحيل التعامل معه هو أن يكون تمدد نسبة الأغنياء أو الفقراء على حساب تقليص الطبقة الوسطى، لأنها "رمانة الميزان" التي تحافظ على توازن الحياة داخل المجتمع، بل ولا سبيل لتقدم وتطور أي مجتمع في حال تضاءلت نسبة الطبقة الوسطى فيه، وكلمة في سركم: أنه لا سبيل لانتشار الفساد بكل أنواعه وأشكاله داخل أي مجتمع إلا بعد القضاء على هذه الطبقة، والقضاء عليها لا يكون فقط بأن تتحول إلى طبقة الأغنياء أو الفقراء، إنما يكفي تحطيمها بإلغاء دورها في المجتمع، مع العلم أن الطبقة الوسطى هي عِماد المجتمع التي يحث عليها حتى الشرع كما في الحديث أعلاه، هذه الطبقة متى ما سقطت أو همِشت سيتسيد الفساد!
في الختام.. يحكى أن لصاً صادف رجلاً يمشي في الشارع فسرق محفظته، ولم تنته الحكاية فالرجل – الضحية - لم يكن من الفقراء لأنه يحمل في جيبه محفظة فيها ما يسد به الرمق، كذلك لم يكن من الأغنياء لأنه يسير في الشارع مطمئناً، المهم أن اللص أعاد المحفظة فوراً إلى صاحبها! فشكره صاحب المحفظة وأخذ يعِظه بوجوب التوجه بالحمد والشكر إلى الله على استيقاظ ضميره المفاجئ، فرد اللص: يا غبي إن ضميري لم يستيقظ، كل ما في الأمر أن الأغنياء لم يتركوا في محفظتك ما يستحق السرقة!

0 التعليقات :

إرسال تعليق