مشاهد .. ضيف الله القرشي


المشهد الأول:
تفجيرات تحدث في القطيف، راح ضحيتها أبرياء لا ذنب لهم، فأستنكر المجتمع بكل أطيافه هذا الفعل الغير إسلامي ولا إنساني من الأساس، لا لأن الضحية من هذه الطائفة أو ذلك اللون أو تلك القبيلة، بل لأن الضحية "إنسان"، والإنسان دائماً هو "نص" مقدس، بل إنه أقدس المقدسات، دمه، ماله، عرضه، حياته، حريته، وفي الحديث يقول عليه الصلاة والسلام (لزوال الدنيا جميعاً أهو عند الله من دمٍ يسفك بغير حق).

المشهد الثاني:
غضب، إمتعاض، إنفعال، والكثير من الأحاسيس التي من الطبيعي أن يشعر بها أهل الضحايا، لا بأس، فالدم الذي تم هدره ليس بالدم الرخيص، لكن لا يجب أن تطغى هذه الأحاسيس على صوت العقل، وهذا ما حدث فعلاً، حيث سارع الكثيرون من "عقلاء الشيعة" إلى إحتواء الموقف سريعاً، دعوا إلى عدم الإستسلام للغضب، سارعوا إلى إطفاء النيران التي إن اشتعلت فلن ترحم أحد، إلا أن أصواتً نشاز خرجت وهي تدعوا الله أن لا تنطفئ هذه النار.

المشهد الثالث:
أسئلة يطرحها معممون حاقدون على شاكلة:
إن لم يستطع الغير أن يحمينا فلنُنسِق ونُوكِل الأمر لأنفسنا!
هل نحن مستهدفون دون غيرنا؟!
هل نحن قادرون على حماية أنفسنا؟!
هل الغير قادر على حمايتنا؟! .. والغير هنا هي الدولة !
تتابع الأسئلة من هنا وهناك، ورغم كونها أسئلة نشاز في بيئة تدعوا للتعقل والهدوء إلا أن هذا النشاز وجد طريقه بشكل أو بأخر، ليخرج في الأخير على هيئة "حشد شيعي في القطيف" مهمته الحفاظ على سلامة المنطقة وتوفير القدر المطلوب من الآمن، وكأننا في غابة وليس في دولة قادرة على حِفظ وصيانة الآمن والآمان للجميع.

المشهد الرابع:
الشاب "ضيف الله القرشي" يخرج من مدينة الطائف قاصداً البحرين برفقة بعض الأصدقاه، فقامت الجهات الأمنية على جسر الملك فهد بإعادتهم، ليعودوا أدراجهم قاصدين مدينتهم "الطائف"، وفي الطريق عرجوا إلى العوامية، وما إن دخلوها حتى لحق بهم شباب من العوامية وبدأوا بلا مبررات في إطلاق النار عليهم عبر سلاحٍ رشاش، لتستقر إحدى الطلقات في رأس الشاب" ضيف الله القرشي" ويفارق الحياة إلى رحمة الله، بعدها باشرت الجهات المختصة الحادثة.

المشهد الخامس:
الوضع هادئ في بلدة العوامية، الوضع هادئ في القطيف، الوضع هادئ في كل الوطن، لا إستنكار على هذا الفعل الشنيع، لا تبرؤ صريح من أفعال الجناة، لم يقل أحد بأن الجناة لا يمثلون سوى أنفسهم، لم يبكي أحد على دم الشاب الذي تمت إراقته ظلماً وعدوان، لا خطب عصماء، لا قصائد نثرية، لا فتاوي بتحريم الطائفية، لا مقالات عن الوطنية .. لا شيء يحدث وكأنه لم يحدث شيء !!

لقد قُتِل الشاب على الهوية، ولم ينتبه أحد إلى أنه قُتِل على الهوية!
لقد سُئِّل الشاب قبل أن يُقتل: لماذا أتيت للعوامية؟!، ولم ينتبه أحد إلى أن هذا السؤال دلالة كفر بالوحدة الوطنية!
إن القاتل هنا ليس من حمل السلاح، إن من حمل السلاح أيضاً ضحية، إنه ضحية لمُعمم أقنعه بأن الدولة غير قادرة على حمايته، ثم زيّن له حمل السلاح ليؤدي دور الدولة بالنيابة.

**

للأسف، هنالك أصوات في الوسط الشيعي داخل القطيف، تجد لها منفذ إلى صدور الشباب، أصوات تزين للشباب تأدية أدوار الدولة بالإنابة، تزين لهم القيام بأدوار القضاة والجلادين في آن، تجيز لهم إصدار الأحكام ومحاكمة الأخر وقتله إن لزِم الآمر على الشبهة!
إن السؤال هنا ليس: أين الدولة؟، فالدولة موجودة وتقوم بعملها على أكمل وجه
السؤال: أين الأصوات العاقلة في القطيف؟!، أين عقلاء الشيعة؟، لما لم نسمع لهم صوت في هذه الحادثة؟
قد بكينا لقتلاهم فلم لا يبكون لقتلانا؟!، أم إن الدماء ليست جميعاً بتلك القدسية؟!.

إنها بادرة خطيرة، أن يُقتل مواطن على الهوية، والأخطر من أن يُقتل مواطن على الهوية هو أن يُوجد من يُبارك للقاتل أنه قتل على الهوية، الأخطر أن يجد القاتل من يبرر له فعله القبيح، وهذا أحدهم يتحدث بكل صراحة وصفاقة أن المقتول "يستاهل" لماذا يتجول في العوامية والجميع يعلم أن يقظة أهالي القطيف إرتفعت بعد غدر الإرهاب بهم!!.

وهذا مثقف نحترمه ونقدره، يصرح علانية بأن الأمر بالكامل لا يعنيه من قريب أو بعيد، فلا هو القاتل ولا هو ولي الدم ولا هو برئيس البلدية، بمعنى آخر "لا تكبرون السالفة"!، رغم أن مثقفنا القدير بكى كثيراً وبكينا معه كثيراً على ضحايا القطيف، إلى أن قال لنا مؤكداً أن كل السعوديين أهل عزاء في مصاب القطيف، لكننا وجدناه في هذا المصاب لا يهتم ويصرح بأن الأمر لا يعنيه!

عموماً، نحن نثق بعد الله في رجال أمن هذا الوطن، الخوف هنا ليس على الأمن، الخوف هنا على الأفكار والمعتقدات والمفاهيم، الخوف أن هنالك في الوسط الشيعي من يغض الطرف ويلتزم الصمت، وهنالك من يحرض على القتل ويجيز تأدية دور الدولة بالإنابة!.
أن يُقتل مواطن على الهوية فلهذا الفعل تبعات سوداء ستحدث وإن ألقي القبض على الجناة! .. وطالما هنالك من يلتزم الصمت، طالما هنالك من يبارك من تحت الطاولة، فالقادم من القطيف أسوأ.

يعني إيه كلمة وطن ؟!


لو أننا نستطيع أن نأكل كلماتنا؛ لكفتنا كلمة "وطن" شر الجوع.

لو أن حروفنا العربية قابلة للمضغ؛ لأقمنا وليمة كل الأصناف فيها مشتقة من "و ط ن"، ولتجمعنا حولها لنباشر الأكل إلى أن نشبع ونُصاب بالتخمة.

لو أن كلمة وطن تُؤكل؛ لما بقي في العرب جائعًا، لكنها -للأسف- مجرد كلمة غير قابلة للأكل، كلمة لا تُسمِن ولا تُغني من جوع.

إنها مجرد حروف تُزخرف أحيانًا بالتشكيل، وأحيانًا تُكتب عارية، وفي الحالتين ستؤدي لنفس المعنى، ومعناها العربي المعاصر: مساحة جغرافية يُحشر فيها مجموعة من البشر يجمعهم كل شيء وتخنقهم الاتجاهات الأربعة؛ كأنه صندوق تُحيط به الصناديق من أربعة اتجاهات، وهو أيضًا رمز أو شعار تُوسم به مساحة من الأرض قد تم رسم حدودها بنعاية لكي تخنق ساكنيها.

"وطن" كلمة من ثلاثة حروف لا يُمكِن هضمها بأي حال، لا يُمكِن مضغها، لا يُمكِن شربها أو بلعها؛ إلا أنها في نفس الوقت مادة فعّالة جدًا في عملية الهضم؛ فهي كلمة قادرة على إذابة باقي كلمات القاموس العربي، قادرة على جعل العربي يبلع كلماته لكي لا يشبع أبدًا، لكي يظل جائعًا أبدًا، لكي لا يجد ما يقوله دائمًا.

بدلالة أنه لا يستطيع النطق بكلمة "لا" حتى إن أراد، لا لشيء إلا لأنه منذ أن كان في المهد قد بلع كل اللاءات وهضمها جيدًا لأجل الوطن والحفاظ على الوطن، وعلى هذا تم فِطامه.

إن كلمة "نعم" في حقيقة الأمر ليست كلمة؛ إنها المحلول الناتج عن إذابة كلمة "لا"، إنها التجشؤ الناتج عن بلع العربي لهذه الكمية الضخمة من اللاءات.

إنه يتجشأ بـ "نعم"؛ تصفيقًا وتهليلًا لكل قرار، يتجشأ بـ "نعم" في أذن كل مسؤول، إنه يحمل طبلًا ومزمارًا ليتجشأ بـ "نعم" في كل المناسبات، يُدندِن بها ويهز الوسط ويُطرَب أيما طرب لكي يُثبِت لنفسه وللآخرين أنه وطني بامتياز.


فما هو الوطن؟!

إن كلمة "وطن" غير قابلة للأكل كما أسلفت، لكن الوطن ككيان، كحيِّز جغرافي، كمساحة من الأرض؛ فإنه من أسهل الأشياء التي يُمكِن بلعها على الإطلاق.

بعضهم يبلع كامل الوطن في لقمة واحدة. بعضهم يبلعه على دفعات. آخرون يذوقون منه ذواقه ليذوق المتاعيس منه الأمرين. هنالك من يقضم منه قضمة وهنالك من ينهش فيه نهشًا. هنالك من ينتظر تحت الطاولة ليلتقط الفتافيت، هنالك من يتربع على الطاولة ليضمن عدم تساقط أي شيء للهلافيت.

كل هذه الأثداء المترهلة، ترهلت لأن الوطن الذي لا يُمكِن مضغه ككلمة يتم بلعه ككيان مترامي الأطراف.

كلهم بلا استثناء، يبدؤون الأكل باسم المواطنة، وبعد الانتهاء يتجشؤون وطنية.

***

الوطنية هي أهم اشتقاقات "و ط ن"؛ وهي كلمة مطاطية عجيبة.

إنها كلمة من أكثر الكلمات رواجًا في الوطن العربي، وأكثر الكلمات حشوًا للفم العربي.

إنها الكلمة التي فقدت كل بريقٍ لها؛ بسبب توفرها بهذه الكثرة وتواجدها في كل مكان، على صفحات الجرائد، في شاشات التلفاز، على مواقع التواصل، على رفوف البقالة، وفوق بسطة الخضار، على مؤخرات الدجاج وفوق رؤوس الخرفان.

بالنسبة لوزارة التعليم، فالوطنية مادة تزيد من معدلك الدراسي.

بالنسبة لوزارة الزراعة، فهي نباتات وكائنات معدلة وراثيًا لإشباعك.

بالنسبة للأحوال المدنية، فهي رقم من عشر خانات تُسهِل لوزارة الداخلية الوصول إليك.

بالنسبة لوزارة العدل، فهي لجنة لفض المنازعات بينك وبين باقي المواطنين، نزاعات لم تكن لتكون لولا تلك اللجان الوطنية التي وضعت للتنغيص عليك.

الوطنية، هي الطلاء المناسب الذي تصبغ به وجهك للاحتفال، وهي المادة التي تُظلِل بها سياراتك للتمويه على رجال الأمن أثناء الاحتفال.

هي الأداة المناسبة لدق طبول المعارك في الحرب، وفي السِلم قم بربطها على خصرك وأبدأ بهز الوسط.

إن حضرت لحفلة راقصة؛ فاطلب من مطربك المفضل أن يشدوا بالوطنية أروع الألحان، وسترى الجمهور يتمايل طربًا؛ فإن هداك الله زر شيخك واطلب منه أن يُلقي موعظة تؤجج جمرة الإيمان، وسترى كيف يحني المستمعون رؤوسهم في خشوع.

الوطنية، هي الرداء الفضفاض الذي يتسع للأمير والغفير، للكبير والصغير، للشريف والحقير، للغني والفقير.

المتزمت، المتحرر، المتدين، الليبرالي، الأبيض، الأسود، القمحي؛ إن الوطنية هي ثوبهم الذي يتناسب مع جميع المقاسات، وهي إيقاعهم الذي يتم عزفه في كل المناسبات، وهي بوصلتهم التي يديرون إبرتها في كل الاتجاهات.

إنها ليلى التي يدعي كل وصلًا بها، ليلى التي ما عادت تكف عن ضرب كف بكف، وهي ترى الوضيع يمشي أمامها شامخًا عزيزًا، والأفاك يُقسِم لها ثلاثًا بأنه محل ثقة، والخائن يتمختر أمامها بثوب الخل الوفي.

الوطنية، مغرفة تصب المال في جيوب المترفين، وتملأ أفواه المعدمين بالهواء.

الوطنية، قناع نزاهة يرتديه اللص، ولسان نزيه يلعن به كل لص.

الوطنية، نجوم ونياشين تزين صدور القادة والزعماء، وهي دماء الجنود وأرواحهم.

الوطنية، سِيّاط ينزل به المفسدون على ظهور المخلصين، وهي درع يقي المخلصين شر السِيّاط.

إنها ملاذ أخير يلوذ به الأسوياء؛ حبًا في الوطن، ورغبة في أن يتركوا للأبناء ملاذًا آمنًا إن عصفت بهم الحياة.

وهي أيضًا ملاذ أخير يلوذ به الأوغاد، إن دُكَت كل حصونهم دكًا وتعروا على جميع الجبهات.

إنها محاولة لستر الوطن بكل الفضائل، وهي أيضًا “ورقة توت” تستر عورات المفسدين.

الوطن، الوطنية، المواطنة؛ كلمات ما عاد لها طعم أو لون أو رائحة، تُقال لنعتقد أن لدى من يقولها فعلًا ما يُقال، وحين نُرخي السمع نكتشف أنه لا يرددها بهذه الكثرة إلا لأنه لا يعرف ماذا يقول!

***

الوطن هو كيان يئِن من وطنية ساكنيه.



الليلة الثانية بعد الألف


عند بزوغ فجر الليلة الأولى بعد الألف، صاح الديِّك معلِنا بأن الصباح قد لاح، فسكتت “شهرزاد” عن الكلام المُباح، وفي غُنجٍ ودلال تثاءبت ثم استأذنت لتنام، فأذِن لها “شهريار”.

نهضت قاصدةً سريرها المفروش بالريِّش، وحين وصلت ألقت بجسدها عليه وأستلقت، ثم تقلّبت على وسائِد الحريِّر، وتقلّبت ثم تقلّبت، ومضت ساعة وساعتان وهي في أرق، فأخذت ترجوا النوم أن يزورها وإن من باب الإعياء، ولكن هيهات لها أن تنام والملل يُحيِّط بها من كل إتجاه، وكيف لا يخنقها الملل وروتينها لم يتغير منذ ألف ليلة وليلة؟!

أنَّت، وتأوهت في صمت، ثم أقسمت لو أن النوم يُشترى لأشترت منه ما يكفيها لتغُطَ في سباتٍ عميق أبد الدهر، لكن النوم لا يُشترى إنما يُهدى لمن كانت في حياتِهِ حياة، لا حياةً مِدادُها الملل والرتابة وروتيــِّــنٌ يخنُق الأرواح.

وحيِّن يئِست أن تنام، راحت تُناجي ربها: ربي، ما هذا الكرب والبلاء؟!، ومتى الإنشراح؟!

ألف ليلة وليلة وأنا أحكي الحكايا تلو الحكايا، أقوم برصف الأحداث بحِنكةٍ وإحكام، أعرِج على نوادر الأخبار، أغوص عميقاً في الخيال لأجني منه ما لم يخطر ببال، أجمع كل هذا يومياً لأسرِده في كل ليلة، أسرِد كل هذا وأسرِده بالوزن والقافية، ثم أزخرفه بسجعٍ تُطرَبُ له الأسماع.

هذا حاليّ كل ليلة، أحكي وأُخبِر وأروي لا بأساليب الرواةِ والقصاصون، ولكن بأساليب الشُعراء الهائمون، وبعد ألف ليلة وليلة من كل هذا الإرهاق والضنى، لا جمهور أمامي يستمع، لا أذان ليّ تُصغي، حاليّ كحالِ شاعِراً يُنظِم أعظم القصائد للهواء، كحال مُطرِبً يشدوا بأعذب الألحان أمام المِرآة، كحال فيلسوف ينحت أروع الحِكمَ والأمثال على الجدران!.

جمهوري كله هذا الأحمق المعتوه، الذي لم تُغيِّر فيه الليالي الألف شيئاً، لم تُنبِّت فيه كل القِصص ضميراً أو إحساس، وإن ما يزيِّد من مرارةِ هذا الداء، أن عبدك “شهريار” قد زاد تعطشاً للدماء، وها أنا أرى مجهودي كله كالهباء.

إنني يا الله لا أسرد على هذا السفاح بِضع حكايات، إنني أستعطفه بالحكايا أن يعفوا ويصفح، أرجوه بأحسن القصص أن يمنحني صك حياة إلى الليلةِ التالية، فيهبني صك حياةٍ مرهونً بموضوع القِصة التالية ومغزاها، إن وجد فيما سأقوله غداً معنى، إن وجد فيه ما يُشبِع خياله البليِّد، عفى عني وصفح، وإن لم يجد فوراً أمر السياف بهدِر دمي.

فأيُ حياةٍ هذه قد كتبتها عليّ وأنت أرحم الراحمين؟!، أيُ معنى لحياةٍ أعيشها يومياً فقط لكي لا أموت في المساء؟، بل أين الحياة وأنا أموت كل صباحٍ ومساء؟!.

ظلت “شهرزاد” تُحدِث نفسها بحسرة إلى أن غلبها النوم، إلى أن داهمها وقطع عليها حبل الندامة، فنامت، ومرت الساعات تلو الساعات، ولم تدري إلا و”شهريار” يُوقِظُها.

فتحت عيناها بتثاقل، وما هي سوى لحظات حتى أدركت بأن المساء قد حل، وأن موعد حكاية الليلة قد آن، فتصبب العرق منها وأضطربت حين أدركت بأنها لم تقم بالإعداد والتحضير لحكاية الليلة.

أدرك “شهريار” حيرتها وإرتباكها، ولكي يُهدئ من روعِها قال: لا عليكِ يا “شهرزاد” فاليوم أنا من سيتكفل بسرد الحكاية.


************


( الليلة الثانية بعد الألف )

حضرت “شهرزاد” كعادتها وجلست عند قدمي “شهريار” وقبل أن تنطق بكلامها المعسول قال “شهريار”:
لنا يا “شهرزاد” ألف ليلة وليلة، تقُصيِّن وأستمع، تقطعين الحكاية بالتثاؤب وأمثل دور الذي يتملكه الشغف. تسردين قصصاً من خيال، عن “سندباد” الذي سافر لأماكن سحرِّية، وقابل في طريقه كائنات أسطورية. عن جزيرة تتحرك فوق الماء. عن واديً من الألماس. عن “علي بابا” الذي فُتِحت له مغارة الكنز بكلمة لا معنى لها على الإطلاق. عن أربعون لص والمفترض بالشرفاء أن يكونوا أربعون. عن بِساطٍ يطير. عن مصباح يُحشَر فيه مارداً عِملاق.

لقد أدركت منذ الليلة الأولى أنني سأستمع للكثير من الهراء، لكنني أصغيت لحاجة في نفسي، وإلا فلا وجود لبساط يطير، ومن الإستحالة أن يعيش المارد العِملاق داخل مصباحٍ صغير، واللصوص يا “شهرزاد” ليسوا فقط لصوص زمُردٍ وياقوت، فهنالك المحتالون والنصابون والمسئولون المرتشون مما يعني بأن الشرفاء هم الأربعين فعلاً بينما بقية الناس غارقون في الوحل. هذا هو الواقع، لكن برغم كل الخزعبلات أعترف أنكِ قد أثرتِ إعجابي، أنكِ قد جذبتِ إنتباهي كثيراً.

ولا أريدكِ أن تظنين بأنني فعلاً ذلك المُغفل حتى أترك أمور البلاد لألف ليلة، حتى أترك شئون الرعية كل هذه الليالي فقط من أجل سماع قصصك الخيالية، لست ذلك الساذج حتى تأسره الحكايات الأسطورية عن الواقع، ثم تُلهيِّه عما يدور حوله.

الواقع يا “شهرزاد” أشد غرابة من الخيال، والحقيقة أكثر عجباً من الأساطير، وفي عالم المادة من الدهشة ما يفوق كلَ ما يقع في الماوراء، وأشد الغموض غموض الحاضر.

فدعيني أقُص عليكِ حكاية من الواقع هذه المرة، ولتكن الحكاية الأخيرة قبل أن نتزوج أنا وأنت غداً، قبل أن أُعلِن عن زواجنا على الملأ لتعم الأفراح والليالي الملاح، ويرى الجميع كيف أن قصة أميرهم قد انتهت نهاية سعيدة.

سيقتنعون حتماً بأن نهاية قصتي سعيدة، سيقتنعون بهذا جداً. سيتداولون في مجالسهم قصتي من البداية حتى إعلان زواجي بك. سيتهامسون عن خيانة زوجتي الأولى وكيف أنني معذور في قتلها، سيضعون نفسهم مكاني ثم سيقولون: الحق معه فقد تعرض لجرح عميق مس منه أعمق الأحاسيس. سيعرِجون عن قتلي لكل أولئك العذارى، وأيضاً سيعذرونني على قتلهِن، بل وسيلومون زوجتي الخائنة التي جعلتني أرى صورتها في كل النساء. وبالنسبة لكِ فسيضعونك في منزِلةً رفيعة، سيُجِلونك كونك الوحيدة التي تقدمت لتُوقِف هذا الجنون. وفي النهاية سيبتسمون حين يرون أميرهم السفاح قد عاد إنساناً سوياً، حين يرون أميرهم قد تاب عن قتل العذارى، ثم سيغفِرون لي كل خطاياي السابقة إكراماً لهذه النهاية السعيدة التي تلعبيِّن فيها دور البطولة بلا منازع.

لكن يا “شهرزاد” لا أريدك أن تكوني بسذاجة الرعيِّة، فالرعية يسمعون بعاطفة وأنتِ امرأة عاقلة، لا أريدك أن تظنين بأن زواجنا فعلاً هو النهاية السعيدة التي تأتي في خواتيم الحكايات الخيالية، ما بيننا ليس أكثر من عمل وقد تم إنجازه، ويحق لكِ ان تعرفي كامل الحقيقة كما هي لا كما يسمعها الأخرون.


************


( عالم السياسة )

هل نبأ إليكِ يا “شهرزاد” أن العذارى الذين تزوجتهن مساءً قد قتلتهن في الصباح وهن عذارى؟!

حسناً، هل وجدتني خلال الألف ليلة أتقرب منك وأتودد إليك في ليلة واحدة؟!، ألم تتساءلي: لما لم يحدث أي شيء من هذا رغم جمالك الآخاذ؟!

لم يحدث يا “شهرزاد” بيني وبين العذارى شيء، كما لم يحدث بيني وبينُكِ شيء، كما أيضاً لم يحدث بيني وبين زوجتي التي قتلتها أيُ شيء!

لهذا تحديداً قتلتهن، وقتلت زوجتي لا لأنها خانتني ولكن لأنه لم يحدث بيني وبينها شيء على الإطلاق، لقد قتلتها رغم حبي الشديد لها، لأنني خِفت أن تبوح بهذا السِر، خِفت أن تشكوا لقريِّبٍ أو صديق عن حالنا منذ تزوجنا، وكيف أنه إلى الآن لم يحدث بيننا شيء.

أنا الأمير وولي العهد، المُرشح لتولي سُدة الحُكم، مكانتي وطموحي في الحُكم لا يسمحان بمثل هذه الفضيحة، فأن يُفتضح أمري، أن يُكتشف سري، أن تتناقل الألسن عِلتي وكيف أن أميرهم المُرشح للحكم يُعاني من العجز الجنسي، كل هذا لم أكن لأسمح به، ولهذا قتلت زوجتي، خِفتُ أن تكشِف عن سري فيتم إبعادي عن المنافسة على الحُكم، خصوصاً وأن أحد شروط تولي الحُكم أن يكون للحاكم أبناء ليرثوه.

حين أدركت هذا الأمر، أخذت أتفكر، وأتدبر، فتوصلت إلى ضرورة دفن هذا السر عميقاً جداً، إلى ضرورة إخفاءه بأي وسيلةٍ كانت، وحينها لم أجد مفراً من قتلها، وحين نفذت جريمتي لم أجد مبرراً أعرضه لتبريء ساحتي إلا الشرف، هذه المبرر في الحقيقة يغفر كل الجرائم مهما كانت عنيفة، مهما أريِّقت من دماء فسيجد ليّ الآخرون ألاف الأعذار المرتبطة بالشرف.

وهكذا، قتلتها ثم أشعت أن سبب قتلي لها كان الخيانة، فتقبل الجميع الأمر، رأوا فيني أنفسهم، رأوا أنفسهم سيصبحون دمويين لا محالة إن وصل الأمر بهم إلى حد الشرف.

لم يسُألني أحد: لماذا تُشيِّع هذا الأمر؟!، لماذا تنشر خبر خيانة زوجتك على الملأ؟!، لم ينتبه أحد إلى أن نشر خبر خيانتها لي أمراً غير مألوف، لم ينتبه أحد إلى أنه كان بإمكاني القول أنها خانتني وكفى لا أن أُعلِن عن كل التفاصيل، وأنها خانتني مع عبداً من عبيِّد القصر. لم ينتبهوا إلى أنهم ليسوا في حاجة لكل هذه التفاصيل من الأساس.

لقد أشعت هذا الموضوع، أعلنت على الملأ كل التفاصيل، لكي أجعلهم يغرقون في التفاصيل، أعطيتهم شيئاً يلتهون به، وقد نجح الأمر، قتلت زوجتي وأغلقت ملف القضية، ثم أخذت أقتل العذارى تلو العذارى، ورغم تلطخ يداي بالدماء رآني الناس الضحية هنا!

لازلت أتألم “يا شهرزاد” على موت زوجتي، لازلت أشعر بمرارة الندم على قتل كل أولئك الفتيات، لاتزال دماء الجميع تُداهمني في مناماتي ككوابيِّس تؤرقني، لكن هذا هو الطريق الوحيد إلى الحُكم والذي كان لابد وأن أسيِّر فيه، وإنه طريقٌ شاق عسير كله تضحيات، مُعبد بالغدر والخيانة والكثير من الدماء، والناس لا يرون الحاكم إلا مُبتسِماً في نهاية المطاف!

لقد قتلت زوجتي فعفى الناس سريعاً، لكنهم سريعاً بدأوا يتهامسون بضرورة أن أتزوج من أخرى لأخرج من هذا الإضطراب النفسي أولاً وثانياً لكي أُنجِب ورثة يرثونني في الحُكم كشرط من شروط تولي الحُكم.

هنا وجدتني أمام معضلةً أخرى، فأنا وإن تزوجت لن أُنجِب، وإن لم أُنجِب فسيذهب كل ما فعلته هباء، لن أستطيع أن أقتل زوجتي الأخرى لأن الناس لن يُصدِقوا حينها بأن هذه الأخرى قد خانتني أيضاً، حينها ستحوم الشكوك حولي حتماً، وبعد طول تفكير لم أجد حلاً سوى أن أتزوج كل ليلة من عذراء على أن أقتلها في الصباح، وفعلاً فعلت، فعلاً نجحت في أن أخلق زوبعة، أن أُحدِث غُباراً للتغبيِّش على العيون.

تلك كانت غايتي حينها، إلا أنني تفاجأت حين وجدت الناس يُحمِّلون زوجتي الأولى جريرة كل هذه الدماء، لأصبح أنا الضحية للمرة الثانية رغم أنني في واقع الأمر من يقتل بوحشية!، هكذا هو تفكيِّر الرعية، يُفاجِئون راعيِّهم بعفوهم وصفحهم الجميل عن كل جرائمه مهما كانت دموية!.

لقد كنت في لحظة جنون حين قررت أن أقتل كل العذارى، لم أكن أعي ما أفعل، لم أكن أتخيل النهايات، أيقنت في ذلك الوقت أنه سيُفتضح أمري لا محالة، أنه ستتم محاسبتي وربما إعدامي، لكنني لم أبالي بكل هذا، خالطني شعوراً باليأس والتعطش للدماء، إلى أن أصبحت مناظر الدماء هي الغاية والهدف، حينها أصبح هدف الوصول للحُكم ثانوياً، إلا أن الناس فاجأوني بالعفو والصفح، فاجأوني برؤيتهم لي كضحية، فأدركت حينها أنني لازلت سائراً إلى سُدة الحُكم.

صحيح أنهم رأوني وحشاً متعطشاً للدماء، لكنهم في نفس الوقت لايزالون يرونني أهلاً للحُكم وهذا هو الأهم، ثم إن قليلاً من الساديِّة والبطش يُفيِّد، فالأصدقاء الآن سيخافونني قبل الأعداء، سيرون يداي التي لم ترحم البريئات لن ترحم رقابهم بأي حال، إنه الحُكم بالخوف، هذا ما يُفيِّد في نهاية المطاف.

لقد انزلقت بعيداً يا “شهرزاد” بعيداً جداً عن الطبيعة الإنسانية، لكنني إنزلقت لهذا القاع حتى لا تنزلق البلاد إلى الفوضى، فأخي أضعف من أن يُديِّر دفة البلاد، والناس يتطلعون إلي كوني الحاكم القادم ذو الشخصية المُهابة، لأجل كل هذا كان لابد وأن أسلك طريق الدماء، إلا أنني أدركت بأنني لن أستطيع المضي قدماً في طريق الدماء، فعفوا الناس لن يدوم طويلاً، وصورتي في أعينهم كضحية ستتبدد بالدماء.

هنا، كان لابد من “إستراتيجية” جديدة تُعيِّد الأمور لنصابها، وأنتِ يا “شهرزاد” هذه الإستراتيجية، تحملين كل المواصفات المطلوبة، جميلةٌ جداً، متعلمة جداً، لديك أسلوبك الخاص في الحديث والذي يأسر الألباب، مُطلِعة على خفايا شتى الثقافات، لأجل كل هذا إرتأيت أن أُبقيَ على حياتك، لأنه كان لابد للغبار وأن ينجلي، لابد وأن أعود في نظر الرعيِّة إنساناً سوياً، لابد من نهاية سعيدة وأنتِ في حكايتي هي النهاية السعيدة التي تليِّق لأن تُختم بها الحكاية.

لكن لابد وأن أعترف بأنك أكثر براعة مما توقعت، صحيح أن حكاياتك أسرتني وجعلتني في الكثير من الليالي حبيس الشغف، لكن أسلوبك أسر الرعيِّة أكثر مما أسرني، قصصك جعلتهم يتوهون أكثر، حكاياتك جعلت جرائمي وكل هذه الدماء التي تُلطِخ يدي مجرد حكاية تائهة بين ألف حكاية وحكاية تتناقلها الألسن للهو والحديث.

والآن، بعد ألف ليلة وليلة، سأُعلِن عن زواجي بك، وسيقول الناس بأنها أجمل نهاية، سيتم نسيان كل شيء، وستعم الأفراح والليالي الملاح أرجاء البلاد، كيف لا وهم يرون أميرهم قد عاد إنسانياً سوياً، كيف لا وهم سيرون أميرهم قد تزوج بـ”شهرزاد” إبنة القصور ذات الذكاء والبراعة في سرد الحكايات، الشجاعة التي أقدمت على “شهريار” في أوج جنونه وتعطشه للدماء لتعرض نفسها كمُنقِدة لجنس النساء.

إنها النهاية التي فاقت ما توقعت.


************


( حياة القصور )

شهرزاد: أراك يا مولاي قد أدخلت نفسك في دوامات من الأوهام لن تخرج منها أبداً، ستبقى للأبد داخل أوهامك ولن تخرج وإن بقيت لألف ليلةٍ أخرى أقص عليك أحسن القصص، لقد أثبت بكلامك أنك حالةً ميؤوسٌ منها.

الرغبة في الوصول للحكم، ليست دافع لإرتكاب كل هذه الجرائم، أنت فقط تتوهم الأمر لكي تُبرِر لنفسك انسلاخك عن الإنسانية، إنك تتوهم الأشياء ثم تُقنِع نفسك بأن أوهامك حقيقة ثم تُحاكِم الأخرين بناءً على أوهامك.

إنك لم تقل الحقيقة أبداً، بل نسخةً عنها، نسخة مشوهة لا وجود لها إلا في خيالك أنت.

والحقيقة أن ما دفعك لكل هذه الدموية، ما حرضك أن تصبح شيئاً أخر لا علاقة له بالإنسانية ليست السياسة، ليس الوصول للحكم، ليست الرغبة في الظهور بمظهر السيد المُطاع، ما دفعك لأن تُصبِح وحشاً سفاح يتلذذ بمناظر الدماء هو حياة الترف، حياة القصور، حياة النعيم بلا إنقطاع.

وأنا يا مولاي إبنة الترف، إبنة القصور، إبنة وزيرك الذي لم يُعارِضُني حين هممت بالقدوم إليك، لم يمنع إبنته لا كرهاً لها ولا خوفاً منك إنما خوفاً أن يفقد حياة الترف ورغد العيش التي يهنأ بها.

هذا هو الخلل، هذه هي جرثومة كل المجتمعات، حياة القصور التي تحتكم لقوانين لا تُشبِه قوانين البيوت المُطمئِنة، النزوات هنا تحكم وتتحكم، الإنسلاخ عن القيِّم والمبادئ هنا عبارة عن طرق نسلكها ذهاباً وإياب، الغرف المهجورة تسكنها وساوس الشياطين وأفكارهم السوداوية.

الحياة التي تحياها، النعيم الذي تناله بلا تعب، الخدم والحشم الذين يُلبُون مطالبك قبل أن تطلب، عدم شعورك بالجوع، بالحاجة، بالنقص، مثل هذه الأشياء تُحرِضُك على البطش والإجرام والدموية إن لزِم الأمر، فحياة القصور حياة ملل، أرضيتها مفروشة بكآبة قاتِلة، جدرانها بيئة خصبة لتكاثر الأفكار الخبيثة، وأسوأ ما في حياة القصور أن الحُزن فيها لا يُشبِه أي حزنٍ آخر، الإستياء والإكتئاب والهموم هنا لا تُشبِه ما هو موجود في الخارج.

أنت وأنا قد ترعرعنا في هذه الأجواء، منذ الصِغر ونحن لا نشتهي شيئاً إلا ونناله بشكلٍ مُضاعف، نشتهي المال فنجده أكثر مما نريد، نشتهي السفر فنُسافِر معظم العام، نشتهي الأكل فيتم تحضير ما يكفي لوليمة، وحين وجدنا أنفسنا ننال كل شيء أكثر مما ينبغي من الطبيعي أن تُصيِبنا أحزانً مُضاعفة، من الطبيعي أن تُداهِمنا كآبة أكثر مما نحتمل، من الطبيعي أن نُبتلى بحسراتٍ لا يُطيِّقها الفقيِّر المُعدم.

هذه الحياة، هي دافعك الحقيقي لكل هذه الدموية والوحشية والسادية التي انزلقت إليها، إن القتل الذي يُعتبر في أعراف الناس جريمةً نكراء هو عند سُكانِ القصور مجرد تغيير في الروتين.

ها أنت قد حدثت الناس عن خيانة زوجتك، حدثتهم بما يشمئزون منه لا ما تشمئِز منه أنت، لأن الخيانة في حياة القصور فعلاً مشروع، وكيف لا تكون فِعلاً مشروع والخائن والضحية يُدرِكان بأن الحياة هنا ما عادت تُطاق، هذا الجو الخانق يُجيِّز الإنحراف.

إن أجساد البشر في حاجة إلى الألم، في حاجة إلى العطش والجوع والشعور بالحرمان وإن بنسبٍ ضئيلة، ولا أحد يستطيع أن يحرم جسده من هذه الحاجات إلا المُترفين المُنعميِّن الذيِّن لا يمر عليهم يوم لم يجوعوا فيه، الذيِّن لا يحلمون لأن أمنياتهم تتحقق قبل أن تطرأ على خيالاتهم، الفردوس الذي يعيش فيه المترفين أفقدهم قيِّمة الصحة والشبع والإرتواء، أفقدهم معنى كونهم بشراً أسوياء.

لقد خلقوا لأنفسهم نعيماً لا مُنغِصات فيه، وأجسادهم لم تُخلق لمثل هذا النعيم، بالتالي تغيرت لديهم معادلات القوانين الإنسانية، لهذا تراهم إن أفقروا عوائل، إن شردوا جماعات، إن نهبوا الأموال، دائماً لا يشعرون بفداحة ما يفعلون، يسمعون آنيِّن الجيّاع بكل بلادة لأنهم لا يفهمون ما معنى الجوع.

إنه الترف يا مولاي، حياة القصور والنعيم الفائض عن حاجة الإنسان، هذا ما غير في طبائعك وجعلك وحشاً متعطشاً للدماء، إنك أنت من دعى الوحش لأن يتلبسك، دعوته لكي ينتشلك من هذا الترف الذي أفقدك متعة الحياة، إنك لم ترغب في القتل يوماً كل ما في الأمر أنك فاقداً لقيِّمة الحياة.

وأنا أيضاَ أشاركك هذه الحياة، أشاركك ذات الرتابة والملل، ولهذا قدِمت إليك رغم علمي بوحشيتك وتعطشك للدماء، ولو أن للحياة قيِّمةٌ عندي لما أتيتك بكامل إرادتي، لقد هربت إليك فقط لكي أقتل الملل!.

إن الإنسان الطبيعي يدرس ويجتهد ويُثابر حتى ينال العُلى وربما لا يناله بعد كل هذا الأرق، ونحن أبناء القصور نعيش في عُلى لم نسعى إليه أبداً، لم نبدل في سبيله مجهوداً، هذا الأمر في الأخير سيجعل الإنسان الطبيعي يكفر بالجد.

إننا مجرد قُطاع طرق نُحاكِم الآخرين بقوانيننا، بقوانين القصور، حيث الدسائس والمكائد والمؤامرات، نرى الجميع يكيِّد لنا لأننا بسبب الملل ورتابة الترف نكيِّد لبعضنا ونتأمر من باب التغيير.

وإنك يا مولاي ستصل لمبتغاك، ستغدوا حاكماً على البلاد، وحين تفعل سيرونك طاغية مُستبد وبدورك ستراهم مجرد أوباش يُحيِّكون المؤامرات عليك، إنهم لا يُدرِكون بأنك لا تستبد إنما تراهم جميعاً أبناء ترفٍ وقصور يُفكِرون كما يُفكِر أبناء القصور.

إنني لا ألومك على ما فعلت، إنما ألوم هذه البيئة الإنسانية المشوهة التي وجدنا أنفسنا فيها، بيئة ساعدتنا على أن ننحرف عن سير خط الأسوياء.

هذا هو دافعك، جرثومة القصور قد أصابتك لتتحول من إنسان لوحش دموي تقتل بلا إحساس، ثم تُوجِد لنفسك المُبررات، وأسوأ ما في الأمر أنك تنام مرتاح البال، وكيف لا تنام مرتاح البال وأنت ما فعلت كل هذا إلا لتقتل الملل الذي يملأ جدران القصر، وقد نجحت في الوصول لمبتغاك فعلا، فكيف لا تنما مرتاح البال!

فأعلِن يا مولاي عن زواجنا غداً أو بعد غد، دع الرعيِّة يقومون بإحياء الأفراح والليالي المِلاح، ودعنا نظهر أمامهم مبتسمين سُعداء، دعهم يرون النهاية السعيدة فإنهم لن يُدرِكوا أننا أبناء قصور، قد وُلِدنا في نعيِّم أفقدنا كل قيِّمة للسعادة.

ومع بزوغ الفجر، صاح الديِّك مُعلِنا بأن الصباح قد لاح، فسكتت “شهرزاد” عن الكلام الغير مباح، وسكت “شهريار” وظل الصمت يُخيِّم على أرجاء المكان.



************

عزيزي القارئ، أعتذر عن الإطالة في الموضوع، لكنها خواطر أحدث بها نفسي منذ فترة.

فــ “ألف ليلة وليلة” من الأدب العالمي الذي يحتفظ دوماً بأسراره، من الأدب الذي يمتاز بأن الكذِب فيه صادق جداً، والغموض فيه مدعاة لإعمال العقل والتفكر.

وإن الأمر لم يقف عند حد الليلة الأولى بعد الألف إلا لكي يستشف القارئ ما سيحدث في الليلة الثانية، وباقي الليالي تِباعاً، فالنهايات هنا دائماً مُعلقة، دائماً تُحرِض الخيال، دائماً تستثير الإنسان أن يُسقِط على الليلة الثانية ما يُفكِر به ويستشعره.

وقد فكرت أن الليلة الثانية بعد الألف لابد وأن تكون ليلة مُكاشفة ومُصارحة وكشف أوراق.

أما عن دافع “شهريار” فرأيت الدافع لابد وأن يكون سياسي بحت، لابد وأن تكون في الحلف الكثير من الأطماع والمؤامرات والمكائد لوصول لسُدة الحُكم، فهو الأمير المُهاب الذي يسعى للحفاظ على صورته بأي ثمن.

تفكرت في “شهرزاد” فرأيتها غارقة في الكآبة والملل والرتابة، مُنعمة مُرفهة مُتعلِمة لكنها مختنقة بكم هائل من الرتابة.

وقد تساءلت في البدء: هل أكتب ما يجول بخاطري عن “شهريار” و “شهرزاد” أم أتركهما يتحدثان عن نفسيهما؟!، فوجدتني أترك الأمر لهم إلى أن طال الحديث جداً.

فأعتذر عن كل هذه الإطالة، التي كان من الممكن إختصارها إلا أنني أكتشفت بأنه لا يزال في البال الكثير مما لم يُقال، وإن لم أكتفي بهذا الحد فلن أكتفي أبداً من الحديث عن “ألف ليلة وليلة”.




--