يعني إيه كلمة وطن ؟!


لو أننا نستطيع أن نأكل كلماتنا؛ لكفتنا كلمة "وطن" شر الجوع.

لو أن حروفنا العربية قابلة للمضغ؛ لأقمنا وليمة كل الأصناف فيها مشتقة من "و ط ن"، ولتجمعنا حولها لنباشر الأكل إلى أن نشبع ونُصاب بالتخمة.

لو أن كلمة وطن تُؤكل؛ لما بقي في العرب جائعًا، لكنها -للأسف- مجرد كلمة غير قابلة للأكل، كلمة لا تُسمِن ولا تُغني من جوع.

إنها مجرد حروف تُزخرف أحيانًا بالتشكيل، وأحيانًا تُكتب عارية، وفي الحالتين ستؤدي لنفس المعنى، ومعناها العربي المعاصر: مساحة جغرافية يُحشر فيها مجموعة من البشر يجمعهم كل شيء وتخنقهم الاتجاهات الأربعة؛ كأنه صندوق تُحيط به الصناديق من أربعة اتجاهات، وهو أيضًا رمز أو شعار تُوسم به مساحة من الأرض قد تم رسم حدودها بنعاية لكي تخنق ساكنيها.

"وطن" كلمة من ثلاثة حروف لا يُمكِن هضمها بأي حال، لا يُمكِن مضغها، لا يُمكِن شربها أو بلعها؛ إلا أنها في نفس الوقت مادة فعّالة جدًا في عملية الهضم؛ فهي كلمة قادرة على إذابة باقي كلمات القاموس العربي، قادرة على جعل العربي يبلع كلماته لكي لا يشبع أبدًا، لكي يظل جائعًا أبدًا، لكي لا يجد ما يقوله دائمًا.

بدلالة أنه لا يستطيع النطق بكلمة "لا" حتى إن أراد، لا لشيء إلا لأنه منذ أن كان في المهد قد بلع كل اللاءات وهضمها جيدًا لأجل الوطن والحفاظ على الوطن، وعلى هذا تم فِطامه.

إن كلمة "نعم" في حقيقة الأمر ليست كلمة؛ إنها المحلول الناتج عن إذابة كلمة "لا"، إنها التجشؤ الناتج عن بلع العربي لهذه الكمية الضخمة من اللاءات.

إنه يتجشأ بـ "نعم"؛ تصفيقًا وتهليلًا لكل قرار، يتجشأ بـ "نعم" في أذن كل مسؤول، إنه يحمل طبلًا ومزمارًا ليتجشأ بـ "نعم" في كل المناسبات، يُدندِن بها ويهز الوسط ويُطرَب أيما طرب لكي يُثبِت لنفسه وللآخرين أنه وطني بامتياز.


فما هو الوطن؟!

إن كلمة "وطن" غير قابلة للأكل كما أسلفت، لكن الوطن ككيان، كحيِّز جغرافي، كمساحة من الأرض؛ فإنه من أسهل الأشياء التي يُمكِن بلعها على الإطلاق.

بعضهم يبلع كامل الوطن في لقمة واحدة. بعضهم يبلعه على دفعات. آخرون يذوقون منه ذواقه ليذوق المتاعيس منه الأمرين. هنالك من يقضم منه قضمة وهنالك من ينهش فيه نهشًا. هنالك من ينتظر تحت الطاولة ليلتقط الفتافيت، هنالك من يتربع على الطاولة ليضمن عدم تساقط أي شيء للهلافيت.

كل هذه الأثداء المترهلة، ترهلت لأن الوطن الذي لا يُمكِن مضغه ككلمة يتم بلعه ككيان مترامي الأطراف.

كلهم بلا استثناء، يبدؤون الأكل باسم المواطنة، وبعد الانتهاء يتجشؤون وطنية.

***

الوطنية هي أهم اشتقاقات "و ط ن"؛ وهي كلمة مطاطية عجيبة.

إنها كلمة من أكثر الكلمات رواجًا في الوطن العربي، وأكثر الكلمات حشوًا للفم العربي.

إنها الكلمة التي فقدت كل بريقٍ لها؛ بسبب توفرها بهذه الكثرة وتواجدها في كل مكان، على صفحات الجرائد، في شاشات التلفاز، على مواقع التواصل، على رفوف البقالة، وفوق بسطة الخضار، على مؤخرات الدجاج وفوق رؤوس الخرفان.

بالنسبة لوزارة التعليم، فالوطنية مادة تزيد من معدلك الدراسي.

بالنسبة لوزارة الزراعة، فهي نباتات وكائنات معدلة وراثيًا لإشباعك.

بالنسبة للأحوال المدنية، فهي رقم من عشر خانات تُسهِل لوزارة الداخلية الوصول إليك.

بالنسبة لوزارة العدل، فهي لجنة لفض المنازعات بينك وبين باقي المواطنين، نزاعات لم تكن لتكون لولا تلك اللجان الوطنية التي وضعت للتنغيص عليك.

الوطنية، هي الطلاء المناسب الذي تصبغ به وجهك للاحتفال، وهي المادة التي تُظلِل بها سياراتك للتمويه على رجال الأمن أثناء الاحتفال.

هي الأداة المناسبة لدق طبول المعارك في الحرب، وفي السِلم قم بربطها على خصرك وأبدأ بهز الوسط.

إن حضرت لحفلة راقصة؛ فاطلب من مطربك المفضل أن يشدوا بالوطنية أروع الألحان، وسترى الجمهور يتمايل طربًا؛ فإن هداك الله زر شيخك واطلب منه أن يُلقي موعظة تؤجج جمرة الإيمان، وسترى كيف يحني المستمعون رؤوسهم في خشوع.

الوطنية، هي الرداء الفضفاض الذي يتسع للأمير والغفير، للكبير والصغير، للشريف والحقير، للغني والفقير.

المتزمت، المتحرر، المتدين، الليبرالي، الأبيض، الأسود، القمحي؛ إن الوطنية هي ثوبهم الذي يتناسب مع جميع المقاسات، وهي إيقاعهم الذي يتم عزفه في كل المناسبات، وهي بوصلتهم التي يديرون إبرتها في كل الاتجاهات.

إنها ليلى التي يدعي كل وصلًا بها، ليلى التي ما عادت تكف عن ضرب كف بكف، وهي ترى الوضيع يمشي أمامها شامخًا عزيزًا، والأفاك يُقسِم لها ثلاثًا بأنه محل ثقة، والخائن يتمختر أمامها بثوب الخل الوفي.

الوطنية، مغرفة تصب المال في جيوب المترفين، وتملأ أفواه المعدمين بالهواء.

الوطنية، قناع نزاهة يرتديه اللص، ولسان نزيه يلعن به كل لص.

الوطنية، نجوم ونياشين تزين صدور القادة والزعماء، وهي دماء الجنود وأرواحهم.

الوطنية، سِيّاط ينزل به المفسدون على ظهور المخلصين، وهي درع يقي المخلصين شر السِيّاط.

إنها ملاذ أخير يلوذ به الأسوياء؛ حبًا في الوطن، ورغبة في أن يتركوا للأبناء ملاذًا آمنًا إن عصفت بهم الحياة.

وهي أيضًا ملاذ أخير يلوذ به الأوغاد، إن دُكَت كل حصونهم دكًا وتعروا على جميع الجبهات.

إنها محاولة لستر الوطن بكل الفضائل، وهي أيضًا “ورقة توت” تستر عورات المفسدين.

الوطن، الوطنية، المواطنة؛ كلمات ما عاد لها طعم أو لون أو رائحة، تُقال لنعتقد أن لدى من يقولها فعلًا ما يُقال، وحين نُرخي السمع نكتشف أنه لا يرددها بهذه الكثرة إلا لأنه لا يعرف ماذا يقول!

***

الوطن هو كيان يئِن من وطنية ساكنيه.



0 التعليقات :

إرسال تعليق