هكذا أفهم المؤامرة

{ ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين }
في الآية تعهد صريح من الشيطان بأنه لن يترك الإنسان في سبيله أبداً، وسيقعد له في كل خطوة، ولن يتركه إلا على ضلال تام. ثم تمضي الحياة وتنتهي، ويأتي يوم الحساب، هنالك سيجمع الله –عز وجل- بين الشيطان وأتباعه، ليبدأ الأتباع فوراً بإلقاء الحجج بين يدي الله -لتبرير موقفهم- بأن الشيطان هو من كّاد لهم وأغواهم حتى أضلهم عن الحق، وأن لا حول لهم ولا قوة حين أطاعوه، فيُعطى الشيطان حق الرد كدلالة على عدل الله المطلق ولإقامة الحجة على أتباع الشيطان، حينها يُجيب الشيطان كما جاء في الآية: {... وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم  }
في هذا المشهد القرآني دلالة واضحة على أن التحجج بفكرة المؤامرة وأن الآخر يكيد لنا ويتربص بنا، وأن لا حول لنا ولا قوة، لن يعفينا عن المسؤولية، فالله قد أودع فينا كأفراد وجماعات ودول كامل أسباب التحلي بالقوة بنفس المقدار الذي أودعه في الآخر المُتأمر علينا، إن عقولنا واحدة وأجسادنا متشابهة وحبانا الله بالكثير من الثروات، لكننا – بإرادتنا - اخترنا الضعف والهوان، هذا الاختيار هو الذي يجعلنا نتحمل وِزر نجاح كل مؤامرة يكيدها الآخر علينا .. بمعنى أدق، إن الدولة أو الجماعة أو حتى الفرد الذي يُبرر ضعفه بأنه ضحية مؤامرة مُحكمة حاكها الآخر عليه، فإن تبريره يعني اعترافه الصريح بأنه قد أجرم في حق نفسه حين جعلها مطية للآخر يُجرِب عليها مؤامراته كيفما شاء، وكان في مقدوره ألا يكون "فأر تجارب" إذا ما أراد.

إن المؤامرات لا تنفذ إلا من عوراتنا، فكيف نلوم الآخر ونحن من تعرى في الأساس؟ ها هي "إيران" على سبيل المثال، التي لديها أطماع فعلية، وتُحيك التآمرات جدياً من أجل تحقيق أطماعها على أرض الواقع، وفي المقابل "نحن العرب" لا نهتم إلا بالبحث عن جهات تقتنع فعلاً بأننا ضحايا لا حول لنا ولا قوة! إن بكاءنا اليوم لن يفيدنا مستقبلاً إذا ما تحولت الأطماع الإيرانية من "هلال" إلى "بدر"، فالعرب هم من تركوا الثغرات مكشوفة أمام إيران وغيرها، فلا يلام الآخر بقدر ما نلام نحن إن تجاهلنا إصلاح الداخل وتمادينا في الفساد والجهل والفقر والبطالة، وأشياء أخرى لم تجعل الآخر قوياً بقدر ما جعلتنا نحن الأضعف!
وكمثال آخر معايش اليوم.. ما حدث مع "الإخوان" ورغم نفي الكثيرين أن ليس في مسألة إسقاطهم أي مؤامرة، إلا أن جزءاً من الحقيقة يقودنا إلى أن سقوطهم جاء نتيجة تآمر، والإقرار بالمؤامرة هنا في الحقيقة يُعري الإخوان تماماً، فالمؤامرة طالما نجحت في إزاحة الإخوان فهذا يعني أنهم لم يكونوا أهلاً لما وكّل لهم منذ البداية، ومسألة التباكي واستدرار العطف بتمثيل دور الضحية هنا تأكيد إضافي على عدم أهليتهم، والذي يجب الانتباه له -والأخوان هنا مجرد مثال- أن المؤامرة التي تنجح فعلياً على أرض الواقع تجعل من جميع الأطراف مذنبين بالتساوي ولا وجود للضحية.

من زاوية أخرى، فإن التمادي في إحالة الأحداث لنظرية المؤامرة يُعطي للآخر حجماً أكبر من حجمه الحقيقي، بل إنه أحياناً كثيرة يُضفي على ذلك الآخر -المتآمر- صفات وقدرات فوق المستوى البشري، فينظر إليه نظرة القادر على كل شيء، المُطلّع على خبايا الأمور، الفعّال لما يريد وقتما يريد! وكأن الله أوكل إلى الآخر مهمة ترتيب الأوضاع وتسيير الأرض، وتركنا في محل مفعول به بالمطلق! والحقيقة أن ذلك الآخر أياً كانت هويته ليس بتلك القوة التي نتخيلها، فلقوته حدود ولأسلحته حدود، لكنه تضخم إلى هذا الحد "الوهمي" بسبب نظرتنا نحن إليه، بسبب ما أضفناه عليه من صفات خارقة! وبهذا نكون قد دخلنا في محظورات شرعية بجانب تخلفنا الفكري.. إننا عندما ننظر إلى الآخر على أنه قادر ومتمكن من التلاعب بمصائر الشعوب إلى هذا الحد، فنحن نهديه سُمعة لم يكن يحلم بها أبداً، ونُهدي أنفسنا إحباطاً مضاعفاً.

في الأخير.. يمكن تشبيه نظرية المؤامرة بالدجل والشعودة، كلاهما يعتمد على بناء آلاف الكذبات حول حقائق معدودة .. إننا عندما نعترف بوجود المؤامرات فعلِياً فيجب أن نعترف في المقابل بأنها لا تتخطى كونها وسوسة شيطان، والإنسان هو من يُكمِل مشواره في الضلال، أي أن المتآمر ليس بمقدوره إلا إلقاء عود ثقاب في مكانٍ قابل للاشتعال، سيلام على إلقائه عود الثقاب، لكننا من يتحمل بقية الأوزار.

رمضان.. أفكار أخرى للعمل الخيري


بما أننا نعيش هذه الأيام أجواء رمضانية روحانية، حيث تنحو أعمال الخير غالباً إلى البذل والعطاء، فنجد الجميع يحرص على أداء شعائر إسلامية جميلة كالصدقة وإطعام المساكين وغيرها من الأعمال التي تؤكد على حرص الشريعة الإسلامية وتشجيعها لإحياء مفاهيم التآخي والترابط بين أفراد المجتمع ومشاركة الفقراء والمحتاجين.. غير أن هنالك في الإسلام ما هو أسمى من الصدقة وإطعام المساكين، وأسمى من مشاركة الجائعين جوعهم، ذلك المفهوم يعنى بالقضاء على الفقر والجوع في المجتمع قدر المستطاع حتى لا يضطر الفرد في ذلك المجتمع أن يُذِل نفسه لسد حاجته. فأن يكون في المسلمين مليون فاعل خير فهذا لا يعني أننا نُحِب الإحسان بقدر ما يعني أن في المسلمين ملايين الفقراء والمحتاجين، هؤلاء الفقراء والمحتاجون هم في الأخير نتيجة مرة لاستشراء الفساد، فساد أخرج ملايين المحتاجين والجائعين الذين يبحثون عن مُحسن يطعِمهم، مُحسِن مهما أطعم ستظل الأفواه جائعة.
القضاء على الحاجة أهم وأسمى من توزيع الصدقات وإطعام المساكين، لكننا نُركِز على أداء الجانب الشكلي من الإسلام متجاهلين الجانب الروحي منه، لأن الجانب الروحي يحتاج إلى عمل مؤسساتي دؤوب.. يحتاج إلى القضاء على كل أشكال الفساد في المقام الأول، لكن إن لم نكن قادرين على تطبيق روح الإسلام فأضعف الأيمان ألا نتغنى بتمسكنا بالشكليات، لأن خلف إحسان المحُسنين أفواهاً جائعة، على المجتمع أن يمنحها حياةً كريمة، ولأن تكرار وقوفهم كل عام منتظرين إحسان ذلك المُحسِن ليمنحهم بعض المال والطعام فعل غير حضاري ولا إسلامي.
أعمال الخير في رمضان على جماليتها – شكلياً - إلا أنها تُنبىء عن ثقافة "الأنانية" المغروزة فينا، فالكثيرون وإن لم يقصدوا صراحة إلا أنهم لا يُقدِّمون ولا يبذلون إلا بمقابل، سواءً كان المقابل ماديا أو معنويا، متجاهلين أن الغاية الأسمى من أعمال الخير هي تقليص مقدار البؤس والمهانة والحاجة التي يستشعرها الآخرون، الغاية أن يتم انتشالهم مما هم فيه لا أن يمارس عليهم الآخر دور السيد الواهب المُعطي!
أحد أصدقائي سافر بعائلته إلى أوروبا، وبعد وصوله شعر ابنه ذو العشرة أعوام بالمرض، فما كان من أبيه إلا أن أخذه إلى أقرب عيادة خاصة، وبعد الكشف والتحليل ووصف الدواء أراد الأب أن يدفع فاتورة العلاج، فقال الطبيب: لدينا قانون عام في الدولة أن علاج الأطفال مجاناً، سواءً كان الطفل من عائلة ميسورة الحال أو فقيرة! ألا يحق لنا أن نعد هذا "القانون العام" أعظم أجراً من آلاف الجمعيات الخيرية التي تهتم بعلاج المرضى؟ متى سننظر لذلك "القانون العام" على أنه هو جوهر الإسلام وغايته الأسمى - وهذا لا ينفي دور الجمعيات الخيرية أبداً
الخوف أن يكون الفقر والحاجة في مجتمعاتنا ضرورة لا بد منها حتى نحافظ على مظهرنا الملائكي، هذا المظهر الذي ومن أجل الحفاظ عليه لا نريد إيجاد حلولاً جذرية لحاجات الناس! لتأتي موائد الإفطار الرمضانية كمحاولة لذر الرماد فقط.. الخوف أن يُنظر للفقر والحاجة والجوع والآلام التي يعاني منها أفراد في المجتمع على أنها وسيلة يمتطيها آخرون لممارسة تدينهم وعطفهم ورحمتهم، وسيلة تقربهم إلى النعيم درجة على حساب آلام الآخرين.. وأرجو ألا يُفهم أنني أحاول الانتقاص من شعائر الصدقة وإطعام المساكين – لاسمح الله - فهذا ما لا يقول به مسلم، بل كلنا ندعو للمُحسِنين بخير الجزاء ونرجو الله أن يتقبل منهم، لكنني أقول بأن الخلل ليس في إحسان الفرد إنما في عدم جدوى إحسانه – اجتماعياً - طالما كان الفساد في مجتمعاتنا مؤسساتيا، هذا الفساد الذي يُحوِل إحسان الفرد إلى تهريج "اجتماعي"! بل نستطيع أن نقول ومن خلال قراءة للنهج الذي تسير عليه أعمال الخير الرمضانية أننا قد فصلنا تماماً بين الدور الاجتماعي للإسلام والدور الفردي، وليتنا اكتفينا بالفصل فقط إنما جعلنا الدورالفردي في المرتبة الرئيسة وهمشنا الدور الاجتماعي تماماً، لذا لم يعد يوجد توافق وانسجام ومساواة بين أفراد المجتمع على الرغم من حرص الكثيرين منهم على أداء أعمال الخير "وهم صادقون"!
وعندما نتحدث عن الدور الاجتماعي للإسلام فلا بد من أن نلتفت إلى المجتمعات الغربية لإيصال الفكرة، حيث نجد تلك المؤسسات قد حملت على عاتقها مسؤولية تطوير مجتمعاتها فكرياً وعلمياً وثقافياً، بالإضافة إلى تقديم الدعم المادي والمعنوي، ونحن مطالبون بإعادة الدور الاجتماعي للإسلام إلى مكانته، حتى يتحصل الفرد على "حياة كريمة" بشكل يليق به بعيداً عن موائد الإفطار وانتظار إحسان المُحسنين كل رمضان. وربما تكون عملية تفعيل الدور الاجتماعي للإسلام هي السر الذي جعل المُحسِن يدور بصدقته في شوارع دولة "عمر بن عبدالعزيز" فلا يجد من يأخذها، وكان يُشترى بفائض المال قمح ليُنثر على رؤوس الجبال حتى لا يُقال: جاع طير في بلاد المسلمين!! لا أن يُقال: ها نحن نُطعِم الجائعين 

كلنا إخوان


على مدار عام كامل عشنا وعاشت مصر فصولا مسرحية هزلية، ضحكنا خلالها قليلاً وتألمنا معظم الوقت.. ثم أخذت المسرحية تكتسب صفة السوداوية حين احمرّت وجوه الممثلين من الغضب بسبب ضحكات الجمهور، ولم يُدرك الجمهور أن سبب هذا الغضب هو ألا أحد فوق خشبة المسرح كان يُمثِل، إنما كان الكل يتصرف على سجيته، وفي المقابل لم يُدرك الممثلون أن الجمهور يجهل هذه الحقيقة.. يستمر الوضع هكذا إلى أن تقطع ضحكات الجمهور صيحات غضب جادة: اصمتوا.. فأنا هنا أمثِل الإسلام! وقبل إسدال الستار يُصدم الجمهور عندما يكتشف أن الهدف من المسرحية لم يكن إضحاكهم إنما الضحك على عقولهم!
في الحقيقة أنا لا أفهم في السياسة ومدلولاتها، فهذا شأن له باحثوه.. ولست هنا للحديث عن مسألة تطويع الدين لخدمة السياسة، وما ينتج عن هذا التطويع من تشويه في كل الاتجاهات، لكن سأتحدث بصفتي أحد الذين حضروا المسرحية الإخوانية على مدار عام كامل، مسرحية شاهدت خلالها عشرات المقاطع والبرامج الإعلامية التي لم تكن تعرض سوى عبارات شتم فاضح وقذف صريح وتخوين واتهام بالعمالة، بالإضافة إلى عمليات تكفير شبه يومية، يرافق كل هذا الكم من الفُحش في القول والفعل، ضعف سياسي وغياب تام للحكمة والحِنكة، وأسوأ ما في الأمر أن يكون عنوان هذه المسرحية الفوضوية بكل معنى الكلمة هو الإسلام!
لكن ومن باب الأمانة، يجب الاعتراف بأن المسرحية الإخوانية لم تعرض مشاهد دخيلة على ثقافتنا العربية - وهذا ما سبب لنا صدمة في الحقيقة - فالمشاهد كلها كانت تعتمد على إبراز التدهور الأخلاقي الذي يسري على كامل الثقافة العربية.. وكعادتنا دائماً حين نُصاب بالصدمات، لا نبحث عن مواضع الخلل لإيجاد الحلول، إنما ننبري شتماً وانتقاصاً لمن يُسلِط الضوء على عيوبنا، ونحن بهذا الأسلوب في التعامل مع عيوبنا ننطلق من مبدأ أفضليتنا الذي عشش داخل ثقافتنا، ولهذا فإن المسألة مسألة وقت فقط حتى تبرز جماعة أخرى لتُعيد عرض نفس المسرحية بنفس المشاهد، مع تغيير طاقم التمثيل والعنوان.
إذاً علينا الاعتراف يا سادة بأن المسرحية الإخوانية ليست إلا انعكاساً للثقافة العربية عموماً، فكلنا لا نُطِيق بعضنا بعضا، ونُمارس إقصاء بعضنا بعضا، تارة باسم الدين، وتارة باسم التنوير، وأخرى لأسباب تاريخية أو جغرافية أو مذهبية أو أي ذرائع أخرى.. نطالب بمحاسبة الآخرين لكننا نتجاهل محاسبة الذات.. نطالب بحرية الرأي لكننا نشترط ألا يخرج أي رأي عن السائد. كلنا إذا ما أردنا الاستنكار على البذيء فنستنكر عليه ببذاءة أشد، ونقابل تكفيره لنا بأن نلقي به أسفل سافلين. ويبلغ سوء ثقافتنا مداه حين نُغلف كل هذا باسم الإسلام.
نعم كلنا إخوان.. ثقافة المؤامرة الإخوانية واتهام الفلول والتيارات الأخرى بالتآمر عليهم ليل نهار، أليست نسخة طبق الأصل من ادعاءاتنا بأن الغرب والمجوس والصهاينة يتآمرون علينا؟ إن جماعة الإخوان لم يفعلوا شيئاً خلال العام الفائت إلا أنهم أظهروا ما هو موجود داخلنا إلى العلن وفي وسائل الإعلام. لست هنا لأدافع عن "الإخوان"، الذين سقطوا منذ توليهم الحُكم وليس عند عزلهم، لكن لأقول إننا في حاجة إلى "تمرد" على ثقافتنا العربية المُثخَنة بالجراح، تمرد ينزع القداسة والحصانة عن أي معتقد أو مذهب أو تيار، أو شخص جلس وتربع داخل دائرة القداسة بكل أقواله وأفعاله. علينا أن نحشر كل ما احتوته ثقافتنا تحت المجهر لنتفحصه بشكل علمي عقلاني مُتجرِد حُر، حينها سنكشف عن العديد من الأساطير والسخافات والجهل المُقدس، وسنكشف تِباعاً عن الكثير من العقول السّادية والنفسيات المشوهة التي تلحفت زوراً بهالات القداسة. يجب أن نستيقظ ونعلم أسباب تدهور ثقافتنا إلى هذا الحد. يجب أن نستفيق من غيبوبتنا ونفتح أعيننا لنرى المقدار المخزي الذى تحتويه ثقافتنا من فوضى وانحطاط، ونتساءل عن الذين زرعوا كل هذا الجهل والنفاق والدجل فينا سواء كانوا أشخاصاً أو ظروفا.
في الأخير.. من يتأمل ما حدث في مصر وعلى اختلاف التفاسير والنظريات سيصل إلى نتيجة قال بها الكثير من العقلاء، نتيجة أن الإخوان بأنفسهم وبكل ما سببوه من فوضى ليسوا إلا نتيجة حتمية الوقوع في ظل هذه الثقافة الغارقة في السوء، نتيجة ستتكرر ربما بضرر أكبر، طالما نحن لا نلوم أنفسنا ونكتفي بإلقاء اللوم على الإخوان. ولنختم بسؤال: من يحق له أن يحاكم إذا كان الكل متهما؟

التغيير ومقاومة التغيير!


هل نحن نعيش اليوم أحداثاً مستحدثة من عدم؟ بمعنى هل ما نمر به اليوم لم يشهد له التاريخ مثيلاً؟ .. حسناً يمكن القول إن كل ما نعيشه من أحداث ليس إلا نسخاً مكررة آلاف المرات من أحداث حدثت منذ القدم وانتهت، وإن كان هنالك اختلاف فهو في الكيفية فقط. أحد تلك الأحداث التي يمكن اعتبارها كقانون اجتماعي يتكرر على الدوام هو "التغيير".. ونحن اليوم في معمعة هذا التغيير شئنا أم أبينا، وطالما سيخلفنا جيل آخر إذاً ستتكرر المسألة وستتبدل ملامحنا بالضرورة، لأن الأبناء لن يُقنِعهم اتباع نهج الآباء .. فلكل زمنٍ احتياجاته.
الشيء الآخر الذي يتكرر أيضاً مع كل عملية تغيير هو "مقاومة التغيير".. تلك المقاومة التي لا تنشأ بسبب المحافظة على السائد، إنما حِفاظاً على ما قد جلبه السائد من مكتسبات جمة لقادة هذه المقاومة ومتزعميها. لكن، وكما حدث على مدى التاريخ وسيحدث اليوم، سينجح التغيير في الأخير، وستندثر كل الحركات المقاومة له.
وإذا كان التغيير دليلاً على صحة المجتمع، على اعتباره يضيف الجديد، مع الانتباه أن الجديد الذي تمت إضافته لن يزيح القديم بالمجمل إنما سيزيح ما لم يعد ملائماً للمتغيرات، أو إنه يُكيِّف القديم حسب المتغيرات دون أن يزيحه، فإن مقاومة التغيير تعتبر دليلاً على تخلف أو داء في المجتمع. لكن هذا لا يعني أن مسألة التغيير تكون سهلة سلسة، إنما هي تحتاج إلى خلق جاهزية في النفوس للانتقال إلى "ما بعد".. تحتاج إلى إعطاء الجميع حق التساؤل والتساؤل الجريء أيضاً. وإعطاء الحق هنا لا يعني السماح بقدر ما يعني أن يكون التساؤل في العلن دون مضايقات، لأن التساؤل إن لم يتم في العلن فسيتم في الخفاء، حينها سيخرج الجديد كصدمة للمجتمع. وأول من ينكسر أمام صدمات المجتمع هم أولئك الرموز الذين ظاهرهم الصلابة على الحق، والتي لا تلين!
إننا عندما نتحدث عن التغيير فحتماً ولابد من العروج على سيرة قائد التغيير محمد رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وعندما نعرج على سيرته ونهجه في التغيير سيطرأ سؤال عفوي: أي ذهب من قاوم التغيير الذي جاء به؟ ما الذي بقي وما الذي اندثر؟ إن أغلب من قاوم النبي – عليه الصلاة والسلام- لم يقاومه خوفاً من الجديد الذي لديه "الإسلام"، إنما خوفاً على ضياع المكتسبات المادية أو الاجتماعية التي جلبها السائد إليه. المفارقة أن الذين يقاومون التغيير اليوم يقاومونه بـ"قال الله وقال الرسول"! أليس من الغريب أن يكون أتباع "قائد التغيير" هم أول المحافظين على السائد؟ وعلى هؤلاء – أسوة بالنبي صلى الله عليه وسلم- أن يسايروا التغيير، أن يغيروا من خطاب النهي والزجر والنظر إلى الجديد أنه حتماً سيؤدي إلى الكفر والإلحاد.. إما هذا أو سيقول التغيير كلمته في الأخير، فإذا ما قال كلمته حتى ذلك الوقت فسيُقال أيضاً إن من قاوم التغيير قد قاومه بـ "قال الله وقال الرسول"

إن خطابات التكفير والزندقة وترهيب من يريد التغيير بالقانون أو بقانون "الدراع" لن تجدي أبداً، بل إن هذا النهج هو الذي سيضفي على التغيير صفة الفوضوية، لأنه سيجعل أجزاءً كثيرة من التغيير تنشأ عِناداً فقط في لغة الترهيب. ومسألة البكاء على المقدسات والثوابت أبداً لن تثني عن التغيير، ولم تعد المطالبات بالعودة إلى الانغلاق محل إنصات أبداً، خصوصاً أننا في عصر التقنية، حيث المعلومة ترد أسرع من الخاطر، والكل يدلي بدلوه بلا حسيب أو رقيب.
وللأمانة فإن هنالك طرفاً آخر يتزعم مقاومة التغيير باستحضار أقوال "ديكارت ونيتشه"، لإيهام الجميع أن الرضا بالسائد أفضل الحلول.. هؤلاء أيضاً يغلفون عملية حفاظهم على مكتسباتهم بغلاف ثقافي عقلاني، لكنهم في الأخير ليسوا أكثر من نسخة رديئة أعمتها مكتسباتها.
إلى كل مقاومي التغيير: قد انفرط العقد، وهذه حقيقة علينا تقبلها بحكمة ووعي، أما محاولة لملمة حباته الآن فهي عملية غير مجدية، لأن الآراء قد تناثرت في كل اتجاه، والأجدى والأهم اليوم أن يجدد مقاومو التغيير من أسلوبهم، أن يكونوا أكثر انفتاحاً على جميع الآراء، أن يتقبلوا الحقيقة التي تؤلمهم بكل رحابة صدر .. حقيقة أن "خطابهم لم يعد هو المتسيد اليوم".. وعلى مقاومي التغيير استيعاب حقيقة أن الشاب اليوم بات يمتلك وعياً وتحضراً وإلماماً بكل الأحداث، ويتطلع إلى المدنية بكل عزم دون أن ينسى أصالته.
هذا الشاب يوجه نقده اليوم إلى الليبرالي، وغداً لن يسلم منه الإسلامي، ليس كرهاً في الاثنين، إنما بحثاً عن التغيير دون أدلجة أو تحزب.. في قاموسه أن لا أحد فوق النقد، والتغيير لا يحتمل المجاملات، ولا قداسة لأحد يؤمن أن السائد ليس أكثر من عادات وأعراف وتقاليد مع الوقت والتكرار أصبحت تخنقه حتى بات أسيراً لما تعود.. هذا هو القيد الأخطر عليه، ولن يكسب ثقة هذا الشاب إلا من يساعده على كسر القيود.