رمضان.. أفكار أخرى للعمل الخيري


بما أننا نعيش هذه الأيام أجواء رمضانية روحانية، حيث تنحو أعمال الخير غالباً إلى البذل والعطاء، فنجد الجميع يحرص على أداء شعائر إسلامية جميلة كالصدقة وإطعام المساكين وغيرها من الأعمال التي تؤكد على حرص الشريعة الإسلامية وتشجيعها لإحياء مفاهيم التآخي والترابط بين أفراد المجتمع ومشاركة الفقراء والمحتاجين.. غير أن هنالك في الإسلام ما هو أسمى من الصدقة وإطعام المساكين، وأسمى من مشاركة الجائعين جوعهم، ذلك المفهوم يعنى بالقضاء على الفقر والجوع في المجتمع قدر المستطاع حتى لا يضطر الفرد في ذلك المجتمع أن يُذِل نفسه لسد حاجته. فأن يكون في المسلمين مليون فاعل خير فهذا لا يعني أننا نُحِب الإحسان بقدر ما يعني أن في المسلمين ملايين الفقراء والمحتاجين، هؤلاء الفقراء والمحتاجون هم في الأخير نتيجة مرة لاستشراء الفساد، فساد أخرج ملايين المحتاجين والجائعين الذين يبحثون عن مُحسن يطعِمهم، مُحسِن مهما أطعم ستظل الأفواه جائعة.
القضاء على الحاجة أهم وأسمى من توزيع الصدقات وإطعام المساكين، لكننا نُركِز على أداء الجانب الشكلي من الإسلام متجاهلين الجانب الروحي منه، لأن الجانب الروحي يحتاج إلى عمل مؤسساتي دؤوب.. يحتاج إلى القضاء على كل أشكال الفساد في المقام الأول، لكن إن لم نكن قادرين على تطبيق روح الإسلام فأضعف الأيمان ألا نتغنى بتمسكنا بالشكليات، لأن خلف إحسان المحُسنين أفواهاً جائعة، على المجتمع أن يمنحها حياةً كريمة، ولأن تكرار وقوفهم كل عام منتظرين إحسان ذلك المُحسِن ليمنحهم بعض المال والطعام فعل غير حضاري ولا إسلامي.
أعمال الخير في رمضان على جماليتها – شكلياً - إلا أنها تُنبىء عن ثقافة "الأنانية" المغروزة فينا، فالكثيرون وإن لم يقصدوا صراحة إلا أنهم لا يُقدِّمون ولا يبذلون إلا بمقابل، سواءً كان المقابل ماديا أو معنويا، متجاهلين أن الغاية الأسمى من أعمال الخير هي تقليص مقدار البؤس والمهانة والحاجة التي يستشعرها الآخرون، الغاية أن يتم انتشالهم مما هم فيه لا أن يمارس عليهم الآخر دور السيد الواهب المُعطي!
أحد أصدقائي سافر بعائلته إلى أوروبا، وبعد وصوله شعر ابنه ذو العشرة أعوام بالمرض، فما كان من أبيه إلا أن أخذه إلى أقرب عيادة خاصة، وبعد الكشف والتحليل ووصف الدواء أراد الأب أن يدفع فاتورة العلاج، فقال الطبيب: لدينا قانون عام في الدولة أن علاج الأطفال مجاناً، سواءً كان الطفل من عائلة ميسورة الحال أو فقيرة! ألا يحق لنا أن نعد هذا "القانون العام" أعظم أجراً من آلاف الجمعيات الخيرية التي تهتم بعلاج المرضى؟ متى سننظر لذلك "القانون العام" على أنه هو جوهر الإسلام وغايته الأسمى - وهذا لا ينفي دور الجمعيات الخيرية أبداً
الخوف أن يكون الفقر والحاجة في مجتمعاتنا ضرورة لا بد منها حتى نحافظ على مظهرنا الملائكي، هذا المظهر الذي ومن أجل الحفاظ عليه لا نريد إيجاد حلولاً جذرية لحاجات الناس! لتأتي موائد الإفطار الرمضانية كمحاولة لذر الرماد فقط.. الخوف أن يُنظر للفقر والحاجة والجوع والآلام التي يعاني منها أفراد في المجتمع على أنها وسيلة يمتطيها آخرون لممارسة تدينهم وعطفهم ورحمتهم، وسيلة تقربهم إلى النعيم درجة على حساب آلام الآخرين.. وأرجو ألا يُفهم أنني أحاول الانتقاص من شعائر الصدقة وإطعام المساكين – لاسمح الله - فهذا ما لا يقول به مسلم، بل كلنا ندعو للمُحسِنين بخير الجزاء ونرجو الله أن يتقبل منهم، لكنني أقول بأن الخلل ليس في إحسان الفرد إنما في عدم جدوى إحسانه – اجتماعياً - طالما كان الفساد في مجتمعاتنا مؤسساتيا، هذا الفساد الذي يُحوِل إحسان الفرد إلى تهريج "اجتماعي"! بل نستطيع أن نقول ومن خلال قراءة للنهج الذي تسير عليه أعمال الخير الرمضانية أننا قد فصلنا تماماً بين الدور الاجتماعي للإسلام والدور الفردي، وليتنا اكتفينا بالفصل فقط إنما جعلنا الدورالفردي في المرتبة الرئيسة وهمشنا الدور الاجتماعي تماماً، لذا لم يعد يوجد توافق وانسجام ومساواة بين أفراد المجتمع على الرغم من حرص الكثيرين منهم على أداء أعمال الخير "وهم صادقون"!
وعندما نتحدث عن الدور الاجتماعي للإسلام فلا بد من أن نلتفت إلى المجتمعات الغربية لإيصال الفكرة، حيث نجد تلك المؤسسات قد حملت على عاتقها مسؤولية تطوير مجتمعاتها فكرياً وعلمياً وثقافياً، بالإضافة إلى تقديم الدعم المادي والمعنوي، ونحن مطالبون بإعادة الدور الاجتماعي للإسلام إلى مكانته، حتى يتحصل الفرد على "حياة كريمة" بشكل يليق به بعيداً عن موائد الإفطار وانتظار إحسان المُحسنين كل رمضان. وربما تكون عملية تفعيل الدور الاجتماعي للإسلام هي السر الذي جعل المُحسِن يدور بصدقته في شوارع دولة "عمر بن عبدالعزيز" فلا يجد من يأخذها، وكان يُشترى بفائض المال قمح ليُنثر على رؤوس الجبال حتى لا يُقال: جاع طير في بلاد المسلمين!! لا أن يُقال: ها نحن نُطعِم الجائعين