من طلب العلا نام الليالي

كم نائم طيلة يومه نال العلا، وساهر للفجر ما نال إلا الأرق، وكم ساهر حُرم طيب الحياة، وآخر غارق في نعيمها وهو في رقاد. إنها أرزاق قد كُتبت من قبل أن يولد الإنسان، أرزاق وُزعت بعدل، فمنها حلال ومنها حرام، وكلاهما في حاجة إلى كد وعمل، ومن الرزق بلاء وابتـلاء، وهذا النـوع في الغـالب ليس في حاجة إلى كد أو عمل!

هذا تاجر قد تحرى الأمانة والصدق حتى وسع الله له في الرزق، وذاك تاجر تحرى الغش والخداع حتى آتاه الله رزقه، لكلا التاجرين رزق، إلا أن رزق الأمين منهما حلال، ورزق الثاني حرام، وإن رزق الحلال في الغالب يأتي مصحوبا بمرارة؛ لأن النفس أمارة بالسوء، ليأتي تحري الحلال معاندة لها، وهي معاندة ترهق الإنسان خلاف مسايرتها؛ طمعا في الرزق الوفير الحرام، إلا أن حلاوة الرزق الحلال تُذهب مرارة الكد، بينما مطاوعة النفس تورد المهالك.

لقد نمت في خيالاتنا فكرة أن العلا لا يُنال إلا بالسهر والجد في العمل، وهذا صحيح لكنه ليس قاعدة، كما نمى في خيالاتنا أن الكسالى يندبون حظهم أبد الدهر ويلعنون الظروف، وهذا أيضا صحيح لكنه ليس قاعدة، وليس هنا استثناءات في القاعدة إنما شروخ.

قد يكون نائل العلا ناله بالوراثة أو بالوصاية، قد كان نائما طيلة حياته، لاهيا بلا مسؤولية، متململا من الراحة، ثم صحا من رقاده ليجد نفسه مهماً، أو يجد في رصيده مالا غير محدود أو معلوم ولا يساءل عنه، وإن هؤلاء موجودون دائما وفي كل زمان ومكان، ولا يحتاج الأمر لنجدهم إلا أن نتلفت حولنا كثيرا، أن نتساءل باستمرار: هل لهذا الشخص تاريخ؟، هل له إسهامات أهّلته لهذا المنصب؟، أين درس وتتلمذ واكتسب الخبرات؟، وهل تدرج في المناصب؟. هل لهذا المليونير تاريخ هو الآخر؟، هل بدأ من الصفر؟، هل يمتلك تجارة رائجة في البلاد أو مصانع أو شركات، وإن كان فهل أرباحه تؤهله لامتلاك هذه المليارات؟، والكثير من الأسئلة التي إن ولدت استفهامات أكثر من إجابات، فحينها نكون أمام حالة قد نال صاحبها العلا وهو يغط في نوم عميق.

إن المال رزق، والمنصب رزق، إلا أن المال والمنصب حين يتم الحصول عليهما بلا عمل أو بأعمال ملتوية كلها غش وخداع؛ فإنها كثيرا ما تحرم الإنسان من الرزق بمعناه الأوسع، تحرمه من رزق الطاعة والطمأنينة والحكمة، وقد يفقد هذا الإنسان رزق الأولاد البررة والزوجة الصالحة والحياة المطمئنة، وإن ظن أن الله لم يحرمه من شيء، فليسأل الناس حوله، حتما سيجد أنه قد حُرم رزق السمعة العطرة الحسنة، وإن مدحه المنافقون ومجده المتزلفون، فلينظر في المرآة.

إن الأثر الذي يتركه نائل العلا بلا عمل ـ بتوصية أو بالوراثة ـ لا يقل، بل ربما يفوق ذلك الأثر الذي يتركه متحري الرزق بالحرام، فالأمهات يدعون، والأبناء يجتهدون ويسهرون، ثم حين يجدون شخصا قد نال العلا بلا مقدمات، سيبدأ الناس في الشك من جدوى الدعوات، وتقزيم فائدة الجد والسهر، وإن كان في استطاعة الآباء حث أبنائهم على عدم التأثر بطالبي الرزق الحرام، فإنه ليس باستطاعتهم حث أبنائهم على عدم التأثر بنائلي العلا وهم نيام، سيتأثر الأبناء ويتملكهم السخط.

إن في هذا النهـج ضمان تدمير للمجتمع، فهو اغتصاب فج لحقوق الأكفاء والمجتهدين، كما فيه تحطيم لمفاهيم الجد والعمل والاجتهاد، وبالتالي انتشار لمفاهيم مدمرة، منها كفر الناس بجدوى العمل والإخلاص. سيختفي الضمير لتبرز الأنانية، والآثار الناتجة في المجتمـع؛ بسبب إجهاض أحلام الأكفاء التي لا تعد ولا تحصى.

إضافة إلى أن رغبة هؤلاء المتنعمين النائمين في الحفاظ على ما لديهم ستتلاشى فور امتلاك ما بين أيديهم؛ لأنهم في الأساس لم يكتسبوه عن جدارة، ولم يشعروا بلذة الكسب وبذل الجهد الذاتي، ومن لم يشعر بلذة الكسـب يلذّ بالتبذير والتباهي بالإسراف على سفاسف الأمور، سينتهج في الحياة نهجا يولد في نفوس الآخرين الحقد والكراهية تجاهه، سيستفزهم بقصد أو بلا قصد، وسيولد في نفوسهم الحقد والكراهية، سيعتقد أنهم يحسدونه على ما هو فيه، دون أن يدرك أن ما هو فيه لم يحصل عليه بجدارته.

سأخبر الله بكل شيء


إن السائر في طريق التطرف لا يشعر في نفسه بحاجة إلى مراجعة أفكاره ومواقفه وأساليبه في التعامل مع الآخرين، لا يشعر بتأنيب الضمير أو ندم أو حتى حرج، وهنا تكمن خطورة الأمر.

إن المتطرف لا يشعر بتأنيب الضمير؛ لأنه في الغالب يتطرف لتحقيق خير متوهم، لا من أجل ارتكاب شر، يصور له الشيطان أن تطرفه حفاظ على الفضيلة أو مكارم الأخلاق أو حفاظ على صفاء العقيدة أو تطبيق لصحيح الإيمان، وحين يؤمن بهذا، فإنه سيقتنع تباعا بأنه يسير على طريق العز والكرامة والمجد، وأن نهايته حتما إلى أعلى درجات الجنان والفوز العظيم، ومن كان يضع نصب عينيه هذا التصور المسبق، فقد أوجد لنفسه المبررات كافة، التي تجيز له الكذب والخداع والتجسس على الآخرين، والتشهير بهم وتهديدهم وقتلهم حرقا وسلخا وصلبا إن لزم الأمر، سينام المتطرف بعد كل هذا وهو مرتاح الضمير هانئ البال، كيف لا وهو ما أفسد إلا لإحقاق حق حين آثر الجميع الركون إلى الضلال!.

إن من يزني أو يسرق أو يشهد زورا، يعلم أنه يرتكب خطأ، وأن الناس ستعاقبه إن فضحوا أمره، لهذا يعمل في الظلام بعيدا عن الأعين، يحيط نفسه بالكثير من الحذر والتستر والكتمان الشديد، بينما المتطرف الذي افتقد إلى الإحساس بالخطأ، لن يلجأ إلى الحيطة والحذر والتستر، بل سيعمل تحت ضوء الشمس وأمام الملأ، مبتسما مزهوا متفاخرا تعلوه طمأنينة وأريحية خادعة.

هذا المظهر مخادع؛ لأن الآخرين سيغترون به وسيسيرون معه على نفس الطريق وهم يرددون: طالما ينام مرتاح الضمير، يؤدي فرضه ويذكر ربه مبتسما مستغفرا، فلا ريب أنه على صواب.

عموما، إن من يقرأ تاريخ الإسلام سيجد نفسه أمام نسختين متقابلتين على الدوام، سيجد أمام كل حالة إبداع لشخصية إسلامية هنالك حالة تطرف نجحت في قمع هذا المبدع، سيجد أمام كل شخص يفكر هنالك مجموعة تكفر، سيجد ألف سيف يُرفع في وجه كل قلم.

الكثير جدا من الدماء تمت إراقتها بدعوى الحفاظ على الفضيلة وصحيح العقيدة ومكارم الأخلاق، دماء أزهقها جهال يمتلكون الكثير من الأسلحة والصراخ، المظاهر عندهم أساس وكل أساساتهم خاوية، هؤلاء الذين تصدروا المشهد كثيرا قد أراقوا دماء لو لم تُرَق لما انحدرنا إلى هذا الغثاء.

تم تقطيع جسد "عثمان بن عفان" بشكل شنيع. وضُرب "علي بن أبي طالب" على رأسه بسيف مسموم. وتم نفي "ابن رشد" حتى مات في منفاه بعد أن صدرت بحقه فتوى بالزندقة. وتُحرق كتب "الأندلسي" ويُطارد حتى لجأ إلى قرية نائية ومات فيها مقهورا. ويموت "ابن المفقع" محروقا. ويُسلخ "الحلاج" ثم يُقطع ويُحرق وهو مصلوب!. وكثيرا ما شارف "ابن حنبل" على الموت من شدة الضرب. ويموت "السهرودي" خنقا. ويُطارد "سعيد الحَمَّار" بالسكاكين والمطارق في الطرقات. وتم الحكم على "ابن مسرة" بالشنق والحرق والصلب. و"الإسباني" يهرب إلى قرطبة خوفا من تنفيذ حكم السلخ الصادر بحقه. ويموت "ابن تيمية" وهو يكتب بالفحم على جدران سجنه. ويموت "أبو حنيفة" مسموما. و"سعيد بن جبير" مات منحورا. و"التلمساني" مات محروقا. وقاتل "فرج فودة" لم يقرأ له كلمة لكنه تقدم لقتله طاعة لله كما يعتقد!.

إن كل هذا التطرف لم ينشأ رغبة في القتل، ولا من أجل الاستمتاع بمناظر الدماء، إنهم لم يقتلوا ويسلخوا ويحرقوا من أجل المتعة أو السرقة أو أكل لحم الضحية كما يفعل السفاحون، إن الاختلاف هنا هو اختلاف في الغايات والأهداف، غايات خادعة مخادعة ظاهرها طاعة الله والله من هذا براء، وباطنها يرقص له الشيطان فرحا.

وإذا كان التاريخ يئن من فعائل المتطرفين، فإن للحاضر أنينا أشد؛ لأن تطرف اليوم بات يمتلك أسلحة أذكى وأكثر تطورا، بالتالي مستويات جديدة في السادية والوحشية، القتل اليوم ما عاد يستدعي تحديد هدف بعينه، فبالإمكان قتل مجموعة من البشر لمجرد إثبات وجهة نظر! فتاوى تؤيد حمل الشباب الغض لكل أنواع الأسلحة؛ لأن الغاية هنا سامية!، فعائل تفوق خيالات الإنسان السوي، سوداوية قاتمة قد أرغمت طفلا صغيرا أن يردد قبل موته بلحظات: سأخبر الله بكل شيء.

الله أعلم يا صغير، لكنه ـ سبحانه ـ عادل ومن تمام عدله أن يستمع شكواك وتظلمك وكيف حرمك التطرف من حلمك الذي لم يكتمل، وكيف حول المتطرفون معالم الحياة أمامك إلى شيء أشد كآبة من كآبة غابة موحشة لا مكان فيها إلا لوحوش مسعورة تقتات على الدماء، غابة "الأسد" فيها حقير والكل فيها ضباع.

أخبره وهو الأعلم ـ سبحانه ـ كيف تسيد المتطرفون ونام المعتدلون، كيف يتصدر الرويبضة لتحديد المصير، وعن متطرف يحمل السلاح ومتطرف خلف مكتبه الفخم يزيد رصيده كلما حمل أحدهم السلاح، عن متطرف يردد الله أكبر، وعن سياسي يجني أرباح هذا التكبير، أخبره كيف أنهم ينشدون الجنة والحور العين عبر كل الطرق التي تزرع البسمة على وجه شيطان رجيم.