فين أيامك يا موسوليني

 

أما لماذا "موسوليني" فلكي يستقيم عنوان المقال لا أكثر، وقد كنت أنوي كتابة العنوان بـ"رحم الله زمان هتلر" أو "صدام آخر الطغاة المحترمين" .. لكن تجنباً لعدم الترحم على غير المسلمين، وتجنباً لإطلاق صفة محترم على شخصية لا يحبذها الكثيرون، رأيت أن أبني العنوان على "موسوليني".

عموماً القضية ليست قضية عنوان إنما هي قراءة في صورة الاستبداد بين الأمس واليوم.
مثلاً بالأمس كان المستبد فرداً يؤمن بقضية محددة، ومن أجلها يجيش الآخرين ويجندهم، كانت له أفكار ورؤى يعتد بها وقدرات عقلية عالية تمكنه من قيادة الجموع نحو الهاوية، كان قائداً ذا هيبة ومتحدثاً متمكناً وخطيباً مفوهاً، بالإضافة إلى بضع صفات أخرى إن لم يتوفر أغلبها أو كلها فيه، فقد لا ينجح أن يكون هذا القائد المفدى بالروح والدم.
أما اليوم فإن صورة الاستبداد والمستبد تغيرت تماماً، يمكن القول إن صورة المستبد اتجهت اليوم نحو الليونة والبلاهة، هذا لأن مستبد اليوم تحول من قائداً فرداً مهاب إلى مجرد أداة تتحكم به الجماعة وتستخدمه لتحقق مصالحها وأطماعها (جماعة الأغنياء ورجال الأعمال أو الأحزاب أو الطوائف الدينية أو كل هؤلاء) أي أن زعيم اليوم المستبد الطاغية ليس أكثر من خادماً ذليلاً عند قوى أكبر منه، تتحكم به وبخط سير طغيانه واستبداده، هي التي تتحكم به ولا سطوة له عليها.

ما عاد الزعيم الطاغية المستبد قائداً مهاباً لقطيع، إنما بات فرداً في قطيع بلا قائد، تحركهم مجموعة أطماع ودوافع شخصية، وأن يصبح الزعيم المستبد فرداً في القطيع فمنطقياً لن يحتاج إلى تجييش وحشد الآخرين حوله، ويجيشهم حول ماذا إن لم يكن هو ذاته يحمل أي قضية ولا يؤمن بشيء.

إن الاستبداد اليوم بات وظيفة لا أكثر، وظيفة يشغلها من تختاره الجماعة وتراه مناسباً، ومن شروط شغل هذا المنصب أن يكون المرشح محدود الذكاء وفي ملامحه شيء من البلاهة، ولا بأس أن يكون أضحوكة الرأي العام وإن تطلب الأمر أن يخرج على الجمهور بلباس الأراجوز فلا حرج، فأصحاب المصالح والمطامع يريدون شخصاً بهذه الصفات تحديداً كي يسهل عليهم التحكم به وتوجيهه نحو تحقيق المزيد من المكتسبات.

إننا لا نشهد اليوم تراجعاً لمفهوم الاستبداد، كل ما في الأمر أن شروط ومتطلبات الاستبداد قد تغيرت، فمستبد اليوم بلا هيبة ولا رصانة كي لا تلتف الجماهير حوله فيصعب حينها انتزاعه في حال انتفاء الحاجة منه، من الشروط أيضاً ألا يتمتع بأي درجة من درجات الذكاء أو أن يمتلك وعيه الخاص به كي لا يقوده عقله إلى تبني قضية أو هدف قد يتعارض من مصالح الجماعة، كذلك من الشروط ألا يكون للمستبد أي طموح أو رؤى أو توجهات، كل المطلوب منه أن يجلس فقط على كرسي الزعامة ويبدأ في ممارسة النهش الممنهج والمحدد له، يمكن القول إن الجماعة أو الجماعات هنا تنصب خادمها في منصب الزعيم المستبد وتغذي إحساسه بالعظمة والقدسية التي يتخيلها متحققة فيه، وفي المقابل تتحصل هي على كل المكتسبات المادية والاقتصادية والسياسية.

وللوقوف على طبيعة الفرق بين استبداد الأمس واستبداد اليوم، لابد من عقد المقارنات بين مستبد الأمس ومستبد اليوم، بين "هتلر" و"القذافي" مثلاً، أو بين "صدام" و"علي عبدالله صالح"، أو بين "ستالين" و"جونغ أون"، والحديث هنا ليس هو بالبكائية على مستبد الأمس وكأن استبداده كان أجمل، فلا وجود لصفة أجمل هنا فالكل أقبح، إنما الحديث هنا عن الفروقات بين استبداد زمانين مختلفين، بين استبداد الماضي والحاضر.
في الماضي كان "هتلر" يلقي الخطبة فيجيش بها الجموع ويبث فيهم الحماس، بينما في الحاضر لا يستطيع المستبد أن ينطق جملة واحدة مفيدة ومترابطة.
في الماضي أسس "عبد الناصر" حركة جماهيرية لا تزال تحمل اسمه، بينما في الحاضر لا يملك المستبد ما يؤثر به حتى على زوجته وأبنائه.
في الماضي كانت لـ"صدام" شخصية وهيبة، بينما مستبد اليوم تطغى على شخصيته ملامح البلاهة والبلادة.
من خلال هذه المقارنات يمكن القول إن الاستبداد بالأمس كان وسيلة لتحقيق غاية عظمى يؤمن بها المستبد، بينما استبداد اليوم ليس إلا وظيفة روتينية يشغلها موظف لا يحمل أي طموح.

عموماً، الاستبداد في كل زمان ومكان يعتبر خلل وجرماً لا يغتفر، كما ويعبر عن وجود مرض أو عدة أمراض نفسية في المستبد، وهو أيضاً دلالة انهيار تام لكل القيم الأخلاقية في شخص المستبد وفي الداعمين له والمستفيدين منه، أن يكون المستبد ذا هيبة وعقلية فذة، أو أن يكون ذا بلاهة وبه مساً من الجنون، أن يكون خطيباً مفوهاً أو ألا يحسن نطق جملة مترابطة، أن يحمل هم قضية ويؤمن بها أو أن يكون ألعوبة بيد الآخرين، في كل الحالات وكل الأزمنة ينتهي الاستبداد دوماً بالهزيمة والسقوط والمهانة.
في المحصلة فإن شخصية كـ"هتلر" رغم إيمانه بقضية ورغم تحوله لمصاص دماء لأجل القضية مات في ذل ولم تنتصر قضيته، و"بشار" هذا الألعوبة والذي حوله المتحكمون به لمصاص دماء سينتهي به المطاف إلى الذل والانكسار، كذلك قوة الشخصية لم تمنع "صدام" من الجرجرة في دهاليز المحاكم لينتهي به المطاف إلى حبل المشنقة، وملامح البلاهة لن تمنع "علي عبدالله صالح" أن يجر في دهاليز المحاكم أيضاً.

كل هذا يقود إلى حقيقة واحدة مفادها، أن الاستبداد مهما تعددت ملامحه وأساليبه فنهايته الهزيمة والذل والمهانة.

هذا ما جناه العسكر

 

عندما تتقدم راقصة للدفاع عن الوطن فلن يتحقق أي نصر مهما كانت ممشوقة القوام ورقصها بديع، وعندما يتقدم للحفاظ على أمن الوطن والمواطن مطرباً فستعم الفوضى مهما كان صوته شجياً يجلب السرور، هذا لأن أدواراً كخوض المعارك وحماية الحدود والحفاظ على الأمن ليست أدوار ومهام المطربين والمطربات أو حتى الأطباء والوزراء أو المفكرين ورجال الدين، إنها مهمة الجنود في المقام الأول ليأتي البقية كخطوط ثانوية مساندة، وفي الحقيقة لا فرق بين قيادة جيش بالطبل والمزمار وهز الوسط وبين قيادة البلاد بعقلية العسكر، وهنا الإشكالية التي وقع فيها العرب حتى انتهى بهم الأمر لكل هذه الفوضى التي نعيشها اليوم والمسماة بـ (الربيع العربي).

السبب الرئيسي والأهم، والدافع الأكبر وراء خروج الجماهير لتثور على أنظمتها هو أن العسكر تركوا المهمة السامية الشريفة المتمثلة بالدفاع عن الوطن وحماية أمنه والحفاظ على راحة المواطن وتفرغوا تماماً للسيطرة والحكم وتسيير شئون البلاد والعباد، أنهم نقلوا عدتهم وعتادهم وعقلياتهم بكل ما تحمله من صرامة وإنضباط وطاعة للأوامر بلا نقاش لساحة الحياة المدنية، وراحوا يديرون البلاد كما تتم إدارة ثكنة عسكرية، يخططون لبناء الوطن بعقلية التخطيط لمعركة، وعقيدة العسكر مبنية على القوة ولا معنى للقوة ما لم يكن الآخر في حالة ضعف، والشعب هنا هو هذا الضعف الذي يعطي للقوة العسكرية معنى، والتربية العسكرية ترتكز على وجوب الحماية، حماية القضية ككل من خلال حماية الحيز المكاني الصغير الذي يشغله الجندي، والجندي على سدة الحكم يشغل الكرسي، إذاً فحماية هذا الحيز المكاني الصغير هي قضيته الأسمى وإن لزم الأمر حرق الوطن بمن فيه.

الإشكالية ليست في العسكر أو في ثقافتهم أو في الاسلوب الصارم الذي تفرضه الحياة العسكرية، الإشكالية حين ينتقل العسكر من الثكنات إلى الوزارات، من أرض المعركة إلى قصر الحكم، الإشكالية حين يتم هذا الإنتقال من واقع الحياة العسكرية الذي تحكمه قوانينه وقواعده الصارمة والواضحة جداً إلى واقع الحياة المدنية الرحب والمراوغ، دون أن يصاحب هذا الإنتقال أي تغيير في العقليات.

إن للحياة المدنية والحياة العسكرية واقعان منفصلان ولا يمكن إخضاع أحدهما لقوانين الآخر، لكن هذا ما حدث وأدى لكل هذه الفوضى التي يعيشها العرب اليوم، وهذه نتيجة منطقية لعقلية لم تتقبل حقيقة أن الحياة المدنية شيئاً مختلف تماماً عن الحياة العسكرية، فراحت تتعامل مع الوطن ككل أنه مجرد ثكنة عسكرية لا يحق فيها للمواطن إلا تنفيذ الأوامر دون أي نقاش أو إعتراض.

في الحياة العسكرية لا وجود لحلول تفاوضية إنما لابد من شل حركة الخصم أولاً وضرب نقاط قوته بكل قسوة ومن ثم يبدأ التفاوض معه والإستماع إليه إن لزم الأمر، وهذه القاعدة متى ما تم تطبيقها في الحياة المدنية ستغيب الطمأنينة وراحة البال ويبدأ القلق، العقلية العسكرية تنظر لكل درجات الإعتراض أنها جناية وخطيئة تستوجب العقوبة الفورية، المنطق العسكري لا يوجد فيه حق تقرير المصير إنما توجيه القرار من الأعلى للأدنى، وعندما تتولى قيادة عسكرية زمام الدولة المدنية بهذا المنطق الجلف الصارم فسيتم التعامل مع كل أشكال التدافع في المجتمع المدني وكأنه صراع عسكري لابد فيه من الحسم وتكسير العظام بكل قسوة، وربما ينتهي الأمر عند هذا الحد!.

لن تستوعب العقلية العسكرية كيف أن التدافع والتنافس وكل هذه التناقضات والإعتراضات والإنتقادات والنقاشات والإختلافات في الرؤى والتوجهات هي المحرك في الحياة المدنية، وأن تقديم التنازلات في الحياة المدنية وكل هذه المراوغات والإحتيالات تدفع للمزيد من التقدم والنمو بينما التنازلات في الحياة العسكرية لا تضمن سوى الهزيمة، وهذا منطق لا يستوعبه العقل العسكري المبني على الحسم وتحقيق النصر بقوة وبضربة قاضية لا بالنقاش والجدال والتربيت على الأكتاف.

إن الفوضى والثورات لم تجري في كامل الوطن العربي، إنما فقط في البلاد التي يحكمها العسكر وبعقلية العسكر (تونس، مصر، ليبيا، اليمن، سوريا، والعراق من قبل) وهذه البلاد تحديداً هي ما ينتشر فيها الفساد والركود الاقتصادي وسوء الأحوال المعيشية والتعليمية والصحية بشكل يدعوا للرثاء -وهذا ما جناه العسكر- .

يمارس القائد السياسي العسكري جبروته على الداخل وهو يشحذ ويستجدي من الخارج، يحكم قبضته على الداخل ويتعرض خارجياً للهزائم من كل إتجاه، ثم يعوض إحساس الإهانة بالهزيمة خارجياً بأن يزيد من تضييق الخناق على الداخل بكل وسيلة ممكنة، إنها سياسة التواجد وفرض الذات بنشر القلق قدر المستطاع، كلما كان المواطن خائفاً قلِقاً كلما شعر العسكر أن لوجودهم معنى، والخوف من عودة حالة القلق هذه هو تحديداً ما دفع بالشعب التركي أن يخرج لضرب الثوار العسكر بالأحذية، فقائد مدني لا ترضى عنه الأغلبية خيرٌ من قائد عسكري يؤيده 99,99% وهم كارهون.

الخلاصة، أن المجتمعات لا يمكن لها أن تتقدم أبداً ما لم تضبط العلاقات العسكرية المدنية، ما لم تضع قواعد وأنظمة وقوانين تضمن تحقيق التناغم ما بين مؤسسات الدولة وعدم تداخل المهام بينها، لا يمكن ان يتحقق أي تقدم ابداً طالما يتحكم في البلاد أناس يستوحشون من الحياة المدنية.


حالنا بعد تنظيم عمل الهيئة



الإنسان لا يستطيع أن يرسم لوحة على الهواء، أو أن يصنع من الماء طوب بناء، لا يستطيع أن يقبض على الظل، أو أن ينحت في الفراغ، والحديث بهذه الكيفية يُعد ضرباً من الجنون، لكن الغريب في هذا الإنسان الغير قادر على فعل أياً مما سبق، أنه قادر وبكل جدارة على بناء نظام اجتماعي متكامل على الخيال وحده!.

أن يظن أولاً ويخمن ثم يبني على ظنونه تلك بضع فرضيات ويجادل حولها، وبالجدال تتحول الفرضيات شيئاً فشيئاً إلى قناعات راسخة وعقائد ثابتة لا تقبل التشكيك بأي حال، ثم وعلى هذه العقائد والقناعات يباشر المجتمع بترتيب وتنظيم أموره الحياتية المختلفة، ولا تصبح عملية التشكيك محرمة لقدسية القناعات إنما حفاظاً على النظام الاجتماعي الذي تم بناؤه على الظن والتخمين.

على سبيل التوضيح ..
لنتأمل في منظومة الفرضيات التي كنا بالأمس القريب نحيط بها جهاز (هيئة الأمر بالمعروف)
كيف كنا نردد بشكل شبه يومي مجموعة ظنون وفرضيات حتى ترسخت في الأذهان بصفتها معتقدات لا يجوز حتى التشكيك فيها.
مثلاً، أنه لولا جهاز هيئة الأمر بالمعروف لغرقنا في مستنقع تتآكل فيه القيم والأخلاقيات، ولولاها لأنتهك الناس حدود الله علانية، ولما أمِن الزوج على زوجته ولا الأخ على أخته، ولكانت مهمة الحفاظ على الأعراض شبه مستحيلة، هذا بغض النظر عن الفرضيات الخاصة بالسحرة والمشعوذين، إلخ.. من الفرضيات الهشة التي سيطرت على ثقافة المجتمع بآلية "كثرة الترديد" التي أثبتت جدواها بدلالة إيمان الكثيرين بكل ما كان يقال وكأنه حقٌ بلا جدال.

وفي اللحظة التي تحولت فيها كل هذه الفرضيات والتخيلات إلى حقائق ومعتقدات راسخة كان من الطبيعي أن تتأثر جميع مناحي الحياة داخل المجتمع، أن يتأثر نمط التربية، وطرائق التعليم، وكيفية تنظيم سوق العمل، كذلك الفن والترفيه، وحتى كيفية التواجد في الأماكن العامة، وتتأثر كذلك المجالات الثقافية والفكرية، حيث لا يتم عرض ونشر إلا ما يؤكد على صحة ما وضعناه من فرضيات وتخيلات!.

إن كل الفرضيات والأوهام التي أحطناها بجهاز (هيئة الأمر بالمعروف) لم تكن تتطلب علماً ولا تحتاج إلى تثبت ودراية، كل المطلوب فقط هو القليل من القدرة على التخيل ثم تصدير ما يجود به الخيال إلى ثقافة المجتمع، وحشر عقول الأفراد بكل الترهات الناتجة عبر آلية الترديد المستمر والاستمرار في الترديد بمناسبة وبدون مناسبة.

لقد آمن الكثيرون بكل ما كان يقال، وهذا الإيمان هو كل المطلوب حتى تتم إعادة تشكيل ملامح المجتمع بكل ما فيه من أنماط وأنظمة، حتى جاء القرار بتنظيم عمل ودور الهيئة، وألتزم العاملون والمحتسبون عملياً ببنود القرار، وابتعدوا عن خطوط التماس.
حينها حدث ما خالف كل التوقعات، لم تخلع المرأة حجابها، لم يقف الشباب في طوابير للتحرش، والسحرة لم يستخرجوا لهم تصاريح مزاولة مهنة، والمحلات لا تزال تغلق أبوابها فور سماع الأذان .. هذا كل ما حدث، أي أنه لم يحدث أمراً واحداً مما كنا نؤمن بأنه حتماً سيحدث !. وربما الشيء الوحيد الذي حدث هو الصدمة التي أصيب بها من كان يتأمل حدوث ما لا تحمد عقباه، صدمة سببها إكتشاف حقيقة أن أعز القناعات وأرسخها ليست أكثر من أوهام.

إن حالنا بعد تنظيم دور الهيئة لم ينحدر إلى الرجس والفجور، وأيضا لم يرتق للنقاء والملائكية، لا تزال في المجتمع مظاهر لبعض الانحلال الأخلاقي حاضرة ومشاهدة، كحالات التحرش، والعقوق والخيانات الزوجية، والمخدرات التي يتم تعاطيها والترويج لها، والسحرة والمشعوذين الذين يلجأ لهم ضعاف الإيمان، الكثير من التصرفات اللاأخلاقية لا تزال موجودة في مجتمعنا وفي كل المجتمعات، وكذلك موجودة في الماضي والحاضر وستبقى ببقاء تدافع الخير والشر في المجتمعات الإنسانية. صحيح أن مثل هذه المظاهر تعتبر إشكالية وينبغي التصدي لها باستمرار، لكن الإشكالية الأكبر أن يتم استثمار هذه السلوكيات الشائنة بغرض الإبقاء على المجتمع في حالة من القلق الدائم.

فما الذي حدث بعد تنظيم عمل الهيئة؟.
الذي حدث هو اكتشافنا أننا كنا نتوهم بأننا مجتمع غير طبيعي، نتوهم أن هنالك كارثة مجهولة المعالم تحيط بنا، نتوهم أننا في مجتمع إن لم نخف فيه من شيء ما فعلينا الشعور بالقلق!.
فتم تنظيم عمل الهيئة ولم يحدث ما كنا نخشاه، لم تتحول جدة إلى "لاس فيغاس"، و"بانكوك" لم تحل محل الرياض، وجيزان لم تصبح "باريس"، والمساجد لم تشتك من هجران المصلين، والشاب لا يزال عاقلا رزينا والفتاة لا تزال متمسكة بحيائها.
ومرة أخرى، هذا لا يعني أننا اليوم مجتمع ملائكي لكن يعني زوال حالة القلق التي سببها الإيمان بفرضيات هشة، لنكتشف اليوم أننا مجتمع برغم كل مشاكله، لا يزال مجتمعاً طبيعياً ويحق للفرد فيه أن يرتاح من اعتناق الوهم.


الفن رفيق الإيمان

 


تبدأ الحكاية مع خوض الإنسان لرحلة الانتقال من البدائية إلى التحضر (مع التنويه أن البدائية لا تعني بالضرورة بهيمية كما يصورها التطوريون، إنما تعني إنساناً ذا بُعداً واحداً، أنه مادة لا أكثر، يعمل ويزرع ويمتلك لغة ونظاماً اجتماعياً شأنه شأن النمل والنحل، أي أن الغاية من كل أفعاله هي البقاء والحفاظ على النوع لا أكثر، فتحضر الإنسان حين تم تفعيل بعده الروحي، فبدأ حينها يبحث عما يُشبِع روحه بتزيين ما يصنع وتنظيم طرق الزرع والبحث عن المعنى والغاية خارج حدود الأرض، تحضر حين أدرك أنه ليس جسدا بلا نفس، أو رغبة بلا عقل، أو مادة بلا روح، تحضر حين رفع رأسه للسماء.

الإنسان البدائي صنع الأدوات، والأدوات في الحالة البدائية تفي بالغرض، لكن في حالة التحضر قام الإنسان بتزيين الأدوات وتجميلها.

السكن في الحالة البدائية يحمي من الوحوش والكوارث في الخارج، لكن في حالة التحضر لا بد من تجميل السكن بالألوان والرسومات.

الإنسان البدائي صياداً ممتازاً يترصد ويباغت وينصب الكمائن، فتحضر حين أضاف للصيد طقوسا لا علاقة لها أبدا بالغاية من الصيد، كالدعاء والصلاة قبل الصيد والرقص والغناء بعد الصيد.

من هذه البدايات أخذ الفن والإيمان يشاركان الإنسان رحلة الإنتقال من البدائية إلى التحضر.

وكأنه أصبح إنسانا حين أدرك أنه نبتة الأرض وسقيا السماء، يقرأ الآية ويلحن فيها، يبني المعبد ويزخرفه، يُذنِب فيستغفر، ينكب على الأرض ليعمل ويرفع رأسه للسماء ليدعوا، يبحث بطريقة علمية عن علل الأحداث في الطبيعة ثم يُجمِل النتيجة بـ"يا الله".

إنه إنسان لأنه جمع العمل بالإيمان بالفن في كل تصرفاته، وكما يجوع إن لم يأكل فسيشعر بالفراغ إن لم يؤمن وسيشعر بالتوحش إن لم يتذوق الفن، لهذا يخشع لقراءة آية ويتمايل لسماع صوتاً جميل، فإذا مر على بيت شعر يهيم فيه ومعه، هذا لأن الروح تشعر بالراحة أمام الآية والعزف والشعر والغناء، كما يشعر الجسد براحة ما بعد الأكل.

صاحب التفكير المادي لا يملك تفسيرا منطقيا لمفاهيماً متعددة، كالفن والإيمان والضمير مثلاً، كون هذه المفاهيم خارج حدود المادية التي يؤمن بها، كذلك المتدين الذي ينظر للجزء المادي في الإنسان أنه مسكن الشيطان، فهو لا يملك إلا تفاسيراً مشوهة للكثير من المفاهيم، يتعامل مع الفن أنه ابن الإيمان وعليه ألا يخرج عن طاعته وإلا سيعد قبحاً وانحطاط، والحقيقة أن الإيمان شأنه شأن بقية المفاهيم الماورائية التي تخدم الروح، لا هيمنة هنا لمفهوم على آخر، ولا حاجة لإخضاع مفهوم لمعايير الآخر، صحيح أن الإيمان أعلى مقاما من الفن، لكن الصحيح أيضا أن الإنسان في شهوره الأولى يتفاعل أولاً مع الفن، يتراقص لمقطع موسيقي ولا يبكي تأثراً بسماع آية!.

عموما، المادي يصور الإنسان أنه مادة فقط، وبالتالي فمهمته الوحيدة هي الالتصاق بالأرض، والمتدين يصور أن أي التصاق للإنسان بهذه الأرض يُعد رذيلة تستدعي التوبة.

المادي يصور الصلاة أنها ترف لا يحتاجه الإنسان، والمتدين يرى الغناء أنه غثاء لا يفيد الإنسان.

المادي يصور الدعاء أنه بدائية، والمتدين يصور الرقص أنه بهيمية.

المادي يصف الإيمان بالخلل، والمتدين يصف الفن بالعفن.

هذا يريد دفن الإنسان في الأرض، وذاك يسعى لنفيه إلى السماء.

هذا يريد إعادته لبدائية لم تعد تمثله، وذاك يريد ترحيله لملائكية لم يخلق لها.

كل طرف يريد احتكار الإنسان لنفسه، كل طرف يلمع معاييره ويصف معايير الآخر بأنها تشوهات.

وفي مجتمعي، على الفنان دوما أن يقوم بإخضاع فنه لمعايير المتدين، سواء كان هذا الفن رسماً أو عزفاً أو غناء، إما أن يُخضِع فنه لمعايير التدين وإلا سيوصف ما يقدمه بالمجون والفسق والانحطاط، ومعايير التدين في مجتمعي بسيطة سهلة ومباشرة، أن يتم استبدال آلات العزف بزقزقة العصافير وهدير الماء والكثير جدا من الآهات، ومن يضطر أن يرسم ذوات أرواح؛ فعليه بقطع الرقاب لتجنب الوقوع في الشبهات، ومن التقوى أن يتم الاكتفاء برسم الأشجار والأحجار والبحار .. إلخ من المعايير البسيطة والغارقة في الجهل بالفن.

المسألة مسألة معايير إذاً ولا أكثر، معايير إن لم يخضع لها الفن فهو لهواً وعبث ومجون، معايير لم تكن لتوجد لولا الاعتقاد الخاطئ بأن مهمة الإنسان على الأرض أن يعيش متأهباً للعالم الآخر، زاهداً في الدنيا، لا لهو ولا لعب إلا وفق الشروط، شروط لم تأت بها نصوص قطعية إنما اجتهادات بشرية تخضع لثقافة الإنسان!

وهكذا، يضيع مفهوم أن الفن هِبة من هبات الرحمن للإنسانية، كالإيمان، كالأخلاق، كالضمير، ككل شيء لا نفهم طبيعته إلا أننا نفهم به معنى قوله تعالى [فإني قريب].

الخلاصة أن المجتمع الذي تنتشر بين أفراده عقيدة "كراهية الفن" فلن يختفي الفن فيه، إنما ببساطة سيتحول إلى "رجيع فن"، حيث الأصوات كلها نشاز يُطرب لها المستمع بالإكراه، حيث الأنغام تتفاوت ما بين آهاتٍ ونواح، حيث تكسير آلات العزف عبادة وجهاد، حيث الفنان يُشتم تقربا لله.


في عقيدة "كراهية الفن" توصف الآلات الموسيقية بمزامير الشيطان، ويتم ربط سقوط الأندلس بفن "زرياب"، ويتم الحط من مكانة العالم الجليل إن أنصت لصوت "أم كلثوم"، ويقسم الناظرون بأن سقوط "طلال مداح" على خشبة المسرح نكسة وسوء منقلب .. والكثير من الفرضيات التي يتم بناؤها على الظن ثم يتم تنصيبها كعقائد لا تقبل الجدل، فرضيات جعلتنا نربط الفن بالرذيلة التي تستدعي التوبة والأوبة قبل أن يموت الإنسان بصفته فنانا فيعذبه الله بجريرة إمتاع الجمهور.

أخلاقيات التقشف

 

التقشف مُر، ثقيل على النفس، لا يستساغ، وهذه بالضبط هي صفات العلاج، وآلام العلاج وأعراضه بمثابة الضريبة التي لا بد من دفعها كي يتحقق الشفاء، ولا خيارات متعددة هنا إلا الصبر والصبر فقط، فهو أولى خطوات الشفاء، وكما قال الشاعر: إللي به العلة، على المرّ مغصوب.

لكن، هل التقشف هو العلاج الصحيح دائماً، ولكل مجتمع يعاني؟
وإن تم فرض هذا العلاج المُر، ألا توجد طرق للتخفيف من مرارته؟
وهل يصح أن يصرف الطبيب علاجاً لمريض دون أن يكشف عليه؟
بصيغة أخرى، هل تم الكشف على المجتمع كشفاً دقيقاً إلى أن عُرفت مواطن الخلل فيه، ثم تم صرف العلاج المناسب؟، أم إن التوصية بالتقشف جاءت لأنها نجحت مع مجتمع آخر؟، وأين ذلك المجتمع الذي نجح التقشف في حل مشكلاته؟

أسئلة كثيرة يحق للمريض أن يطرحها، فهو المريض وهو من به علة، وهو من عليه تحمل آلام العلاج ومرارة الدواء، فجدال المجتمع في حال التقشف كتململ المريض من مرارة الدواء، وليس الحل في لجم المريض وإسكاته، إنما في تقبل كل هذا التململ والنقد والنظر إليه على أنه أمرٌ طارئ سيزول بزوال فترة العلاج.

ومما يؤسف له، أن يتقدم خطاب الوعظ الديني في زمن التقشف والهبوط الاقتصادي، ويبادر لإسكات ولجم الأفواه حتى عن طرح الأسئلة، يلجمها ترهيبا وتخويفا وتذكيرا بحال الأمم من حولنا، ثم يسلط الضوء على بضع ذنوبٍ منتقاة بعناية، كالإسراف والتبذير، مع تجاهل متعمد للذنوب العظمى والتي تعتبر أس البلاء.

صحيحٌ أن الوقاية خيرٌ من العلاج، لكن طالما الداء قد حل والعلاج قد بدأ، فمن المخجل أن يتم ترهيب المريض صباح مساء ولومه على هذا المرض. إن هذا النوع من الوعظ بمثابة داءٌ آخر لا بد من إيجاد العلاج المناسب له.
علاجاً لدعاة يتقدمون -إحتسابا- لمدح الزهد في زمن التقشف، يشككون –لوجه الله- في انتماء كل منتقد، يربطون الصبر بالسكوت والرضوخ، ثم يربطون السكوت بالجنة. يتركون الأسباب الرئيسية والمباشرة كانخفاض أسعار النفط مقابل ازدياد ميزانيات الصرف، كتضخم الاستهلاك مع ندرة الإنتاج، يتركون كل هذا ويشيرون بأصابعهم إلى خروف تم ذبحه إكراماً لضيفين!، ولا نقول بأن ذبح الخروف لضيفين فعلٌ صحيح، بل هو إسراف وتبذير، لكن حشر معظم المسببات في فم الخروف دلالة على وجود حالة من الانفصال التام عن الواقع، وما أحوجنا اليوم إلى إعادة إحياء فقه الواقع، كي لا يتشوه الدين أكثر.

عموما، من أراد التفكر في أمر مجتمعاً ما، فعليه من باب التبسيط ولزيادة الإستيعاب، أن يتخيل المجتمع عبارة عن كائن ضخم تحكمه القوانين نفسها التي تحكم الإنسان، غير أنها قوانين تتناسب وحجم المجتمع، الإنسان مثلاً يمرض، وكذلك المجتمع. الإنسان تتغير نفسيته ويكتئب بسبب العلاج، وكذلك المجتمع يعترض وينتقد بسبب الإصلاح، وهكذا.

إلى هنا والحديث عن النصف الفارغ من الكوب، أما الحديث عن النصف الممتلئ منه، فيتضح حين نتأمل حال المريض وكيف أنه -ورغم الأوجاع والآلام- يزيد وعياً بطبيعة الداء ووعياً بأساليب العلاج، كذلك المجتمع، رغم النقد والتململ، إلا أنه يزيد وعياً بطبيعة الداء الذي أوصله إلى هذه المرحلة، ويزيد وعياً بأنسب الطرق للقضاء على مواطن الخلل.

وجولة في "تويتر" خلال الأيام الماضية تدل بوضوح أن المجتمع بدأ يتعامل مع كل داء أوصله إلى هذا التقشف، الهاشتاقات تنطق وعياً وإلماماً بمواطن الخلل، بـ140 حرفا تجري محاربة شركات هيمنت على السوق لسنين، وحققت فيه أرباحا خيالية بالفهلوة والضحك على الدقون، حتى تخيل الجميع أنها شركات ناجحة فعلا، لنكتشف أنها هشة لدرجة تجعلها تترنح أمام بضعة حروف!، لا لأن الحروف أقوى، ولكن لأن الباطل وإن غدا كالجبال سيسقط أمام وعي ساعة.

إن المجتمع وأمام مرارة التقشف أخذ يبحث عن كل الحلول الممكنة للتخفيف من مرارة الدواء، وهذا هو النصف الممتلئ من الكوب، أن للتقشف أخلاقيات تختلف جذريا عن أخلاقيات الرخاء، في التقشف ترتفع وتيرة الحرص واليقظة وعدم التمرير، بينما في الرخاء فالموضوع تساهيل، في الرخاء تقدم الحكومة كامل الدعم، وإن لم يقدم المدعوم شيئا له قيمة، وفي التقشف لا دعم حكومي إلا بطلوع الروح، في الرخاء يتم غض الطرف من المجتمع عن الكثير من الرزايا، بينما في التقشف يتقعد الجميع للجميع وفي كل مرصد.


هذه هي أخلاقيات التقشف، وعلى كل فهلوي أن يتأقلم مع الوضع الجديد "مع الوعي الجديد"، كأن يعرض بضاعة تستحق العرض ثم يضع لها سعرها الطبيعي، كأن يلتزم بالمعايير وبالحدود المعقولة من النزاهة، وأن يكون الإبداع وسيلته لجذب الزبون لا الفهلوة، فالسوق في زمن التقشف يختلف جذرياً عن السوق في زمن الرخاء، في زمن التقشف لا السوق يرحم ولا المتسوقين الذين تعلموا في الأيام القليلة الماضية كيف يجلدون بـ140 حرفا أعتى المتلاعبين.


ستتولى أمرها



إغلاق الباب في وجه كل جدال بعبارة "لا يجوز" هو فعل لا يجوز، فأمور الناس ستظل بين أخذ ورد، سيخطب الخطباء ليرد الكتاب، وسيفتي الفقهاء ليحاجهم المفكرون، فإذا اتفق الجميع على رأي واحد من بعد عناء، سريعاً سيكبر الأبناء ليعيدوا الشريط من بدايته، وحججهم التي لن تتغير أبداً أن اليوم ليس هو الأمس، وما كان يصلح للآباء سيعافه الأبناء، فإن أجمع السلف فذاك اجتهاد يتم البناء عليه لا الاكتفاء به، وآراء السابقين هي محل استئناس لا تشريع، وما قيل له التقدير لكنه لا ينزل منزلة الحق، إلخ... من الحجج التي لا تعني بالضرورة أنها مروق من الدين أو كره للأولين، إنما تعني أن لكل جيل منظومة أفكار ورؤى لها الأفضلية دوماً كونها تتناسب مع حاضرهم وتلائم الواقع الذي يعيشونه.

حسناً، بالأمس لم يكن أجدادنا يعرفون الراحة والإجازات، كان الواحد منهم يخرج من أذان الفجر إلى غروب الشمس سعيا في طلب الرزق، يخرج في المرض والصحة، في الصيف والشتاء، لا يكاد يهنأ براحة أو يتمتع بإجازة لعلمه أن اليوم الذي لا يخرج فيه سيجوع الأبناء -هذا ما كان سائدا- والسائد لا يعني عدم وجود استثناءات، أما اليوم فإن أخذ الموظف إجازة لشهرين فلن يتأثر دخله ولن يجوع الأبناء، لقد تغيرت معادلة طلب الرزق، والطريق أمام السالكين بات معبداً، والسير ما عاد يتطلب مجهودا جسديا شاقا، الأمر الذي أغرى المرأة بالخروج من بيتها إلى سوق العمل لتشارك الرجل في حمل هذا الهم الثقيل، وبخروجها فوراً تغيرت طبيعة العلاقة بينهما.

ثوب (سي السيد) تم استبداله بالسيادة المشتركة، والمشورة حلت مكان التفرد بالرأي، و(عنتر) لا يكاد يجد ميداناً لا تقاتل فيه (عبلة)، و(قيس) كلما همّ بتقبيل جداراً وجده جدار مدرسة أو مصنع تعمل فيه (ليلى)، والوادي البغيض الذي تبادل فيه (جميل) و (بثينة) الشتائم، أصبح مستشفى يعملان فيه سوية.

كل هذا التغيير يراه البعض انحرافا في طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة، غير أنه في واقع الأمر تصحيحاً للمسار بما يُلائم الحاضر بكل المتغيرات فيه، فشرعاً وقانوناً ليس بينهما أرقى وأدنى، وطلب الرزق ما عاد يتطلب قوة جسدية، إنما قدرات عقلية لجنسين كلاهما متساويان فكرياً، وليس الحديث هنا عن تطابق إنما عن شراكة في بناء المجتمع، وفي الشراكة لا يتم اعتبار الاختلافات الجسدية بين الشريكين سبباً لتقليل الحصص.

لقد فتحت الدولة أبواب سوق العمل أمام المرأة، وحين دخلت للسوق أصبحت ترساً في عجلة الاقتصاد، تساهم في التنمية كما يساهم الرجل، وطالما أصبحت عنصرا اقتصاديا فعالا، ستقول ما تريد وتطالب بما تريد، طالبت بالتعليم فنالت أعلى الشهادات، طالبت بالعمل فوصلت لأرقى المناصب، وغداً ستطالب بكرسي القضاة وستحاكمه على ما يقترف من جنايات، وستطالب بمنصب وزاري ثم ستغدوا صاحبة معالي، وستطالب بالمزيد ولن يجد الرجل إلا أن يصرخ ويزبد ويستدعي كل ما في الموروث من حجج ليثنيها عن هذا الإقدام، وبعد أن ينتهي من صراخه ستطلب منه إنهاء بضع المعاملات لها بصفتها أعلى منه وظيفياً ثم تقود سيارتها لتعود لبيتها، وكل هذا ليس رجماً بالغيب –معاذ الله- إنما هي قراءة لحقوق الشريك.

إنها اليوم شريك في المجتمع أكثر من أي وقت مضى، والشريك يحق له أن يفرض ذاته، وعلى من يرى أن في شراكتها خلل أن يعود لنقطة البداية ويطالب بمنعها من العمل، وأن تقر في بيتها لترعى أبناءها شريطة أن ينبذ هو حياة الرغد ويسلك ذات الطريق الوعر الذي سلكه الأجداد، أن يخرج من أذان الفجر إلى غروب الشمس طلباً للرزق، فإن أحس بالإرهاق رأى في عيون أبنائه رجاءً يدفعه لعدم استثناء هذا اليوم كي لا يصيبهم الجوع. ما يعني أن الرجل لن يعود (سي السيد) إلا بعودة حياة التعب والحاجة التي تنهك أشد الرجال وتجبر النساء على المكوث في البيت، لن يرتدي ذلك الثوب القديم إلا حين يتطلب جلب الرزق قوة جسدية تتحمل عناء الطريق. صحيح أن العلاقة بين الرجل والمرأة لا تتحدد فقط بالمال أو من زاوية إقتصادية، لكن الصحيح أيضاً أن من يملك المال سيكون سيد نفسه.

وبمناسبة الحديث عن السيادة، تثار قضية ولاية الرجل على المرأة هذه الأيام، وبعيداً عن دعاوى التغريب والمنظمات السرية الخبيثة والشياطين التي توسوس بأفكاراً هدامة، إن الجديد هذه المرة ليس في الموضوع، إنما في أن المرأة اليوم تتحدث بصفتها شريكاً فعالاً في بناء المجتمع، بصفتها عاملاً مؤثرا في سوق العمل، وإنها تنظر للرجل من هذه الزاوية، ثم تتساءل: كيف يحق لشريك تتساوى حصصه مع حصصي أن يرأسني لأسباب وصفات لم يكتسبها بمجهوده الشخصي إنما جاءته مع الجينات الوراثية؟، وكون الرجل جاء للدنيا ذكراً فهذا لا يعني أبداً أنه كائناً أرقى وأسمى وأرجح عقلاً، فلمَ كساه المجتمع بهذه المزايا؟ .. لماذا يتم بناء فكرة الولاية على أن كل الرجال أولياءً لله صالحون لا يخطئون أبداً، وإن كان الرجال هكذا فمن إذاً هذا الذي يُعنِف ويضطهد ويمنع ابنته من الزواج ويستغل راتب زوجته؟! ولماذا من الأساس يشترط النظام أن يتم تعنيف المرأة أو اضطهادها أو أن تكون تحت ولاية رجل مليء بالعقد النفسية كي تسقط ولايته عنها؟!، ألا يُعد كونها إنسانة كاملة الأهلية سبباً كافياً في نظر النظام؟!


إن حججها اليوم تنسجم تماماً مع دورها الاقتصادي، كقولها: أنا أعمل كما تعمل، أفكر كما تفكر، أنجز كما تنجز، أساهم في تدبير شؤون الأسرة وتنمية المجتمع كما تساهم... إلخ من الحجج. الإشكالية الوحيدة هنا أن ردود فعل الرجل تقليدية، يصرخ ويبادر لإغلاق الباب بـ"لا يجوز"، وفي آخر المطاف يجنح للصلح ويتركها لتتولى أمرها، وستتولى أمرها.

تشوهات قصص الصحوة




هذا شاب مات وهو يستمع لأغنية (نار يا حبيبي نار) فغسلوه وكفنوه وحين أرادوا دفنه كانت المفاجأة التي صدمت الجميع أن (الشجاع الأقرع) لم يكن ينتظر في القبر، كما أكد الحكواتي وأقسم مراراً وتكراراً !

هذه فتاة كانت تمسك بالريموت وتقلب بين القنوات ثم ماتت على هذه الحال إلا أن ما أربك الحضور وأصابهم بالحيرة أن الريموت لم يلتصق بيدها، كما هو متوقع !

هذا مراهق فاسق تعرف على فتاة وواعدها، وفي مكان اللقاء كانت صدمته بالغة حين لم يجد أخته بصحبة شاب آخر في نفس المكان !

هذه فتاة كانت معجبة بأحد الفنانين وتعلق صوره في كل مكان على جدران غرفتها، وعندما حان أجلها أخذ الصالحون يلقنونها الشهادة إلا أنهم صدموا حين نطقت الشهادة فعلاً !

يحكى أن إمرأة مؤمنة صالحة ماتت على سجادتها في نهار رمضان، وحين شاهدها أبناؤها تفاجؤوا جداً بأنها لا تبتسم !

يروى أن شاباً ذهب للجهاد ثم استشهد فدفنه أصدقاؤه وبعد سنتين فتحوا القبر فصدموا حين وجدوا الجثة وقد تحللت تماماً، خلافاً لما جاء في القصص !

يقال إن شابا نشأ في طاعة الله، باراً بوالديه، محافظاً على صلاته، وحين وافته المنية تساءل المشيعون في دهشة: ما لنا لا نشم فيه رائحة المسك ؟!

--

إن قصص الصحوة على أيامنا كانت بمثابة عالم افتراضي لا مرئي، يتم ترحيل العقول إليه تنفيراً من الدنيا وملذاتها، إنها خليط من المنامات والحكايات المفبركة والأحاديث الضعيفة، بالإضافة إلى بعض القصائد والحكم والأمثال التي تضاف لخدمة الحبكة الدرامية للقصة، وفي الخلفية تأوهات وأصوات غير منطقية لزيادة الأكشن.

إنها لم تكن أكثر من قصص خرافية عن شجاع أقرع يسكن القبور، عن جثث تفحمت لأن أصحابها كانوا يحلقون لحاهم أو يسبلون ثيابهم، عن فتيات تم دفنهن بـ بناطيل الجينز وأخريات تيبست أجسادهن واسودت جلودهن لأنهن رقصن في الأعراس.

إنها قصص كانت موجهة للغرائز لا العقول، وما يتم توجيهه للغريزة يتحول مع الوقت لحقيقة متكاملة العناصر، وإن كان جميع العناصر مزيفة .. وهذا ما حدث في تلك الفترة.

إن الهدف من قصص الصحوة كان زرع الخوف في صدور الجميع، ونشر حالة من القلق في المجتمع، ونزع الإحساس بالأمان بين الأفراد، وذلك كي تسهل عملية الإحتلال الثقافي والفكري والعقدي، وفعلا نجحت الإستراتيجية في تشويه عقائد وثقافة الكثيرين، وجعلتهم يبنون إيمانهم عن خوف ورهبة، وكأنهم أرادوا بالإيمان دفع عقوبة من الله واقعة لا محالة، حتى وإن كانت الذنوب من الصغائر فلا مأمن هنا ولا راحة بال بأي حال، ولا يمكن القول عن قصص الصحوة في تلك الفترة إلا أنها نجحت في تشويه ثقافة الكثيرين وأفكارهم تجاه الحياة والمجتمع والجنس الآخر وحتى تجاه أنفسهم.

لنتأمل فقط في القصص الصحوية المعنونة بـ (كما تدين تدان) و (دقة بدقة) .. كم من أخ ضيّق على أخته وكم من زوج أذاق زوجته وابنته العذاب، والسبب أنه حين ضعف أمام شهواته فورا تملكته قناعة يقينية بأن الله سينتقم منه ولا شك بأن تساق أخته أو زوجته أو ابنته للمعصية !، في هذه الحالة لا مفر أمام هذا العاصي ولا ضامن له يضمن عدم رد الله له الصاع، إلا بأن يحبس نساء بيته ويضيق عليهن الخناق؟! .. وحين يتصرف العاصي الذي ضعف أمام شهواته على هذا النحو، قد يحدث أن تحاول إحداهن الهرب من هذا الجو الخانق إلى حضن رجلاً آخر، فإن حدث سيتم حينها التعامل مع ما فعلته هذه المرأة وكأنه نصر من الله مبين يؤكد صحة ما قد قصه الحكواتي الصحوي !

إن قصص الصحوة صورت للفتاة أن الشاب ذئباً مسعوراً سيلاحقها ويباغتها في أي لحظة كي ينهش لحمها ويهتك عرضها، ثم صورت للشاب أن الفتاة كائن إبليسي مهمته الوحيدة أن يقوده إلى جهنم وبئس القرار، ثم صورت للمجتمع أن لا خلاص من كل هذا الرعب إلا باللجوء إلى معايير الالتزام التي تم رسمها بريشة الصحوة، ومن يلتزم بهذه المعايير المحددة سينقلب إلى حملاً وديعاً إن كان فتى، وتتحول الفتاة إلى ملاكاً طاهر، من يلتزم بهذه المعايير سيصبح حتماً من الصالحين، ستخرج من جسده رائحة المسك بعد موته، وستعلوا على وجهه إبتسامة الطمأنينة والرضا في حياته وبعد الممات، وستنزل عليه الملائكة لتترضى وتستغفر له، وستبتعد الشياطين عن دروبه خوفاً ومهابة، كل هذا سيحدث لمن يلتزم بمعايير الصحوة، لمن يطيل لحيته ويقصر ثوبة ويحضر مراكز الدعوة، ولمن تلبس العبائة على الرأس وهكذا.

في الختام ..
نحن لدينا يقين بأن الله سيعاقب الشاب الفاجر بالموت احتراقا وعلى مرأى ومسمع من الجميع لأنه عصى الله بسماعه للأغاني و(بشار الأسد) لا يزال يبتسم وربما يأكل الكافيار، ولم يمت محترقاً وربما يموت ميتةً طبيعية !
نحن لدينا يقين بأن الله سيعاقب من ترقص في الزواجات بميتة بشعة .. وبأن من تلبس البنطال الضيق ستموت وسيلتصق بنطالها بجسدها لتدفن به .. رغم أن هذا لم يحدث للفنانات والراقصات المجاهرات بالمعصية !


لقد كان لدينا خلل على أيام الصحوة ولا شك، ولا تزال أجزاء كبيرة من ذلك الخلل تهيمن على ثقافتنا الدينية إلى اليوم، ولا يمكن إزالة كل هذه التشوهات ببساطة، فجزء ليس بالبسيط من مفاهيمنا الدينية قد تشكل بناء على الإيمان اليقيني بحدوث أشياء لم تحدث أبدا، ولن تحدث أبدا، وإن حدثت فعلياً في بعض الأحيان فحدوثها لا يدل على أي شيء.

ماذا لو مات على الشك




للإفتاء والنطق بالحكم؛ أهله، ولعامة الناس طرح الأسئلة حول كل أمر فيه إشكال عليهم، وما السؤال الذي يتم طرحه إلا دليلاً على فضول لم يتم ريه بعد، وحاجة للمعرفة لم تستكن، وإشكالية لم يحسم أمرها، بل أظن أن معظم الإشكاليات عموما، والدينية منها تحديدا، لن تحسم أبدا لتبقى محل أخذٍ ورد إلى أن يشاء الله، هذا يدلي برأياً يراه صوابا وذلك يدلي برأياً مختلف تماما ويراه أيضا صوابا، وآخرون لا عمل لهم إلا التشكيك في كل الآراء، ليستمر الجدل الذي تتجلى أعظم الغايات منه في إثراء المعرفة الإنسانية.

ولا شك أن المعرفة الإسلامية معرفة ثرية، ولثرائها عدة أسباب، أهمها هو هذا التنوع والاختلاف الهائل في الآراء والأفكار والمعتقدات التي أسهمت في نشوء مذاهب وطوائف وتفرعات في كل اتجاه، ورغم هذا التنوع الهائل إلا أن كل هذه المعرفة في آخر المطاف لم تفقد صفتها الإسلامية، والمتأمل في هذه المسألة سيلحظ في مرحلة ما أن المعرفة الإسلامية أكثر رقيا وتسامحا، بل وأكبر قدراً مما تحمله صدور كثير من المسلمين وقناعاتهم، ودلالة رقيها وعلو قدرها أنها لم تصل إلى هذا الثراء إلا عبر السير فوق الأشواك، أشواك غرسها المسلمون أنفسهم في طريق المعرفة بحجة البحث عن مرضاة الله!.

وليس من باب المبالغة القول بأن الأشواك لم تستثني عالماً مسلماً ولا مفكراً أو صاحب رأي إلا وأصابته، بعضهم نجا من الأشواك بصعوبة بالغة، وأكثرهم لقي حتفه فعليا، هنالك من تم سجنه وتعذيبه، وهنالك من تعرض للقتل بكل بساطة وبلا مقدمات، وهنالك من ذاق الأمرّين إلى أن تمنى الموت فلم يجده، وكل قاتل وسجّان كان يبحث عن مرضاة الله بطريقته الخاصة، وحسب مفهومه ومفهوم جماعته، كل ظالم قد آمن بأن الحق في صفه ووفق ما يعتقد هو وأن من يخالفه حتما على ضلال، وفي تاريخنا الإسلامي وربما لأن السير في طريق الحوار طويل ومرهق، فقد حضر العنف حلا سريعا لإرساء الحق وفرضه في معظم مراحل هذا التاريخ.

فما هذه الأشواك؟!.
عن ابن عباس –رضي الله عنه- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من بدل دينه فاقتلوه"، ورغم اختلاف العلماء وتنوع آرائهم حول هذه المسألة، إلا أن الإشكالية ليست في اختلاف العلماء ولا في الحديث -معاذ الله- الإشكالية حين يتم التعامل مع كل مخالف وكل من يأتي برأي غير مستساغ أنه مبدل لدينه ويجب قتله "هذه تحديداً هي الأشواك" أن تعتقد كل جماعة بأنها الممثل الشرعي والوحيد للإسلام، والجماعة التي تعتقد بهذا تمنح نفسها سلطة الحكم بالنيابة عن الله والنطق باسمه والقتل والسجن لمرضاته.

طبعا، أنا أعرض هنا إشكاليات فقط، وإلا فللإفتاء أهله، وللنطق بالأحكام أهله، أهل الإفتاء علماء أجلاء متمكنون، لم يجمعوا في مسألة حد الردة على رأي واحد، أما من أجمع منهم على وجوب قتل المرتد، فقد وضعوا لمثل هذا الحكم ضوابط وشروطا صارمة، لعلمهم أن هذا السلاح خطير جدا ولا يجب تركه في أيدي الصبيان ليلعبوا به، ويطعنوا على الشبهات والنيات، أو أن يستخدمونه لمجرد فرض الرأي!.

والمؤسف أنه وخلال التاريخ الإسلامي، كثيرا ما استقر هذا السلاح في أيدي صبيان جهلة أخذوا يطعنون به، ويسجنون وينفون ويطاردون بالعصي والحجارة كل عالم ومفكر، وحتى كل جاهل أرعن لم يعجبهم قوله، وحجتهم الجاهزة دائما وسهلة الاستدعاء، هي أن مخالفهم مرتد وجب قتله!

لقد سقط الدكتور "مصطفى محمود" بداية حياته في الشك إلى أن عبره ووصل إلى اليقين، وأصبح مفكراً إسلامياً يشاد به ويؤخذ منه. حسناً، فلنفترض هنا أن أحد الغيورين على الدين اعترض الدكتور في بداية سقوطه وطعنه بسكين، أو رفع عليه دعوى في المحكمة، وتم إصدار حكم القتل في حقه ونفذ الحكم فعلا!
هل كان الدكتور سيصل حينها إلى اليقين أم سيموت على الشك؟.
هل كنا سنترحم عليه اليوم ونتزود مما أسهم به من معرفة أم سنكتفي بلعنه وتخويف أبنائنا من السير في هذا الطريق؟
ماذا لو نُفذ فيه وفي آخرون غيره حكم الردة؟ بل ماذا عن الذين نفذ فيهم الحكم فعلا؟! .. الأجوبة مخيفة.

إن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء، وليس الأمر منوطا بمشيئتنا نحن حتى نشاء ألا يضل هذا وألا ينحرف الآخر إلى أن يموت أو سيقتل!

لست هنا للاعتراض على حكم الردة، ولكن لوضع علامة تعجب حول اتخاذ هذا الحكم عنوانا بارزا لإلجام المخالفين، وعلامة تعجب أكبر حول تنحية الحوار رغم أنه العنوان البارز في القرآن.
لماذا بات اللجوء للمحكمة ورفع دعوى على من لا يستساغ منه رأي أسهل من اللجوء للحوار والنقاش بالحسنى؟.
لماذا يتم جر من يُظن في قوله الكفر إلى السجن ولا تتم دعوته لإجراء حوار علني حتى يتراجع عن آراءه بقناعة منه لا بسبب الخوف؟

ثم ماذا عن الجمهور، في هذا الجمهور العريض من تساوره الشكوك وتداهمه الإشكاليات، فيأخذ بكل ما في نفسه من وساوس للأزقة المظلمة خوفاً من حد الردة، وفي الأزقة المظلمة تتمدد الضلال ولا تنكمش، أم أننا لا نهتم بما في نفس الإنسان طالما هو يطل علينا بالمظهر الذي نرتضيه؟

الشعوذة اللغوية العصبية

 

يمكن اعتبار الأسواق التي لا توجد بها أي سلع، أنها أنشط الأسواق في المجتمعات العربية، فالطلب في المجتمع العربي – حرفياً - يكون كبيراً جداً على "لا شيء" وبما أن الطلب مرتفع على "لا شيء" فمن السهل أن يقوم الباعة بتوفيره للزبائن بدرجة تفيض عن الحاجة، وعلى عكس ما هو متعارف عليه في علم الاقتصاد فإن ارتفاع العرض في هذا النوع من الأسواق يصاحبه ارتفاع في الأسعار للدرجة التي تجعل البائع يصل للثراء السريع ويأخذ بالمستهلك إلى الديون والفقر، مع هذا تستمر عملية ضخ الأموال لأن المستهلك ينطلق أساساً رغبةً منه في تحقيق شيء ملموس عن طريق تملك اللاشيء.

فإن لم تكن في السوق سلعة محددة فماذا يشتري الزبون وما الذي يعرضه البائع؟.
الجواب في كلمة واحدة .. ( الوهم ).
الوهم هو بديل السلعة، هو اللاشيء الذي ما إن يضعه البائع على رفوف دكانه إلا ويصطف الزبائن في طوابير لشراء شيء لا وجود له!، وهذا ليس بلغز فرغم كون الوهم لا شيء، إلا أن هذا لا يعني أنه بلا قيمة، بل إن له القيمة الكبرى إلا أنها قيمة متوهمة بالكامل.

السؤال هنا: ما الذي يدفع الزبائن إلى دفع الأموال لشراء شيء لا وجود له؟.
الجواب أيضاً في كلمة واحدة .. ( الوعي ).
الوعي يضمن عدم تحويل الوهم إلى سلعة بينما غيابه يضفي للوهم أكبر قيمة، وأي مجتمع يركض أفراده ويتدافعون للشراء من باعة ليس عندهم أي شيء يبيعونه ومع هذا يصلون للثراء السريع هو مجتمع يتعامل مع الوعي على أنه ترف لا قيمة له.

بعد هذه المقدمة، لنقم بجولة سريعة نتعرف من خلالها على سوق الأوهام ..
في البدء هو سوق منظم وليس عشوائي، يتكون من أقسام حيث كل قسم يختص بنوع محدد من الأوهام ..
في مدخل السوق يقف مشعوذ بدائي وهو شبه عارٍ ليدور كالمعتوه حول النار، تجاهله الآن –عزيزي القارئ- وتقدم حتى تصل لقسم قراءة الفنجان والكف وضرب المندل، الباعة هنا ثيابهم رثة وهيئاتهم كالمشردين، قف قليلاً وتأمل الأكياس التي يحملها زبائن هذا القسم ستجدها دائماً فارغة رغم أن البيع والشراء لا يتوقف أبداً!
تقدم أكثر حتى تصل للقسم المختص بطرد الجن والعفاريت ومعالجة العين، الباعة هنا يطلق عليهم "رقاة شرعيون" مذاهبهم وأديانهم شتى وأساليبهم مختلفة إلا أنهم يتفقون على أن كل مشاكل زبائنهم النفسية والوظيفية والأسرية سببها "جني" سكن أجسادهم على غفلة، والزبون الذي يقتنع سيبدأ معهم رحلة علاج طويلة يخسر خلالها الكثير وفور خروجه سيعترضه نفس الجني مبتسماً ولسان حاله يقول: ضحكوا عليك يا مسكين.

هنالك أقسام أخرى كالتداوي بالأعشاب وتجارة الفوركس "مرحباً أنا مروان تلودي" وأقسام ستنشأ خلال الخطة الخمسية المقبلة، وهنالك بسطات تظهر سريعاً وتختفي كبسطات ماكينة الخياطة سنجر .. إلخ، إلخ
تجاهل كل هذا واذهب مباشرة إلى قسم الشعوذة الجديد، قسم (البرمجة اللغوية العصبية) لاحظ كيف أن الباعة هنا لا يشبهون الباعة في الأقسام الأخرى، فإنهم يرتدون بدلاً فخمة بكرفتات وجزم تلمع وشراريب ماركات، هؤلاء هم النسخة المودرن من المشعوذ البدائي عند مدخل السوق.
عليك قبل الدخول لقسم البرمجة اللغوية أن تحقن نفسك بجرعة وعي مضاعفة، فالقسم جديد والأساليب مبتكرة، والضحك على الذقون تقام له دورات، عليك أن تكون أكثر وعياً فهؤلاء يحفظون جيداً مجموعة كلمات وعبارات علمية نفسية رنانة على شاكلة: معنا ستطور قدراتك العقلية للحد الأقصى، وستنمي مهاراتك الوظيفية، كما وستضبط احتياجاتك السيكولوجية. معنا ستربط قيمك ومعتقداتك في نسيج واحد مترابط يمكنك من السيطرة على مشاعرك من الانفلات، كل هذا وأكثر خلال جلستين فقط تكلفتهما 4000 ريال، إن وافقت ستحصل – مجاناً- على دورة في القراءة السريعة تجعلك قادراً على قراءة ألف صفحة في دقيقة ونصف، فإن لم تكن جيداً في الحفظ بادر بالتسجيل في دورة تنمية القدرة على الحفظ والاستدعاء من اللاوعي وقت الضرورة تكلفتها 3000 ريال. إلخ، من هراء التنمية البشرية الفاخر والذي يدغدغ رغبة الزبون بأن يصبح "سوبرمان".

إلى هنا تنتهي الجولة ولم ينته الحديث، فالعادة جرت أن نتلقف كالجياع كل ما يسقط علينا من الغرب والشرق، كل الذي تغير اليوم هو عنوان الوهم وطريقة بيعه، كنا نشتري الوهم من الفنجان ثم اشتريناه بالنفث والآيات واليوم نشتريه عن طريق دورات تقام في مراكز مرخص لها وتدعمها "المؤسسة العامة للتدريب المهني" وتباركها الغرف التجارية.

في المحصلة فإن المريض النفسي لم يترك قارئ الفنجان أو الراقي الشرعي ليذهب إلى طبيب نفسي مختص، ومن يمر بمشاكل أسرية لم يذهب لاستشاري أسري معتمد، يمكن اختصار المسألة في القول بأن المشعوذ البدائي كان يحل مشاكل أهل القرية بالدوران حول النار فقام بتمرير علاجه السحري إلى قارئ الفنجان ومنه إلى الراقي الشرعي ليستقر أخيراً في دكان المبرمج اللغوي.

هذا هو العرض العصري الذي يقدمه الباعة كاستجابة للطلب المتزايد على الأوهام التي تكونت فينا جراء مادية الحياة وتمدن المجتمع، أوهام الثراء السريع والنجاح بالتأمل وامتلاك القدرات الفائقة بالاسترخاء، ويبقى السؤال: أين السلعة في البرمجة اللغوية العصبية؟ فكل ما في أكياس الزبائن "شوية كلام".