الشعوذة اللغوية العصبية

 

يمكن اعتبار الأسواق التي لا توجد بها أي سلع، أنها أنشط الأسواق في المجتمعات العربية، فالطلب في المجتمع العربي – حرفياً - يكون كبيراً جداً على "لا شيء" وبما أن الطلب مرتفع على "لا شيء" فمن السهل أن يقوم الباعة بتوفيره للزبائن بدرجة تفيض عن الحاجة، وعلى عكس ما هو متعارف عليه في علم الاقتصاد فإن ارتفاع العرض في هذا النوع من الأسواق يصاحبه ارتفاع في الأسعار للدرجة التي تجعل البائع يصل للثراء السريع ويأخذ بالمستهلك إلى الديون والفقر، مع هذا تستمر عملية ضخ الأموال لأن المستهلك ينطلق أساساً رغبةً منه في تحقيق شيء ملموس عن طريق تملك اللاشيء.

فإن لم تكن في السوق سلعة محددة فماذا يشتري الزبون وما الذي يعرضه البائع؟.
الجواب في كلمة واحدة .. ( الوهم ).
الوهم هو بديل السلعة، هو اللاشيء الذي ما إن يضعه البائع على رفوف دكانه إلا ويصطف الزبائن في طوابير لشراء شيء لا وجود له!، وهذا ليس بلغز فرغم كون الوهم لا شيء، إلا أن هذا لا يعني أنه بلا قيمة، بل إن له القيمة الكبرى إلا أنها قيمة متوهمة بالكامل.

السؤال هنا: ما الذي يدفع الزبائن إلى دفع الأموال لشراء شيء لا وجود له؟.
الجواب أيضاً في كلمة واحدة .. ( الوعي ).
الوعي يضمن عدم تحويل الوهم إلى سلعة بينما غيابه يضفي للوهم أكبر قيمة، وأي مجتمع يركض أفراده ويتدافعون للشراء من باعة ليس عندهم أي شيء يبيعونه ومع هذا يصلون للثراء السريع هو مجتمع يتعامل مع الوعي على أنه ترف لا قيمة له.

بعد هذه المقدمة، لنقم بجولة سريعة نتعرف من خلالها على سوق الأوهام ..
في البدء هو سوق منظم وليس عشوائي، يتكون من أقسام حيث كل قسم يختص بنوع محدد من الأوهام ..
في مدخل السوق يقف مشعوذ بدائي وهو شبه عارٍ ليدور كالمعتوه حول النار، تجاهله الآن –عزيزي القارئ- وتقدم حتى تصل لقسم قراءة الفنجان والكف وضرب المندل، الباعة هنا ثيابهم رثة وهيئاتهم كالمشردين، قف قليلاً وتأمل الأكياس التي يحملها زبائن هذا القسم ستجدها دائماً فارغة رغم أن البيع والشراء لا يتوقف أبداً!
تقدم أكثر حتى تصل للقسم المختص بطرد الجن والعفاريت ومعالجة العين، الباعة هنا يطلق عليهم "رقاة شرعيون" مذاهبهم وأديانهم شتى وأساليبهم مختلفة إلا أنهم يتفقون على أن كل مشاكل زبائنهم النفسية والوظيفية والأسرية سببها "جني" سكن أجسادهم على غفلة، والزبون الذي يقتنع سيبدأ معهم رحلة علاج طويلة يخسر خلالها الكثير وفور خروجه سيعترضه نفس الجني مبتسماً ولسان حاله يقول: ضحكوا عليك يا مسكين.

هنالك أقسام أخرى كالتداوي بالأعشاب وتجارة الفوركس "مرحباً أنا مروان تلودي" وأقسام ستنشأ خلال الخطة الخمسية المقبلة، وهنالك بسطات تظهر سريعاً وتختفي كبسطات ماكينة الخياطة سنجر .. إلخ، إلخ
تجاهل كل هذا واذهب مباشرة إلى قسم الشعوذة الجديد، قسم (البرمجة اللغوية العصبية) لاحظ كيف أن الباعة هنا لا يشبهون الباعة في الأقسام الأخرى، فإنهم يرتدون بدلاً فخمة بكرفتات وجزم تلمع وشراريب ماركات، هؤلاء هم النسخة المودرن من المشعوذ البدائي عند مدخل السوق.
عليك قبل الدخول لقسم البرمجة اللغوية أن تحقن نفسك بجرعة وعي مضاعفة، فالقسم جديد والأساليب مبتكرة، والضحك على الذقون تقام له دورات، عليك أن تكون أكثر وعياً فهؤلاء يحفظون جيداً مجموعة كلمات وعبارات علمية نفسية رنانة على شاكلة: معنا ستطور قدراتك العقلية للحد الأقصى، وستنمي مهاراتك الوظيفية، كما وستضبط احتياجاتك السيكولوجية. معنا ستربط قيمك ومعتقداتك في نسيج واحد مترابط يمكنك من السيطرة على مشاعرك من الانفلات، كل هذا وأكثر خلال جلستين فقط تكلفتهما 4000 ريال، إن وافقت ستحصل – مجاناً- على دورة في القراءة السريعة تجعلك قادراً على قراءة ألف صفحة في دقيقة ونصف، فإن لم تكن جيداً في الحفظ بادر بالتسجيل في دورة تنمية القدرة على الحفظ والاستدعاء من اللاوعي وقت الضرورة تكلفتها 3000 ريال. إلخ، من هراء التنمية البشرية الفاخر والذي يدغدغ رغبة الزبون بأن يصبح "سوبرمان".

إلى هنا تنتهي الجولة ولم ينته الحديث، فالعادة جرت أن نتلقف كالجياع كل ما يسقط علينا من الغرب والشرق، كل الذي تغير اليوم هو عنوان الوهم وطريقة بيعه، كنا نشتري الوهم من الفنجان ثم اشتريناه بالنفث والآيات واليوم نشتريه عن طريق دورات تقام في مراكز مرخص لها وتدعمها "المؤسسة العامة للتدريب المهني" وتباركها الغرف التجارية.

في المحصلة فإن المريض النفسي لم يترك قارئ الفنجان أو الراقي الشرعي ليذهب إلى طبيب نفسي مختص، ومن يمر بمشاكل أسرية لم يذهب لاستشاري أسري معتمد، يمكن اختصار المسألة في القول بأن المشعوذ البدائي كان يحل مشاكل أهل القرية بالدوران حول النار فقام بتمرير علاجه السحري إلى قارئ الفنجان ومنه إلى الراقي الشرعي ليستقر أخيراً في دكان المبرمج اللغوي.

هذا هو العرض العصري الذي يقدمه الباعة كاستجابة للطلب المتزايد على الأوهام التي تكونت فينا جراء مادية الحياة وتمدن المجتمع، أوهام الثراء السريع والنجاح بالتأمل وامتلاك القدرات الفائقة بالاسترخاء، ويبقى السؤال: أين السلعة في البرمجة اللغوية العصبية؟ فكل ما في أكياس الزبائن "شوية كلام".


هناك تعليق واحد :

  1. شكرًا لمؤسسات الائتمان على القروض لمساعدتي في الحصول على قرضي. لقد كان أمرًا رائعًا أن أتلقى قرضي بقيمة 8,000,00 ريال عماني
    من شركة القروض الخاصة هذه. اسمي عبد الفتاح من مدينة مسقط عاصمة عمان. لقد حصلت على قرضي من شركة القروض ذات السمعة الطيبة هذه في 24 نوفمبر 2023، وأريد استخدام هذه الوسيلة بسرعة لإخبار الجميع هنا أنه يمكنك الحصول على أي قرض من شركة القروض ذات المصداقية هذه. يقدمون القروض بأسعار فائدة منخفضة وبسرعة كبيرة. للحصول على قروضك يرجى التواصل معهم على رقم الواتساب: +393512114999 أو +393509313766. البريد الإلكتروني: Loancreditinstitutions00@gmail.com. WhatsApp: +393512640785 يرجى الرجوع إلى من يحصل على قرضي من شركتها.

    ردحذف