حالنا بعد تنظيم عمل الهيئة



الإنسان لا يستطيع أن يرسم لوحة على الهواء، أو أن يصنع من الماء طوب بناء، لا يستطيع أن يقبض على الظل، أو أن ينحت في الفراغ، والحديث بهذه الكيفية يُعد ضرباً من الجنون، لكن الغريب في هذا الإنسان الغير قادر على فعل أياً مما سبق، أنه قادر وبكل جدارة على بناء نظام اجتماعي متكامل على الخيال وحده!.

أن يظن أولاً ويخمن ثم يبني على ظنونه تلك بضع فرضيات ويجادل حولها، وبالجدال تتحول الفرضيات شيئاً فشيئاً إلى قناعات راسخة وعقائد ثابتة لا تقبل التشكيك بأي حال، ثم وعلى هذه العقائد والقناعات يباشر المجتمع بترتيب وتنظيم أموره الحياتية المختلفة، ولا تصبح عملية التشكيك محرمة لقدسية القناعات إنما حفاظاً على النظام الاجتماعي الذي تم بناؤه على الظن والتخمين.

على سبيل التوضيح ..
لنتأمل في منظومة الفرضيات التي كنا بالأمس القريب نحيط بها جهاز (هيئة الأمر بالمعروف)
كيف كنا نردد بشكل شبه يومي مجموعة ظنون وفرضيات حتى ترسخت في الأذهان بصفتها معتقدات لا يجوز حتى التشكيك فيها.
مثلاً، أنه لولا جهاز هيئة الأمر بالمعروف لغرقنا في مستنقع تتآكل فيه القيم والأخلاقيات، ولولاها لأنتهك الناس حدود الله علانية، ولما أمِن الزوج على زوجته ولا الأخ على أخته، ولكانت مهمة الحفاظ على الأعراض شبه مستحيلة، هذا بغض النظر عن الفرضيات الخاصة بالسحرة والمشعوذين، إلخ.. من الفرضيات الهشة التي سيطرت على ثقافة المجتمع بآلية "كثرة الترديد" التي أثبتت جدواها بدلالة إيمان الكثيرين بكل ما كان يقال وكأنه حقٌ بلا جدال.

وفي اللحظة التي تحولت فيها كل هذه الفرضيات والتخيلات إلى حقائق ومعتقدات راسخة كان من الطبيعي أن تتأثر جميع مناحي الحياة داخل المجتمع، أن يتأثر نمط التربية، وطرائق التعليم، وكيفية تنظيم سوق العمل، كذلك الفن والترفيه، وحتى كيفية التواجد في الأماكن العامة، وتتأثر كذلك المجالات الثقافية والفكرية، حيث لا يتم عرض ونشر إلا ما يؤكد على صحة ما وضعناه من فرضيات وتخيلات!.

إن كل الفرضيات والأوهام التي أحطناها بجهاز (هيئة الأمر بالمعروف) لم تكن تتطلب علماً ولا تحتاج إلى تثبت ودراية، كل المطلوب فقط هو القليل من القدرة على التخيل ثم تصدير ما يجود به الخيال إلى ثقافة المجتمع، وحشر عقول الأفراد بكل الترهات الناتجة عبر آلية الترديد المستمر والاستمرار في الترديد بمناسبة وبدون مناسبة.

لقد آمن الكثيرون بكل ما كان يقال، وهذا الإيمان هو كل المطلوب حتى تتم إعادة تشكيل ملامح المجتمع بكل ما فيه من أنماط وأنظمة، حتى جاء القرار بتنظيم عمل ودور الهيئة، وألتزم العاملون والمحتسبون عملياً ببنود القرار، وابتعدوا عن خطوط التماس.
حينها حدث ما خالف كل التوقعات، لم تخلع المرأة حجابها، لم يقف الشباب في طوابير للتحرش، والسحرة لم يستخرجوا لهم تصاريح مزاولة مهنة، والمحلات لا تزال تغلق أبوابها فور سماع الأذان .. هذا كل ما حدث، أي أنه لم يحدث أمراً واحداً مما كنا نؤمن بأنه حتماً سيحدث !. وربما الشيء الوحيد الذي حدث هو الصدمة التي أصيب بها من كان يتأمل حدوث ما لا تحمد عقباه، صدمة سببها إكتشاف حقيقة أن أعز القناعات وأرسخها ليست أكثر من أوهام.

إن حالنا بعد تنظيم دور الهيئة لم ينحدر إلى الرجس والفجور، وأيضا لم يرتق للنقاء والملائكية، لا تزال في المجتمع مظاهر لبعض الانحلال الأخلاقي حاضرة ومشاهدة، كحالات التحرش، والعقوق والخيانات الزوجية، والمخدرات التي يتم تعاطيها والترويج لها، والسحرة والمشعوذين الذين يلجأ لهم ضعاف الإيمان، الكثير من التصرفات اللاأخلاقية لا تزال موجودة في مجتمعنا وفي كل المجتمعات، وكذلك موجودة في الماضي والحاضر وستبقى ببقاء تدافع الخير والشر في المجتمعات الإنسانية. صحيح أن مثل هذه المظاهر تعتبر إشكالية وينبغي التصدي لها باستمرار، لكن الإشكالية الأكبر أن يتم استثمار هذه السلوكيات الشائنة بغرض الإبقاء على المجتمع في حالة من القلق الدائم.

فما الذي حدث بعد تنظيم عمل الهيئة؟.
الذي حدث هو اكتشافنا أننا كنا نتوهم بأننا مجتمع غير طبيعي، نتوهم أن هنالك كارثة مجهولة المعالم تحيط بنا، نتوهم أننا في مجتمع إن لم نخف فيه من شيء ما فعلينا الشعور بالقلق!.
فتم تنظيم عمل الهيئة ولم يحدث ما كنا نخشاه، لم تتحول جدة إلى "لاس فيغاس"، و"بانكوك" لم تحل محل الرياض، وجيزان لم تصبح "باريس"، والمساجد لم تشتك من هجران المصلين، والشاب لا يزال عاقلا رزينا والفتاة لا تزال متمسكة بحيائها.
ومرة أخرى، هذا لا يعني أننا اليوم مجتمع ملائكي لكن يعني زوال حالة القلق التي سببها الإيمان بفرضيات هشة، لنكتشف اليوم أننا مجتمع برغم كل مشاكله، لا يزال مجتمعاً طبيعياً ويحق للفرد فيه أن يرتاح من اعتناق الوهم.


0 التعليقات :

إرسال تعليق