الفن رفيق الإيمان

 


تبدأ الحكاية مع خوض الإنسان لرحلة الانتقال من البدائية إلى التحضر (مع التنويه أن البدائية لا تعني بالضرورة بهيمية كما يصورها التطوريون، إنما تعني إنساناً ذا بُعداً واحداً، أنه مادة لا أكثر، يعمل ويزرع ويمتلك لغة ونظاماً اجتماعياً شأنه شأن النمل والنحل، أي أن الغاية من كل أفعاله هي البقاء والحفاظ على النوع لا أكثر، فتحضر الإنسان حين تم تفعيل بعده الروحي، فبدأ حينها يبحث عما يُشبِع روحه بتزيين ما يصنع وتنظيم طرق الزرع والبحث عن المعنى والغاية خارج حدود الأرض، تحضر حين أدرك أنه ليس جسدا بلا نفس، أو رغبة بلا عقل، أو مادة بلا روح، تحضر حين رفع رأسه للسماء.

الإنسان البدائي صنع الأدوات، والأدوات في الحالة البدائية تفي بالغرض، لكن في حالة التحضر قام الإنسان بتزيين الأدوات وتجميلها.

السكن في الحالة البدائية يحمي من الوحوش والكوارث في الخارج، لكن في حالة التحضر لا بد من تجميل السكن بالألوان والرسومات.

الإنسان البدائي صياداً ممتازاً يترصد ويباغت وينصب الكمائن، فتحضر حين أضاف للصيد طقوسا لا علاقة لها أبدا بالغاية من الصيد، كالدعاء والصلاة قبل الصيد والرقص والغناء بعد الصيد.

من هذه البدايات أخذ الفن والإيمان يشاركان الإنسان رحلة الإنتقال من البدائية إلى التحضر.

وكأنه أصبح إنسانا حين أدرك أنه نبتة الأرض وسقيا السماء، يقرأ الآية ويلحن فيها، يبني المعبد ويزخرفه، يُذنِب فيستغفر، ينكب على الأرض ليعمل ويرفع رأسه للسماء ليدعوا، يبحث بطريقة علمية عن علل الأحداث في الطبيعة ثم يُجمِل النتيجة بـ"يا الله".

إنه إنسان لأنه جمع العمل بالإيمان بالفن في كل تصرفاته، وكما يجوع إن لم يأكل فسيشعر بالفراغ إن لم يؤمن وسيشعر بالتوحش إن لم يتذوق الفن، لهذا يخشع لقراءة آية ويتمايل لسماع صوتاً جميل، فإذا مر على بيت شعر يهيم فيه ومعه، هذا لأن الروح تشعر بالراحة أمام الآية والعزف والشعر والغناء، كما يشعر الجسد براحة ما بعد الأكل.

صاحب التفكير المادي لا يملك تفسيرا منطقيا لمفاهيماً متعددة، كالفن والإيمان والضمير مثلاً، كون هذه المفاهيم خارج حدود المادية التي يؤمن بها، كذلك المتدين الذي ينظر للجزء المادي في الإنسان أنه مسكن الشيطان، فهو لا يملك إلا تفاسيراً مشوهة للكثير من المفاهيم، يتعامل مع الفن أنه ابن الإيمان وعليه ألا يخرج عن طاعته وإلا سيعد قبحاً وانحطاط، والحقيقة أن الإيمان شأنه شأن بقية المفاهيم الماورائية التي تخدم الروح، لا هيمنة هنا لمفهوم على آخر، ولا حاجة لإخضاع مفهوم لمعايير الآخر، صحيح أن الإيمان أعلى مقاما من الفن، لكن الصحيح أيضا أن الإنسان في شهوره الأولى يتفاعل أولاً مع الفن، يتراقص لمقطع موسيقي ولا يبكي تأثراً بسماع آية!.

عموما، المادي يصور الإنسان أنه مادة فقط، وبالتالي فمهمته الوحيدة هي الالتصاق بالأرض، والمتدين يصور أن أي التصاق للإنسان بهذه الأرض يُعد رذيلة تستدعي التوبة.

المادي يصور الصلاة أنها ترف لا يحتاجه الإنسان، والمتدين يرى الغناء أنه غثاء لا يفيد الإنسان.

المادي يصور الدعاء أنه بدائية، والمتدين يصور الرقص أنه بهيمية.

المادي يصف الإيمان بالخلل، والمتدين يصف الفن بالعفن.

هذا يريد دفن الإنسان في الأرض، وذاك يسعى لنفيه إلى السماء.

هذا يريد إعادته لبدائية لم تعد تمثله، وذاك يريد ترحيله لملائكية لم يخلق لها.

كل طرف يريد احتكار الإنسان لنفسه، كل طرف يلمع معاييره ويصف معايير الآخر بأنها تشوهات.

وفي مجتمعي، على الفنان دوما أن يقوم بإخضاع فنه لمعايير المتدين، سواء كان هذا الفن رسماً أو عزفاً أو غناء، إما أن يُخضِع فنه لمعايير التدين وإلا سيوصف ما يقدمه بالمجون والفسق والانحطاط، ومعايير التدين في مجتمعي بسيطة سهلة ومباشرة، أن يتم استبدال آلات العزف بزقزقة العصافير وهدير الماء والكثير جدا من الآهات، ومن يضطر أن يرسم ذوات أرواح؛ فعليه بقطع الرقاب لتجنب الوقوع في الشبهات، ومن التقوى أن يتم الاكتفاء برسم الأشجار والأحجار والبحار .. إلخ من المعايير البسيطة والغارقة في الجهل بالفن.

المسألة مسألة معايير إذاً ولا أكثر، معايير إن لم يخضع لها الفن فهو لهواً وعبث ومجون، معايير لم تكن لتوجد لولا الاعتقاد الخاطئ بأن مهمة الإنسان على الأرض أن يعيش متأهباً للعالم الآخر، زاهداً في الدنيا، لا لهو ولا لعب إلا وفق الشروط، شروط لم تأت بها نصوص قطعية إنما اجتهادات بشرية تخضع لثقافة الإنسان!

وهكذا، يضيع مفهوم أن الفن هِبة من هبات الرحمن للإنسانية، كالإيمان، كالأخلاق، كالضمير، ككل شيء لا نفهم طبيعته إلا أننا نفهم به معنى قوله تعالى [فإني قريب].

الخلاصة أن المجتمع الذي تنتشر بين أفراده عقيدة "كراهية الفن" فلن يختفي الفن فيه، إنما ببساطة سيتحول إلى "رجيع فن"، حيث الأصوات كلها نشاز يُطرب لها المستمع بالإكراه، حيث الأنغام تتفاوت ما بين آهاتٍ ونواح، حيث تكسير آلات العزف عبادة وجهاد، حيث الفنان يُشتم تقربا لله.


في عقيدة "كراهية الفن" توصف الآلات الموسيقية بمزامير الشيطان، ويتم ربط سقوط الأندلس بفن "زرياب"، ويتم الحط من مكانة العالم الجليل إن أنصت لصوت "أم كلثوم"، ويقسم الناظرون بأن سقوط "طلال مداح" على خشبة المسرح نكسة وسوء منقلب .. والكثير من الفرضيات التي يتم بناؤها على الظن ثم يتم تنصيبها كعقائد لا تقبل الجدل، فرضيات جعلتنا نربط الفن بالرذيلة التي تستدعي التوبة والأوبة قبل أن يموت الإنسان بصفته فنانا فيعذبه الله بجريرة إمتاع الجمهور.

0 التعليقات :

إرسال تعليق