أخلاقيات التقشف

 

التقشف مُر، ثقيل على النفس، لا يستساغ، وهذه بالضبط هي صفات العلاج، وآلام العلاج وأعراضه بمثابة الضريبة التي لا بد من دفعها كي يتحقق الشفاء، ولا خيارات متعددة هنا إلا الصبر والصبر فقط، فهو أولى خطوات الشفاء، وكما قال الشاعر: إللي به العلة، على المرّ مغصوب.

لكن، هل التقشف هو العلاج الصحيح دائماً، ولكل مجتمع يعاني؟
وإن تم فرض هذا العلاج المُر، ألا توجد طرق للتخفيف من مرارته؟
وهل يصح أن يصرف الطبيب علاجاً لمريض دون أن يكشف عليه؟
بصيغة أخرى، هل تم الكشف على المجتمع كشفاً دقيقاً إلى أن عُرفت مواطن الخلل فيه، ثم تم صرف العلاج المناسب؟، أم إن التوصية بالتقشف جاءت لأنها نجحت مع مجتمع آخر؟، وأين ذلك المجتمع الذي نجح التقشف في حل مشكلاته؟

أسئلة كثيرة يحق للمريض أن يطرحها، فهو المريض وهو من به علة، وهو من عليه تحمل آلام العلاج ومرارة الدواء، فجدال المجتمع في حال التقشف كتململ المريض من مرارة الدواء، وليس الحل في لجم المريض وإسكاته، إنما في تقبل كل هذا التململ والنقد والنظر إليه على أنه أمرٌ طارئ سيزول بزوال فترة العلاج.

ومما يؤسف له، أن يتقدم خطاب الوعظ الديني في زمن التقشف والهبوط الاقتصادي، ويبادر لإسكات ولجم الأفواه حتى عن طرح الأسئلة، يلجمها ترهيبا وتخويفا وتذكيرا بحال الأمم من حولنا، ثم يسلط الضوء على بضع ذنوبٍ منتقاة بعناية، كالإسراف والتبذير، مع تجاهل متعمد للذنوب العظمى والتي تعتبر أس البلاء.

صحيحٌ أن الوقاية خيرٌ من العلاج، لكن طالما الداء قد حل والعلاج قد بدأ، فمن المخجل أن يتم ترهيب المريض صباح مساء ولومه على هذا المرض. إن هذا النوع من الوعظ بمثابة داءٌ آخر لا بد من إيجاد العلاج المناسب له.
علاجاً لدعاة يتقدمون -إحتسابا- لمدح الزهد في زمن التقشف، يشككون –لوجه الله- في انتماء كل منتقد، يربطون الصبر بالسكوت والرضوخ، ثم يربطون السكوت بالجنة. يتركون الأسباب الرئيسية والمباشرة كانخفاض أسعار النفط مقابل ازدياد ميزانيات الصرف، كتضخم الاستهلاك مع ندرة الإنتاج، يتركون كل هذا ويشيرون بأصابعهم إلى خروف تم ذبحه إكراماً لضيفين!، ولا نقول بأن ذبح الخروف لضيفين فعلٌ صحيح، بل هو إسراف وتبذير، لكن حشر معظم المسببات في فم الخروف دلالة على وجود حالة من الانفصال التام عن الواقع، وما أحوجنا اليوم إلى إعادة إحياء فقه الواقع، كي لا يتشوه الدين أكثر.

عموما، من أراد التفكر في أمر مجتمعاً ما، فعليه من باب التبسيط ولزيادة الإستيعاب، أن يتخيل المجتمع عبارة عن كائن ضخم تحكمه القوانين نفسها التي تحكم الإنسان، غير أنها قوانين تتناسب وحجم المجتمع، الإنسان مثلاً يمرض، وكذلك المجتمع. الإنسان تتغير نفسيته ويكتئب بسبب العلاج، وكذلك المجتمع يعترض وينتقد بسبب الإصلاح، وهكذا.

إلى هنا والحديث عن النصف الفارغ من الكوب، أما الحديث عن النصف الممتلئ منه، فيتضح حين نتأمل حال المريض وكيف أنه -ورغم الأوجاع والآلام- يزيد وعياً بطبيعة الداء ووعياً بأساليب العلاج، كذلك المجتمع، رغم النقد والتململ، إلا أنه يزيد وعياً بطبيعة الداء الذي أوصله إلى هذه المرحلة، ويزيد وعياً بأنسب الطرق للقضاء على مواطن الخلل.

وجولة في "تويتر" خلال الأيام الماضية تدل بوضوح أن المجتمع بدأ يتعامل مع كل داء أوصله إلى هذا التقشف، الهاشتاقات تنطق وعياً وإلماماً بمواطن الخلل، بـ140 حرفا تجري محاربة شركات هيمنت على السوق لسنين، وحققت فيه أرباحا خيالية بالفهلوة والضحك على الدقون، حتى تخيل الجميع أنها شركات ناجحة فعلا، لنكتشف أنها هشة لدرجة تجعلها تترنح أمام بضعة حروف!، لا لأن الحروف أقوى، ولكن لأن الباطل وإن غدا كالجبال سيسقط أمام وعي ساعة.

إن المجتمع وأمام مرارة التقشف أخذ يبحث عن كل الحلول الممكنة للتخفيف من مرارة الدواء، وهذا هو النصف الممتلئ من الكوب، أن للتقشف أخلاقيات تختلف جذريا عن أخلاقيات الرخاء، في التقشف ترتفع وتيرة الحرص واليقظة وعدم التمرير، بينما في الرخاء فالموضوع تساهيل، في الرخاء تقدم الحكومة كامل الدعم، وإن لم يقدم المدعوم شيئا له قيمة، وفي التقشف لا دعم حكومي إلا بطلوع الروح، في الرخاء يتم غض الطرف من المجتمع عن الكثير من الرزايا، بينما في التقشف يتقعد الجميع للجميع وفي كل مرصد.


هذه هي أخلاقيات التقشف، وعلى كل فهلوي أن يتأقلم مع الوضع الجديد "مع الوعي الجديد"، كأن يعرض بضاعة تستحق العرض ثم يضع لها سعرها الطبيعي، كأن يلتزم بالمعايير وبالحدود المعقولة من النزاهة، وأن يكون الإبداع وسيلته لجذب الزبون لا الفهلوة، فالسوق في زمن التقشف يختلف جذرياً عن السوق في زمن الرخاء، في زمن التقشف لا السوق يرحم ولا المتسوقين الذين تعلموا في الأيام القليلة الماضية كيف يجلدون بـ140 حرفا أعتى المتلاعبين.


هناك تعليق واحد :

  1. شكرًا لمؤسسات الائتمان على القروض لمساعدتي في الحصول على قرضي. لقد كان أمرًا رائعًا أن أتلقى قرضي بقيمة 8,000,00 ريال عماني
    من شركة القروض الخاصة هذه. اسمي عبد الفتاح من مدينة مسقط عاصمة عمان. لقد حصلت على قرضي من شركة القروض ذات السمعة الطيبة هذه في 24 نوفمبر 2023، وأريد استخدام هذه الوسيلة بسرعة لإخبار الجميع هنا أنه يمكنك الحصول على أي قرض من شركة القروض ذات المصداقية هذه. يقدمون القروض بأسعار فائدة منخفضة وبسرعة كبيرة. للحصول على قروضك يرجى التواصل معهم على رقم الواتساب: +393512114999 أو +393509313766. البريد الإلكتروني: Loancreditinstitutions00@gmail.com. WhatsApp: +393512640785 يرجى الرجوع إلى من يحصل على قرضي من شركتها.

    ردحذف