هذا ما جناه العسكر

 

عندما تتقدم راقصة للدفاع عن الوطن فلن يتحقق أي نصر مهما كانت ممشوقة القوام ورقصها بديع، وعندما يتقدم للحفاظ على أمن الوطن والمواطن مطرباً فستعم الفوضى مهما كان صوته شجياً يجلب السرور، هذا لأن أدواراً كخوض المعارك وحماية الحدود والحفاظ على الأمن ليست أدوار ومهام المطربين والمطربات أو حتى الأطباء والوزراء أو المفكرين ورجال الدين، إنها مهمة الجنود في المقام الأول ليأتي البقية كخطوط ثانوية مساندة، وفي الحقيقة لا فرق بين قيادة جيش بالطبل والمزمار وهز الوسط وبين قيادة البلاد بعقلية العسكر، وهنا الإشكالية التي وقع فيها العرب حتى انتهى بهم الأمر لكل هذه الفوضى التي نعيشها اليوم والمسماة بـ (الربيع العربي).

السبب الرئيسي والأهم، والدافع الأكبر وراء خروج الجماهير لتثور على أنظمتها هو أن العسكر تركوا المهمة السامية الشريفة المتمثلة بالدفاع عن الوطن وحماية أمنه والحفاظ على راحة المواطن وتفرغوا تماماً للسيطرة والحكم وتسيير شئون البلاد والعباد، أنهم نقلوا عدتهم وعتادهم وعقلياتهم بكل ما تحمله من صرامة وإنضباط وطاعة للأوامر بلا نقاش لساحة الحياة المدنية، وراحوا يديرون البلاد كما تتم إدارة ثكنة عسكرية، يخططون لبناء الوطن بعقلية التخطيط لمعركة، وعقيدة العسكر مبنية على القوة ولا معنى للقوة ما لم يكن الآخر في حالة ضعف، والشعب هنا هو هذا الضعف الذي يعطي للقوة العسكرية معنى، والتربية العسكرية ترتكز على وجوب الحماية، حماية القضية ككل من خلال حماية الحيز المكاني الصغير الذي يشغله الجندي، والجندي على سدة الحكم يشغل الكرسي، إذاً فحماية هذا الحيز المكاني الصغير هي قضيته الأسمى وإن لزم الأمر حرق الوطن بمن فيه.

الإشكالية ليست في العسكر أو في ثقافتهم أو في الاسلوب الصارم الذي تفرضه الحياة العسكرية، الإشكالية حين ينتقل العسكر من الثكنات إلى الوزارات، من أرض المعركة إلى قصر الحكم، الإشكالية حين يتم هذا الإنتقال من واقع الحياة العسكرية الذي تحكمه قوانينه وقواعده الصارمة والواضحة جداً إلى واقع الحياة المدنية الرحب والمراوغ، دون أن يصاحب هذا الإنتقال أي تغيير في العقليات.

إن للحياة المدنية والحياة العسكرية واقعان منفصلان ولا يمكن إخضاع أحدهما لقوانين الآخر، لكن هذا ما حدث وأدى لكل هذه الفوضى التي يعيشها العرب اليوم، وهذه نتيجة منطقية لعقلية لم تتقبل حقيقة أن الحياة المدنية شيئاً مختلف تماماً عن الحياة العسكرية، فراحت تتعامل مع الوطن ككل أنه مجرد ثكنة عسكرية لا يحق فيها للمواطن إلا تنفيذ الأوامر دون أي نقاش أو إعتراض.

في الحياة العسكرية لا وجود لحلول تفاوضية إنما لابد من شل حركة الخصم أولاً وضرب نقاط قوته بكل قسوة ومن ثم يبدأ التفاوض معه والإستماع إليه إن لزم الأمر، وهذه القاعدة متى ما تم تطبيقها في الحياة المدنية ستغيب الطمأنينة وراحة البال ويبدأ القلق، العقلية العسكرية تنظر لكل درجات الإعتراض أنها جناية وخطيئة تستوجب العقوبة الفورية، المنطق العسكري لا يوجد فيه حق تقرير المصير إنما توجيه القرار من الأعلى للأدنى، وعندما تتولى قيادة عسكرية زمام الدولة المدنية بهذا المنطق الجلف الصارم فسيتم التعامل مع كل أشكال التدافع في المجتمع المدني وكأنه صراع عسكري لابد فيه من الحسم وتكسير العظام بكل قسوة، وربما ينتهي الأمر عند هذا الحد!.

لن تستوعب العقلية العسكرية كيف أن التدافع والتنافس وكل هذه التناقضات والإعتراضات والإنتقادات والنقاشات والإختلافات في الرؤى والتوجهات هي المحرك في الحياة المدنية، وأن تقديم التنازلات في الحياة المدنية وكل هذه المراوغات والإحتيالات تدفع للمزيد من التقدم والنمو بينما التنازلات في الحياة العسكرية لا تضمن سوى الهزيمة، وهذا منطق لا يستوعبه العقل العسكري المبني على الحسم وتحقيق النصر بقوة وبضربة قاضية لا بالنقاش والجدال والتربيت على الأكتاف.

إن الفوضى والثورات لم تجري في كامل الوطن العربي، إنما فقط في البلاد التي يحكمها العسكر وبعقلية العسكر (تونس، مصر، ليبيا، اليمن، سوريا، والعراق من قبل) وهذه البلاد تحديداً هي ما ينتشر فيها الفساد والركود الاقتصادي وسوء الأحوال المعيشية والتعليمية والصحية بشكل يدعوا للرثاء -وهذا ما جناه العسكر- .

يمارس القائد السياسي العسكري جبروته على الداخل وهو يشحذ ويستجدي من الخارج، يحكم قبضته على الداخل ويتعرض خارجياً للهزائم من كل إتجاه، ثم يعوض إحساس الإهانة بالهزيمة خارجياً بأن يزيد من تضييق الخناق على الداخل بكل وسيلة ممكنة، إنها سياسة التواجد وفرض الذات بنشر القلق قدر المستطاع، كلما كان المواطن خائفاً قلِقاً كلما شعر العسكر أن لوجودهم معنى، والخوف من عودة حالة القلق هذه هو تحديداً ما دفع بالشعب التركي أن يخرج لضرب الثوار العسكر بالأحذية، فقائد مدني لا ترضى عنه الأغلبية خيرٌ من قائد عسكري يؤيده 99,99% وهم كارهون.

الخلاصة، أن المجتمعات لا يمكن لها أن تتقدم أبداً ما لم تضبط العلاقات العسكرية المدنية، ما لم تضع قواعد وأنظمة وقوانين تضمن تحقيق التناغم ما بين مؤسسات الدولة وعدم تداخل المهام بينها، لا يمكن ان يتحقق أي تقدم ابداً طالما يتحكم في البلاد أناس يستوحشون من الحياة المدنية.


0 التعليقات :

إرسال تعليق