ضمائر أبرد من هذا الشتاء

جلس "أبو الحسن الأشعري" بين تلاميذه يشرح لهم الآيات ويفسرها، وقبل أن ينتهي أخذ يتلفت حوله فلم يجد القرآن الذي كان بين يديه! نظر إلى تلامذته فوجدهم بين تقي مستغفر وخاشع متعبِد، كانت الدموع الغزيرة تبلل لحاهم من شدة الورع، فتعجب وراح يتساءل: كلكم يبكي، فمن سرق المصحف؟! وسؤال "أبو الحسن الأشعري" بات مع الوقت مثلا يضرب للدلالة على النفاق والزيف والخداع، للدلالة على أن ارتداء قناع الفضيلة لن يخفي الحقيقة الشيطانية، للدلالة على أن براءة الوجه وعلامات الإيمان البادية عليه لا علاقة لها بالأخلاق، بل قد تكون دليلاً على مدى تردي الأخلاق.
ولو أن "أبو الحسن" يعيش بيننا معشر العرب والمسلمين اليوم لتعجب أيما تعجب وهو يرى بكاءنا على حال اللاجئين السوريين في هذا الشتاء، وكيف نتبادل صور معاناتهم وموت أطفالهم لنجهش بالبكاء، كيف نعتلي المنابِر للدعاء لهم بالنصر وتخفيف المصاب. لو أنه -رحمه الله- رآنا على هذه الحال لقال: إن مآسي المنكوبين بالنسبة لكم، ليست أكثر من مادة تدعوكم للبكاء دون الشعور بالألم، وأن دعاءكم من على المنابر ما عاد له طعم ولا لون، إنكم إن كنتم فعلاً على هذا القدر من التلاحم فمن الذي شتت هؤلاء اللاجئين؟ فابكوا أو لا تبكوا، لا فائدة من الدموع والضمائر أشد برودة على المنكوبين من برد الشتاء.
لو أن "أبو الحسن" سأل العالم الإسلامي اليوم لأجبناه بكل بجاحة: إن المتسبب في تجمد اللاجئين هو النِظام السوري الذي وضع يده بيد إيران وحزب الله لتمزيق شعبه. آخرون سيصرخون: بل إنه المجتمع الدولي الذي وعد بحل المسألة ثم أخلف وعده. أطراف أخرى ستشرح كيف أن التيارات الإسلامية حين تدخلت في الشأن السوري مزقت الصف، ليرد عليهم المتعاطفون مع تلك التيارات بتكفير الجميع.. وهكذا نجد اللاجئين لا يزالون يتجمدون من البرد ونحن مشغولون بإشعال النيران في أنفسنا! كل طرف يتهم الأطراف الأخرى حتى يواري سوءاته ويدرأ عن نفسه التهم الغارق فيها حتى أذنيه، كل نظام يلمع لنفسه أمام شعبه الذي يصفق له خوفا فيخيل إليه أن هذا التصفيق عن قناعة.
إن المتسبب في تجمد اللاجئين "نحن" بكل أطيافنا وأنظمتنا، الشيخ والمثقف والسياسي، كل من ذرف دمعة وبكى بكاء الثكالى، إنه هذا الشتات واشتداد الخلاف عند كل مأساة. المتسبب هو هذه النيران التي دائما هي في حالة اشتعال، كأننا لا نجيد إلا زراعة الفتن فيما بيننا، وإذكاء الخلافات والانقسامات، والتشجيع على الاقتتال. كل وسيلة إعلام في بلد عربي لا تزمجِر إلا في وجه دول الجوار، لا تعري إلا دول الجوار، ميزانيات ضخمة تصرف على وسائل إعلام لا تجيد إلا القذف والشتم والتهديد والوعيد، لا أحد يضع حلا، لا أحد يهتم. إن روابط اللغة والدين والقيم والعادات والتقاليد والأرض والدم التي تجمعنا أشياء تركتنا كأسنان المشط المتناثرة في كل اتجاه. إن السبب في تجمد اللاجئين أن الإسلام لم يؤثر فينا، ما زلنا قبائل متناحرة بقناع حضاري. إننا لم ندرك بعد أن تسلط إيران وتلاعب الغرب ليس إلا نتيجة تفرقنا وحسب، والآخرون يستغلون تشتتنا فقط.
وزيادة في انحطاطنا، ها هو "أبو الحسن الجديد" يعتلي المنبر فيتألم لهذا الهدوء البادي على وجوه الجميع، إنه لا يريدهم صامتين، بل يريد أن يرى دموعهم تبلل لحاهم، حتى يسترزق بدوره من هذه الدموع قدر المستطاع. ولهذا يسارِع الخطى في استثمار معاناة المنكوبين، يعرِض صورا لأشلاء القتلى ودماء الجرحى، فإذا تأثر الناس وبدأوا في البكاء والنواح راح يحثهم ويذكِرهم بوجوب التبرع وبعظَم أجر المتبرعين، سيدعو ويُلح في الدعاء بالمغفرة والجنة والرزق في البركة للمتبرعين إن استجابوا وأخرجوا ما في جيوبهم فورا وبلا جدال. سيُقسم بأغلظ الأيمان أن التبرعات ستصل إلى المحتاجين، ونحن يكفينا هذا القسم، يخدعنا دائما هذا القسم. إننا لا نسأل بعد قسمه: أين تذهب التبرعات؟ ولماذا نسأل في الأساس؟ إننا نحن أيضا لم نتبرع لإنهاء معاناة المنكوبين إنما ليغفر الله لنا، ليتجاوز عن خطايانا، ليبني لنا قصورا في الجنة تجري من تحتها الأنهار. لهذا لا يهم أن تصل التبرعات إلى مستحقيها أم لا تصل، لا يهم إن كان "أبو الحسن الجديد" دجالا أم صادقا أمين، في كل الحالات نحن قد أدينا الأمانة وسننام مُطمئنين. وحتى إن افتضح أمره وتبين أنه أخد التبرعات ليغذي فحولته ويعيد فحص ذكورته، لن نهتم أبدا!
قد تردد عزيزي القارئ بعد كل ما سبق، أنني أبالغ في انفعالاتي، وأن في هذا دلالة على عدم نضجي العقلي! حسناً، ما قيمة النضج العقلي في بيئة يتسيدها مجانين بالفعل؟ مجانين يستغلون معاناة المنكوبين لتصفية الحسابات تارة، وتارة أخرى لإعادة فحص ذكورية المسترزقين من النكبات! ما قيمة النضج العقلي وضمائرنا أبرد من هذا الشتاء؟ 

0 التعليقات :

إرسال تعليق