دعوة إلى "اللا إنتماء"



الانتماء يمثل الحضن الدافئ المريح الذي يلجأ إليه الإنسان لإشباع حاجاته النفسية. إن الإنسان كائن اجتماعي بطبيعته فيلجأ للجماعة لا حباً فيها، وإنما كرهاً في الوحدة. يلجأ لها هرباً من الضعف والشعور بالتهميش واللافاعلية، إن الانتماء قالب جاهز مريح يوفر عِدة مزايا للمنتمي إلا أن له عيوبا لا يمكن غض الطرف عنها، أهمها ربط أفكار الفرد بأفكار الجماعة والتقيد بمبادئها وإن خالفت مبادئه وأفكاره.
لقد تغلغلت فكرة الانتماء إلى اللاوعي فينا حتى جعلتنا نؤمن بأننا إن أردنا الانتقال من حالة اللافاعلية إلى الفاعلية فلا سبيل إلا بالبحث عن انتماء، وهي فكرة يعتريها الكثير من الخلل، إنها صحيحة في كون الفاعلية متحققة لكنها فاعلية الجماعة لا الفرد، إنه وإن تميز فسيتميز كنموذج مصغر عن الجماعة يحمل أفكارها وينشر مبادئها التي قد لا تكون بالضرورة أفكاره هو ومبادئه، إنها ضريبة الانتماء!.
الانتماء ضرورة إنسانية ولا مجال أبداً لمنع تحققه، إنه قيمة ولا شك لكن بنظرة سريعة حولنا سنكتشف أنها قد استهلكت تماماً، واستهلاكنا لقيمة الانتماء جعلنا نغفل بل ونستنكر وجود أي قيمة في "اللاانتماء" على الرغم من أن الغالبية في أي مجتمع هم "اللامنتمون"!، إنه المفهوم الأكثر انتشارا والأقل تداولاً.
واليوم، نحن في حاجة إلى البدء في استهلاك قيمة "اللاانتماء" حيث غدت الانتماءات المتعددة من حولنا مجرد أغلال، نحن في حاجة إلى الخروج من عالم الدوائر المليء بالحركة والضجيج بلا اتجاه للأمام، إلى عالم الخطوط المتقاطعة والاتجاهات المتداخلة، في حاجة إلى خلع رداء الانتماء والبدء في التعامل مع الواقع بلا رداء، ومن يفعل سيرى الواقع بعينه لا بعين الجماعة ولن يسره ما سيرى.
ولأن ضريبة "اللاانتماء" تكمن في مواجهة الفرد لوحدته وشعوره بالضعف واللافاعلية، فإن من شأن هذا أن يُولِد فيه الكثير من التوترات والكآبة، لكنها عيوبه هو وعليه مواجهتها والتعايش معها لا الهرب منها إلى حضن الانتماء الدافئ كطفل يرتمي إلى حضن أمه ويغمض عينيه حتى لا يرى، هذا الحضن لن يبدد المخاوف إنما فقط سيمنع من رؤيتها، وبهذا سنجد أن اللاانتماء مرحلة تأتي بعد الانتماء، وعاجلاً أم آجلاً على الطفل أن يبتعد عن هذا الحضن الدافئ إلى توترات الواقع أو لن يبلغ الرشد أبداً.
طبعاً، هذا الحديث لا يشمل كل "لاإنتماء" إنما خاص فقط باللاانتماء هرباً من مآلات الانتماء، اللاانتماء بحثاً عن التحرر ورغبة في رؤية الواقع كما هو بعيداً عن غشاوة الانتماء، هذه الغشاوة التي تجعل الناظر للواقع لا يرى إلا أشكالاً هندسية محددة "دوائر ومربعات" بينما الواقع متاهة من الخطوط المتقاطعة التي تُلغي كل تصورنا عن الاتجاهات التقليدية، في الواقع لا وجود لدخول وخروج والتفاف يمينا وشمالا، إنما خطوط مبعثرة متراكمة تُكوِّن بمجملها لوحة واحدة.
إن اللاانتماء بهذا المفهوم سيُمكِننا من التعامل مع مختلف الأفكار والمعتقدات دون الدخول فيها أو الخروج عنها فهي ما عادت قوالب جاهزة لها مداخل ومخارج محددة إنما خطوط متداخلة متقاطعة تسمح بالمرور فوقها أو عبرها، اللاانتماء بهذا المفهوم يعني اللاانتماء إلى شيء محدد إنما الانتماء لكل شيء، أو بمعنى آخر اللاانتماء إلى الجزئيات إنما الانتماء للمكون الرئيس، إن اللاانتماء بهذا المفهوم سيُلغي أيضاً فكرة "مع أو ضد" فلا حاجة لهذه الفكرة والخطوط كلها متداخلة، هذا إن كان هنالك "ضد"!
لم نخرج يوماً عن عالم المرايا، منذ البدء كانت كل المفاهيم والمعتقدات مجرد انعكاسات لبعضها بعضا، لكننا بالانتماءات لم نر الأصالة متحققة إلا في الانعكاس محور انتمائنا بينما أي انعكاس آخر مجرد زيف يزاحم انعكاسنا على الأصالة! ولا زيف إلا في ادعاء الأصالة.
ختاماً: لماذا الحديث عن "اللاانتماء"؟، لماذا الدعوة إلى "اللاانتماء"؟، لسبب رئيس؛ وهو أن اللاانتماء اليوم يحاكي طبيعة هذا الوقت، ها هي المعلومة تملأ الأثير لتهبط على الفرد من كل اتجاه، وبدوره يصدرها عبر الأثير إلى كل اتجاه بكل تلقائية، هذا الفرد أصبح يتعامل مع الأصوات الصاخبة ذات الإيقاعات المتداخلة بكل بساطة حتى أصبحت سيمفونية اللحن الواحد بالنسبة له نشازا، الواقع أمامه سواء الافتراضي أم الحياتي أصبح مزدحم الألوان والتعابير، ولم يعد يراه مجرد أبيض وأسود، كل هذه الدلالات ألغت المركزية عن حياته، لهذا أراه - وهذا مجرد رأي - أقدر على استيعاب اللاانتماء والتعامل معه بشكل أفضل من أي وقت مضى.
إن أصحاب العقول التقليدية يرون الانتماءات أجمل وأضمن للسلامة؛ لأنهم لا يعيشون اليوم، إنما يعيشون مرحلة سابقة من صفاتها الهدوء ووضوح المعالم، لهذا يرون الواقع فوضويا واللاانتماء تخبطا وضياعا، بينما اللامنتمون يتعاملون مع هذه الفوضوية على أنها نمط حياة، بل إن الفوضى بالنسبة لهم كلها إيجابية رغم كل شيء هذا لا يعني أن اللاانتماء أفضل وأن عقلية اللامنتمي أرقى، فلا أفضلية ولا رقي طالما الزمن يتغير، ينزع بريق الأمس ليهديه لليوم، وغداً يأتي يومٌ أخر سنفقد فيه بريق اليوم.

هناك تعليق واحد :

  1. فكر منحرف والحمد لله على نعمة الإسلام الذي أنتمي له

    ردحذف