كيف تصبح "مدير كبير"؟


حديث أوجهه إلى صغار السن الغِضاض الذين لم تُآسنهُم الأيام، لا إليهم جميعاً إنما سأستثني منهم من يحلم بأن يصبح ضابطا ومن يتمنى أن يتخصص في الهندسة والمذبذبين بين الطب والطيران، لا يعنيني هؤلاء إنما يعنيني أولئك الذين يحلم الواحد منهم أن يصبح "مديرا كبيرا" بأي طريقة وثمن.

حديث لا يتم التطرق إليه في دورات "إعداد القادة" رغم عدم إلمامي بما يقال في تلك الدورات، إلا أنني سأستشف بأنها دورات تضع الطالب أمام طريق مثالي، فتهيأ له أن كل المطلوب منه حتى يصل للمناصب العُليا "عِلم، عمل، أمانة، إخلاص" والكثير من المتطلبات غير الواقعية.

"مدير كبير" عبارة أطلقتها العمالة الوافدة المُحيطة - نظامياً - بكل مسؤول، يصبون له الشاي والقهوة وينظفون له المكتب والسيارة، هؤلاء يطلقون عبارة "مدير كبير" على كل مسؤول بدءًا من رئيس قسم في إدارة "كحيانة" إلى معالي الوزير، الكل في نظرهم "مدير كبير"، فكيف يا عزيزي الشاب تصل إلى هذا المنصب الرفيع؟

في البدء، إن كنت جاداً في تحقيق حلمك، واضعاً نصب عينيك هدف الوصول لذلك المنصب بكل جدية، فاعلم - رعاك الله - أن الطريق يبدأ منذ اللحظة، أعقد العزم وأترك السهر، أخلد إلى النوم في الساعة العاشرة كحد أقصى، لا تشرب الشاي ولا أي مشروب غازي، لا تُسرِف في الأكل ولا تأكل دسِم الطعام قبل النوم، إياك ثم إياك والتدخين، حافظ على الرياضة بانتظام. قد تتساءل: ما العلاقة بين هذه النصائح والوصول إلى منصب "مدير كبير"؟.

الجواب: أنك وبنسبة 99% لن تصل إلى ذلك المنصب قبل سن الخمسين، فإن لم تحرص على صحتك منذ الآن فإنك ستضيف إلى القائمة مديراً كبيرا آخر يعاني من عسر الهضم والقولون والضغط والسكري والقلب، حينها ستصبح عِلة وعالة ضمن باقي العِلل، حينها لن تستمتع بتحقيقك لهذا الهدف، ولن يستفيد من كونك "مديرا كبيرا" لا المواطن ولا مرؤوسيك، الكل يعقد آماله عليك وأنت ترجو الكل كف أذى تأدية المهام المناطة بك.

إن اقتنعت بما سبق، فإليك الوصفة الثانية، الشهادة رغم كونها أداة مهمة تقود إلى ذلك الهدف إلا أنها ليست الأداة الرئيسة هنا، فبناء كثير من العلاقات في كل وقت هي مفتاح الوصول الرئيسي، وإنك لن تبني علاقات واسعة إلا إذا تعلمت فن الإيحاء، أن توحي لهذا وذاك أنك فلتة زمانه الضليع في كل أمر، كن أمام الجميع شيخاً وقورا، كن خطيبهم والداعية، كن شاعرهم المرهف، كن مرجعهم في التجارة والإدارة والسياسة، كن أعلمهم في الفلك والانشطار النووي، ثم تفلسف أمامهم عن الطبخ والعقار ورعي الماشية، وإن لزم الأمر كن مطرب القوم والراقصة، تعلم أن تأوي كل الشخصيات في شخصك الكريم، كن خنفشاريا حلزونيا متعدد الخلايا، تلون ثم تلوى وستصل سريعاً جداً حتى قبل أن يتساءل أقرانك: كيف ومتى أصبح هذا "مديرا كبيرا"؟

هل وصلت؟، لا لم تصل، تنقصك الآن بعض الفنون، أن تتعلم فن كسر أصابع من يعترض طريقك، وفن تدبير الأمور من تحت الطاولة، ثم أقلب الطاولة على رأس من يباغتك، تعلم فن المشي على الحبل كبهلوان وليكن حبلك هنا هو القانون، تعلم ألا تسقط وليكن تلاعبك بالقانون قانونيا تماماً، ومبروك أنت الآن "مدير كبير".

الكرسي خلفك والمهنئون أمامك، هنا لا بد لك أن توضح لهم أي المديرين أنت، وإن كنت لا تعلم فأنواع المديرين المتوفرين أمامك، أولاً: المدير الحشري المهتم بتشكيل حروف كل خطاب، ومواعيد الحضور والانصراف، وأين ذهب الموظف فلان؟، ومن أحضر الفطور لمن؟. ثانياً: المدير المتشعب، ابن هذا المدير مديراً للمالية، بينما ابن أخيه مديراً للمشتريات، أما مدير الموارد البشرية فهو ابن خالته "مرزوقة" التي أوصته بالأمس أن يُعين ابن أختها "مزنة" مديراً للتطوير والإبداع. ثالثاً: المدير الفيلسوف الذي حين يتقاعد يخلف وراءه رطل كلام، اجتماعاته غثيثة يلقي فيها نكات سخيفة، عصاميته دائماً محور الحديث، يفقه في كل شيء ثم لا ينجز من كل ما يفقه أي شيء سوى الكلام.

في الختام، هذا الموضوع ليس وصفاً للإدارات والمديرين بالعموم، فالعموم في نظري أنه يحسن صنعاً، هذا الموضوع وصف للشذوذ في القاعدة، وما يشذ عن القاعدة دائماً يلفت الأنظار كما تلفت النخلة العوجاء أنظار راعيها الذي تعب في سقيها وتشذيبها وتلقيحها لترد له الجميل بأن تُساقِط ثمرها على حوض الجيران لا اعوجاج في جذعها.

كما رعى هذا الوطن أبناءه ليرد بعضهم هذا الجميل بقرارات ارتجالية عاطفية وخطوات متخبطة متعثرة، والنتيجة فشل وتباطؤ وتلاعب بمعظم المشاريع التنموية، وانتشار المحسوبية والواسطة والولاءات والشللية والابتسامات الصفراء، معظم هذه المشاكل مردها أن هاهنا من يعتقد أنه فلتة هذا الزمان الذي عجِزن فيه الأمهات إنجاب مثيل له، مثل هذا قد يحكي لأبنائه عند كل وجبة غداء كيف أن الله قد هيأه وسخره وقدر له منذ أن كان غض الشباب يافعا لمنصب "مدير كبير"


0 التعليقات :

إرسال تعليق