الراتب ما يكفي .. والناس تعبت

تابعنا كلنا -تقريباً- ومازلنا نتابع هذا التفاعل الذي صاحب هاشتاق "الراتب ما يكفي الحاجة" على تويتر، تفاعلاً جعل الهاشتاق وخلال ساعاته الأولى يندفع إلى المراكز الأولى عالمياً، وإحتلال هذه المرتبة المتقدمة لا يُمكِن إعتباره إلا كدليل صارخ على ما يمر به المجتمع من حالة إرهاق مُهلِكة مُؤلِمة، إرهاقاً سببه هذا الركض الجماعي في كل إتجاه لضمان رزق اليوم وطمأنة النفس على الغد، وما يزيد من حِدة الإرهاق أن الفساد أيضاً ينطلق في كل إتجاه، مزهواً غير آبِه بكل ردات الفعل!
ومن باب الأمانة يجب الإعتراف بأن الهاشتاق قد إحتوى على كمية من الوعي تكفلت تماماً بتصحيح الأفهام وتوضيح حقيقة أن الراتب ليس هو القضية أبداً، والجميع –تقريباً- أدرك وآمن بهذه الحقيقة، على الرغم من هذا إلا أن التركيز قد إنصب بالكامل على الراتب فقط! .. حسناً، ليس في الأمر أي تناقض، لأن هنالك حقيقة أهم يجب إدراكها تتلخص في أن الإرهاق الذي يمر به المجتمع قد بلغ مداه فعلاً، وليس بالإمكان تحمل المزيد، والمريض حين يبلغ به الآلم إلى هذا الحد سيُطالب فوراً وقبل كل شيء بمُسّكِن يُسّكِن له آلامه ولو بشكلٍ مؤقت، من هنا يُمكِن القول بأن عملية المطالبة بزيادة الراتب هي ذلك المُسّكِن الذي يُطالب به المجتمع لتسكين آلامه .. وطالما الطريق إلى الشفاء طويل فمن الطبيعي أن تصبح المُسكِنات ضرورة.
ويجب التأكيد هنا بعدم مشروعية اليأس من الشفاء، لكن الإحباط أمراً وارد جداً -ولا أحد سيلوم المُحبطين- فكل أساليب الإصلاح حتى الآن تُشعِر المواطن بالإحباط فِعلاً، أساليباً جعلت المواطن وأينما نظر يرى مستقبله قد إتشح بالسواد، فهو إذا ما أراد أن يُحسِن من تعليم أبنائه عليه أن يدفع، والراتب ما يكفي!، وإذا ما توجه إلى المستشفيات الخاصة سيتم التعامل معه "كمصدر دخل"، والمطلوب من "مصدر الدخل" أن يكون مكنة لجني الأرباح السريعة رغم أن راتب هذه المكنة ما يكفي!، والسياحة الخارجية بالنسبة له عملية مُكلِّفة أما السياحة الداخلية فأكثر تكلفة والراتب في كل الحالات ما يكفي! فإذا ما أراد الإنطواء على نفسه وإغلاق باب بيته ستلحقه فواتير الكهرباء والماء والإتصالات بالإضافة إلى الإيجار وأقساط البنك والسيارة، والراتب ما يكفي! .. لقد أصبح المواطن يعيش ليدفع لا يدفع ليعيش.
"الراتب ما يكفي الحاجة" .. من يعتقد أن حاجاته ستصبح في يومٍ من الأيام أقل من دخله فهو واهم، فالحاجات دائماً أعلى من الدخل، من يتحصل على ألف ريال آخر الشهر فالألف لن تكفي حاجاته، ومن يتحصل على مئة ألف آخر الشهر أيضاً لن تكفي حاجاته، هذه هي القاعدة بالنسبة للإنسان الفرد، قاعدة لن تكسرها إلا "حفنة تراب" .. لكن عندما يتحدث المجتمع عن "الحاجة" ويتحول حديثه خلال أياماً معدودة إلى ملايين التغريدات، تغريدات تدفع بالهاشتاق الذي إحتواها إلى المراتب الأولى عالمياً، فإن المقصود بالحاجة هنا وبشكلاً واضح أنها "حياة كريمة" ولا شيئاً أخر، حياةً يضمن فيها الفرد رؤية ضؤاً في أخِر نفق مستقبله المُظلِم وإن كان ضؤاً خافتاً، حياةً فيها أن "القانون يحمي المواطنين" لأن الفاسدون دائماً ما يُبررون إفسادهم بأن "القانون لا يحمي المغفلين"، حياةً لا يضطر فيها المواطن إلى الرضوخ دوماً لكي يضمن رزق يومه، حياةً يعود فيها المواطن إلى بيته وهو هانيء البال، حياةً لا يتصف فيها المجتمع بأنه إستهلاكي للدرجة التي يستهلك فيها الإنسان أخيه الإنسان، حياةً لا يكون الضمير فيها محل سخرية والطيبة سذاجة فيضطر حينها المواطن أن يتعلم "الـفهلوة" والبراعة في خداع القانون، وأن يكون موهوباً بالمكر والنفاق والرياء حتى يُحقق النجاح ويضمن حياةً مُرفهة ليست فيها كرامة .. هذه هي الحاجة التي يريدها المجتمع، وهي بهذا المفهوم لن تتحقق بزيادة الراتب -أبداً-، إلا أن الزيادة ستحافظ على إبقاء الأمل داخل النفوس بأن هنالك من يهتم بتوفير هذه الحياة مستقبلاً.
ويبقى الأمل بالله -عز وجل- ثم بالقيادة الرشيدة التي تسير خلف قائد الإصلاح "خادم الحرمين الشريفين"، أن يجتاز هذا الوطن محنتة ويتم إقتلاع داء الفساد الذي أنهك الجميع "حكومة وشعباً"، ولا نشك أبداً بأن هذا الداء زائل لأن الوطن أكبر بقيادته وشعبه، شعبه الذي أثبت ومازال يُثبِت كل يوم أنه شعب وفيٌ أصيل، وهاهو أمام هذه الضائقة التي أرهقته لجأ فوراً إلى أسلوباً راقي جداً ينم عن معدناً أصيل، أسلوباً يُشبه إلى حداً كبير طلب الإبن من أبيه بكل إحترام وتقدير أن يزيد مصروفه، والجميع فِعلاً وعن قناعه لاينظرون إلى "أبو متعب" –حفظه الله- إلا كنظرة الإبن لأبيه، تلك النظرة لن تشوبها شائبة مهما برر أعداء هذه الحملة من جُهلاّء وإنتهازيون.


0 التعليقات :

إرسال تعليق