حرية التعبير بالصراخ


حِكمة : [ المال سيزول ليبقى الإنسان، و الإنسان هو من يُعال عليه في بناء الوطن و صناعة المال ] 
حِكمة جميلة من ضمن ألاف الحِكم والأمثال والعبارات الجميلة المُنمقة قد كتبناها و ألفناها و نشرناها حتى أصبحنا نعتقد أننا فعلاً أكثر حِكمة مما نظن !
إن من يقرأ كلماتنا المُنمقة وحِكمنا الخالدة سيعتقد أن أفواهنا تُعبر عن واقع حضاري مزدهر، ثم إذا ما عاش بيننا فلن يتوانى عن ترديد : تباً لكم من ناعقون !
لا يوجد غير الحِكم والنُصح والمواعظ في حاضرنا ، مجرد كلمات نُطلِقها بمثابة المرهم الذي نضعه في المكان الوحيد الذي لم يُصاب بعد ( أفواهنا ) لأننا أحرص الناس على تلميعها و الحفاظ عليها من أي صدأ سيطرأ عليها ، كل ذلك حتى لا يتوقف الشيء الوحيد الذي لا نجيد سواه ( الصراخ )
إننا نستطيع بكل سهولة أن نقول بأن الإنسان هو الأهم ، لكن الواقع يُوضِح لنا بجلاء أننا مُجرد أفواه ، فهاهو المواطن في هذا الوطن لم يبلغ في الأهمية حتى ضمن المراتب الأولى ! فهنالك [ النفط ، الشيوخ، الأمراء، الوزراء، مؤسسات الجباية، المصلحة العليا، البعارين، البنوك .... ثم المواطن ]
حتى قيمة المواطن في هذا الموقع المتدني تتحدد بمدى إلتزامه وتنازله التام عن حقوقه ، لأن أي محاولة منه بالتصريح أنه إنسان فسيرتد إلى أسفل سافلين .
                                   
وتماشياً مع تاريخنا العريق في الرغي والبربرة ، ذلك التاريخ الذي بدأناه مع المعلقات العشر حتى أنتهينا إلى الخوار .. ها نحن اليوم نُردد بلا هواده [ فساد .. فساد .. فاسدون .. لعنكم الله ..... ] و الكثير من المفردات التي لا فائدة منها إلا إستهلاك أكثر للأكسجين .
الكل يصرخ في الإعلام، في مواقع التواصل، في المساجد، في الصحف، وكل الصراخ يندرج تحت بند [ التوضيح و التبيين و نشر الوعي ... ] والكل سعيد بأنه يصرخ معتقداً أنه بهذا فهو يُؤدي الأمانة على خير وجه وأنه ناصر الحق المُهاب .

المشهد للناظر إلى واقعنا من أحلامه سيرى أننا نعيش فترة من أزهى الفترات في مجال حريات [ التعبير، و الرأي، و الإعلام ] غير أن الحقيقة التي يُدركها أول من يُدركها هم جماعة الصارخون بأن تلك الحريات لها ضوابط و شروط .. ضوابط " شرعية، قانونية، عـُرفيه، سياسية " ضوابط تخنق الصوت حتى تجعله مجرد خوار يُزعج السامعين .

الكل وفي كل مكان حتى في أحاديث المجالس يُردد و يصرخ بلعن الفساد و شتم المُفسدين بأقدح الالفاظ .. إلى هنا وتنتهي المسألة وأي مُحاولة فعلية لتجاوز الصراخ المسموح به تُعتبر خط أحمر بفتوى شرعية مُعتبرة !

ولا مانع أبداً من تفجير بعض القنابل الصوتية هنا و هناك، كأن يُحاور المديع ضيوفه بأسلوب الأب الذي ضاق درعاً بأبنائه، فيصرخ في وجه هذا و يُسكِت هذا و يتوعد هذا .. فلا تنتهي الحلقة حتى يُردد المشاهدين [ كفوا والله ] .. ولا أحد يستطيع أن يُلمِح مجرد تلميح بأن القنبلة الصوتية بلا مفعول من الأساس.

إننا مع هذا النمط المُستحدث من حُريات الإعلام و الرأي و التعبير تمامً كالذي يركض و يركض لكن في مكانه ، صحيح أنه يبدل جهداً واضحاً لكنه في نفس الوقت لا يتقدم بل وممنوع عليه أن يتقدم .
وها نحن نُشاهد هذه العلاقة الغرامية بين صراخنا وبين الفساد ، فكلما إرتفعت وتيرة الصراخ كلما إرتفعت حِدة الفساد ، وهذا يقودنا إلى أن للإعلام والمواطن كامل حق الصراخ وللنظام كامل حق الإفساد ( دعوهم يصرخون و دعونا نعمل )

**********

الصراع الإسلامي الليبرالي الذي أصبح كصراع الأطفال ، فنِقاط الإشتراك بينهم كثيرة لكنهم لا يجتمعون ( لمصلحة عليا ) .. أن يظل الصراع قائمً ففي هذا ضمان بأن يُوجد من الضجيج ما يكفي لإسكات كل صراخات المواطنين .
وأي مُحاولة لرأب الصدع المُفتعل عقوبته السجن بلا تُهمة سواءً كان السجن بقضبان أو بتجاهل الإعلام .
أما عن الإعلام فدوره المُحدد أن يستلم من الصرخات ما ليس فيها تشويه لصورة النظام ثم يُبرزها لتتشوه صورة الشعب ! كمحاولة على تأكيد فِكرة أن المجتمع متخلف قبيح ( طفولي ) يثور بسبب رقصة لإمرأة في الجنادرية ولا يهتم بضياع مليارات على المشاريع الوهمية !
إعلام يبيع الكلام على الحكومة أكثر مما يبيعه على الشعب ، والحكومة تدفع له ما تضمن به أن لا تسمع عنه سوى عبارات الحمد و الثناء .. والله يعز الحكومة ما قصرت لكن البلا كل البلا في الفاسدين المُفسدين .
من هي الحكومة التي ندعوا لها صباحً و مساء بأن يعزها الله ؟
أليست تتكون من السياسيين و الإعلام و القضاء والوزارات ...... إلخ ! .. فكيف نلعن كل جزء منفرداً لكننا ندعوا للحزمة مجتمعة بالرفاة والبنين ؟

إننا لا نجني شيئاً من صراخنا و عويلنا ولطمنا بسبب الفساد ، ولن يستجيب الله دعائنا على المُفسدين لأن المُفسدين هم أول من يرفعون أكفهم للدعاء على المُفسدين دون أن يرف لهم جِفن ، فالواحد منهم ينام قرير العين في قصره العاجي ثم يستيقظ ليظهر لنا في الإعلام بمظهر المُصلح الذي يحمل الداء للقضاء على الفساد ويصف لنا الدواء المناسب وهو الداء !
طبيعي جداً أن يخرج من نهب الملاييين و المليارات في الإعلام وهو يٌحدثنا بقال الله وقال الرسول ، ونحن نصدق دائمً نُصدق بل وندعوا له بالبركة في المال و البنين فنحن ليس لنا إلا الظاهر و الظاهر أنه من أولياء الله الصالحين .. يسرق ملياراً ثم يتبرع بمليون فنصفق فإذا ما جاء من يسأله من أين لك المليون أساسً ؟ سنشتمه فوراً : إتق الله ! أتشك في رجلاً من المخلصين ؟

**********

لحظة أيها الصارخون
قفوا .. تأملوا .. إسترقوا السمع
لا شيء قد تحقق لأن صراخكم في الأساس له خطً مُحدد ، أن يصرخ الجميع في كل إتجاه إلا في الإتجاه الصحيح ، وهذا ليس أكثر من ضجيج
ورغم أن من حق الجميع "حقً يكفله النظام" أن يصرخ و يملأ الدنيا بالصراخ إلا أنه لا أحد هنا له رأيً أو صوت ، لأن النظام الذي يكفل لك حق الصراخ هو أول من سيقطع لسانك إن تعرضت للنظام بالصراخ .

فما هو النظام ؟
في الحقيقة هو (......) !
طبعاً أنا هنا لا أقصد (......) أبداً ، إنما أقصد (......)
وما بين الأقواس هو بالضبط ما يُراد لنا أن نستوعبه ، أن يضع الجميع بين تلك الأقواس أي إسم يشاء إلا إسم (......) رغم أنه هو الداء .
وما بين الأقواس أيضاً ليس له إلا معنى واحد ، أن لا يستوعب الجميع شيئاً بعينه فكل الإحتمالات واردة والجميع يضع كل الإحتمالات الواردة لكن لا أحد يجرؤ أن يضع الإحتمال الصحيح