المواطن و السقوط للأعلى


(1)
نيوتن والسقوط لأعلى
جلس نيوتن ذات يوم تحت شجرة، ربما أعياه التفكير، ربما أرهقه التأمل ! .. المسكين لم يحمد الله مثلنا آننا لا نُفكر حتى لا نُرهِق أنفسنا على إعتبار أن التفكير مفسدة لصفاء العقيدة ، ونحن إن –لا سمح الله- فكرنا في سبب تساقط ضمائر المسئولين إلى تحت أقدام المواطن لفهمنا أسباب هذا السقوط ، لكن بما اننا لا نفكر أساسً و نكتفي بترديد ( لنا الآخرة ) فستسمر الضمائر في التساقط حتى ننهش في لحم بعضنا البعض
وكما تسائل نيوتن : لماذا تسقط التفاحة إلى تحت و لا تصعد إلى أعلى ؟ .. يحق لنا أن نتسائل بدورنا : لماذا البعض هنا عندما يسقط أخلاقياً يصعد لأعلى ؟! في تحدي واضح لمباديء الإسلام .. ولا يوجد تفسيراً منطقياً لهذه الحالة إلا أن القاع هنا هو القمة ، أي أننا مجتمع مقلوب رأساً على عقِب .
والشيء الأخر .. أننا لو لاحظنا حال نيوتن سنجده كان يجلس تحت شجرة ثم سقطت عليه تفاحة ، وهذا يقودنا إلى أن الأرض التي زُرِعت فيها شجرة التفاح لم تكن مُشبّكة ولم يكن على الشبك لوحة (أملاك خاصة) .
ولو أننا دققنا النظر في حادثة نيوتن سنستنتج أيضاً أن زراعة التفاح في ذلك الوقت لم تكن حِكراً على تاجراً واحداً في البلد يحتكر جميع التفاح ثم يبيعه بأعلى الأسعار كأنه تُفاح أبوه !
يُمكن القول أن نيوتن لو كان في هذا الوطن فغالباً سيُسجن و سيدفع غرامة مالية و يُشهر به ، أولاً لأنه تعدى على أملاك خاصة و ثانياً لأنه أكل تفاحة لم يدفع ثمنها .
عموماً ،،
إن قانون الجذب العام و قانون الطرد العام ، الذي جاء به نيوتن بسبب سقوط تفاحة ، يسري على كل شيء أخر .
فهنالك دولاً تطرد وأخرى تجذب .. هنالك واقعاً يطرد و واقعاً يجذب .. هناك مجتمع يجذب وأخر يطرد .. و هكذاً حتى تتمزق أيها المواطن بين الجذب و الطرد .
و دائماً المجتمع الذي يطرد أفراده فمرد هذا لسياسات التخلف و الجهل و إنتشار الفساد ، وعلى النقيض سنجد المجتمع الذي يجذب هو المجتمع المتحضر الذي يحترم الإنسان .
فلماذا لا يكون هذا الوطن عامل جذب لا عامل طرد ؟

إن الطرد لا يعني دائماً الإبعاد بالقوة أو النفي ، فأحياناً يكون بكامل إرادة المواطن و بإختياره و رضاه حين تضيق عليه فرص الإستمتاع بحياة طبيعية و تنعدم كل البدائل أمامه .. و الطرد لا يعني الإبعاد خارج البلاد دائماً إنما الغالب أنه يعني الإبعاد إلى الداخل ، إلى الإهمال و التهمييش .
وكما قال " بايرون " : من يخسر كل مصادر سعادته لا يهمه في أي هُوَّة سقط .
وعندما يجد المواطن نفسه في مجتمعً يسير بالمقلوب ، حيث أن كل ساقطٍ يسقط لأعلى وأنه إن تمسك بالأخلاق و القِيّم سيسقط لتحت ، حينها سيُصبِح الهرب خيار كوسوسة الشيطان .
**********
(2)
الهروب
من أشكال هروب المواطن ،،
الإنتحار : هرباً من ظلم الفساد .
الجنون : هرباً من إرتفاع الأسعار ، أو نهب المال العام .
الصمت : هرباً من الإعتقال .
تعاطي المخدرات : هرباً من العطالة .
والغالبية العُظمى من المواطنين تهرب من الواقع إلى الكسل ، إلى عدم فِعل شيء و عدم الإكتراث بشيء ، فقط يكتفون بالإنتقال بين المقاهي و متابعة المباريات و النوم و التنقل عبر القنوات .. وطز في الواقع الفاسد يا وطن .
وهنالك من يهرب من الوطن إلى التعصب و الإنتماء القبلي أو العشائري ، بحثاً عن جِهة تأويه و تحميه من هذه الفوضى التي يعيشها الوطن .
أما في الصيف فلا تسألوا عن أعداد الهاربين من هذا الجو الحار صيفاً الجاف شتاءً المرتفع الأسعار طيلة العام .
**********
(3)
الفساد
إن الفساد هو أحد أهم عوامل الطرد في الوطن ، و أحد أهم مسببات هروب المواطن .
لكن إلى أين يهرب المواطن ؟ .. في الحقيقة إلى لا مكان فعلي إنما إلى الإختباء
يختبيء هرباً من الواقع إلى الكبت .. إلى الآلام النفسية .. إلى العنف الأسري .. إلى أي إتجاه يمارس فيه التحطيم ، تحطيم ذاته أو تحطيم المحيطين به أو أقرب المقربين منه ، فالفساد قد ضيق عليه الخِناق جداً حتى لم يترك له مجالاً ليتنفس من خلاله .. ليكون هروبه هنا دلالة إختناق .
وعلينا هنا أن نتسائل : لماذا تزامن إرتفاع وتيرة العنف الأسري بإرتفاع حِدة الفساد ؟
**********
(4)
بعض أنواع الهروب
التعليم : حين نجد المواطن البسيط يهرب من المدارس الحكومية إلى السخط والشتم و تلقين أبنائه مباديء الفهلوة و الشطارة لأن الدراسة ما راح تأكلهم عيش !
أما المواطن متوسط الحال سيحاول الهرب من الفساد التعليمي الحكومي إلى المدارس الخاصة فيُحمِل نفسه فوق طاقتها رغبة في أن يتحصل أبنائه على تعليم (محترم) و في الحقيقة هو غالباً لن يجده في التعليم الخاص إنما سيُحمِل نفسه الديون فوق الديون ولا شيء أكثر .
أما المواطن صاحب الدم الأزرق ذو المراتب العُليا فلا ولن يتنازل أو يتكرم أن يُشاهد أبنائه يدرسون في هذا الوطن أبداً ، فكبريائه وكرامة أبنائه ليست رخيصة حتى يهدرها في التعليم داخل الوطن !
ومن هنا أصبحت البعثات هي المسار الطبيعي و الحلم المنطقي الذي يُراود كل طالب يتخرج من الثانوية !
الكل يريد الهرب من هذا التعليم ومن فساد التعليم إلى أي مكان ، حتى أبناء وزير التعليم درسوا في الخارج .. و أبناء الوزيرالذي سبقه أيضاً درسوا في الخارج .. و أبناء كل مسئول يدرسون في الخارج
لأن الجميع يعلم و يُدرك أن التعليم عندنا ليس إلا مهزلة .

الصحة : نفس منطق التعليم يتكرر في الصحة ، ففساد الصحة يُجبِر المواطن البسيط إلى أن يهرب من سؤ معاملة القطاع الصحي إلى الإستغفار و الدعاء بالهلاك على كل من تسبب بهذا الوضع .
بينما المواطن متوسط الحال فسيهرب إلى المستشفيات الخاصة ، لتتكرر معه الحالة ، فهو لن يجد الصحة و العافية بقدر ما سيجد الديون المتراكمة .
أما المواطن صاحب الدماء الزرقاء فإن عطس سيحجز على أقرب رحلة لأوروبا للعلاج و الإستجمام و غالباً ستُصرف له ميزانية كامل الرحلة كإنتداب !
أصبح المواطن إن مرض يُحاول أن يتحمل ألام هذا المرض على أن يُسلِم نفسه إلى المجازر و دُور العزاء التي سُميِت زوراً و بهتاناً " مستشفيات " .
الطيران : فساد الخطوط السعودية يُمكِن القول عنه بأنه الفساد الذي جمع كل أطياف المجتمع على " سخط " واحد .. حتى أن المواطن الذي يُفضِل الخطوط السعودية أثناء الرحلات الخارجية سيجد من أصدقائه الكثير من علامات الإستهجان ، أبسطها ( إنت غبي ! )
الرياضة : طبعاً لا يوجد هنا رياضة سوى كرة القدم ، و مع أن التركيز التام عليها لعدم توفر غيرها إلا أنها فشلت !
لذلك يهرب المواطن إلى تشحيع أسبانيا و البرازيل و ألمانيا و فرق أوروبا ، لدرجة أن غالبية المجتمع أصبحت توالي دول الخارج " رياضياً " على أن يكون لها إنتماءً لهذا الوطن " كروياً "
إلا أن هنالك بعض المشجعين الذين منعهم التعصب لناديهم من أن يتجاهلهوه تمامً  فيتابعونه على مضض .
أما المنتخب السعودي الأول فأصبحت متابعته لمجرد تضييع الوقت .
**********
(5)
الهاربون
القاضي يهرب من العدل إلى الظلم .
المسئول يهرب من المسئولية إلى الإهمال .
العالِم يهرب من العلم إلى تكفير المخالفين .
المثقف يهرب من قول الحق إلى التزلف و الإنسداح .
التاجر يهرب من الأمانة إلى الجشع .
السياسي يهرب من الحكمة و الحنكة إلى الفوضى .
فساد في فساد !!
أشك أنه حتى رئيس هيئة مكافحة الفساد قريباً سيهرب إلى البيروقراطية و الروتين و " راجعنا بكره "!

**********

فاستمر عزيزي المواطن هارباً في أي إتجاه .. في كل إتجاه .. بلا قرار
و في طريقك ادعي على نيوتن بالهلاك ، فلو أنه –هداه الله- أكل تفاحته و مضى في حال سبيله لما إكتشفنا أن السقوط للأعلى أمراً غير طبيعي ، لأن الجميع هنا إن سقط يسقط إلى القمة وهذا عندنا هو الطبيعي .