فضيلة الشيخ (USB)


( هم في الأخير بشر )
من أراد إنتقاد شيخً أو عالم مُعتبراً أو صاحب فضيلة دون أن يُردد بين الجملة و الجملة هذه العبارة ما بين الأقواس، بإختصار لن يُقبل إنتقاده بل وسيُنظر إليه أنه أحد المغضوب عليهم
وقد أصبح ترديد هذه العبارة بمناسبة و بدون مناسبة دليلاً على أن في عقيدتنا خلل، ودليلاً على أن شيوخنا الأفاضل قد أحاطوا أنفسهم بهالة من القداسة وإن لم نعترف بها في العلن أو إن لم يعترفوا هم بها في مجالسهم إلا أنها موجودة و مشاهدة كأهم الأساسات التي يرتكزون عليها لنيل المكانة الإجتماعية التي هم عليها اليوم بالإضافة إلى مكاسب أخرى يطول الحديث عنها.

[ فضيلة الشيخ ، صاحب الفضيلة ، العلامة ، فضيلة الشيخ العلامة ، سماحة الشيخ ، العالِم ، البحر ، الفقيه ، المحدث، إمام الأمة ، الواعظ ، الداعية ، طالب علم ]
ألقابً ما أنزل الله بها من سلطان، غير أن الشيطان كانت له يداً في إرساء هذه الألقاب لدى عقول الأتباع، كما أرساها في عقول أتباع الكنيسة حين أضافت لأتباعها ألقابً على وزن [ البابا ، الأسقف ، البطريق ، الكاهن ، القِسيس ، الشماس ، الواعظ ، الخادم ]
والله سبحانه يقول :{ إن هي إلا أسماءٌ سميتموها أنتم و أباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى }

لماذا تلك الألقاب و التركيز عليها و الحرص على إضافتها و أن تسبق إسم أحدهم في كل خطابً يُصدره كأنها من أركان الإسلام ؟
السبب واضح : التقديس و جلب الأتباع وخلق هالة من القداسة و إستغفال العامة
ولو أننا تتبعنا التاريخ سنجد أن كل المفكرين و العظماء الذين تركوا أثراً في التاريخ لم يكن تركيزهم على هذه الشكليات ! .. لأن الإنسان الواثق بنفسه و بعلمه ليس في حاجة إلى اللجوء لألقابً تُغطي جهله و تستر عوراته.
غير أن هنالك سبب لا يقل أهمية عن سابقه، وهو زرع الخوف في قلوب من يريد إنتقاد هذا الشيخ أو ذلك العالم فيُؤثِر الناس السلامة و يُفضِلون عدم الدخول في جدال مع من يحمل من الألقاب ما يجعل الأتباع يزئرون في وجه كل من يقترب من شيخهم الجليل!
حتى أصبح حال الشيوخ اليوم كحال الذي خاطبه موسى -عليه السلام- { فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس } .. لا أحداً منهم يتقبل أن تكون ذاته أو أرائه موضع مساس، وإن -لا سمح الله- مُسّت ذاته أو رأيً قال به سينبري الأتباع بتفسيق و تكفير و زندقة من مس تلك الذات المقدسة.

كل ذلك أدى إلى نتيجة منطقية بمنطقية الفوضى التي نعيشها، أن التعرض لرجل الدين هو تعرضً لله و لرسوله وللمؤمنين، كأن فضيلته كفرد يُساوي الإيمان بالمجمل، و نسي ثم نسى الأتباع أن متبوعهم رجلاً من عامة الناس لا قدسية لرأيه أبداً و بالأخص اليوم مع الإنفتاح الإعلامي و سهولة الوصول إلى المعلومة ومنها إلى الحقيقة.
وأن اليوم لم يعد فيه مكانً لمن تعود أن يكون في منتصف الحلقة، يستشيره الجميع و يستأذنه الجميع في كل أمر و كل صغيرة و كبيرة، ولم يعد مُرحباً بمن يأخذ دور الوصاية على المجتمع وهو منطلقاً من مبدأ { ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد }

قد إنتهى ذلك الزمن الذي يجلس فيه الشيخ وسط حلقة تحيط بها حلقة و من خلفها حلقة وعن يمينها و شمالها حلقات إثر حلقات، و الكل يسأل و يستفسر و الشيخ الفاضل العلامة الجهبذ يُجيب دون أن يُخطيء .. إنتهى ذلك الدور حين تطور العِلم و تحضر المجتمع حتى أصبح الـ (USB) الذي يُوزن بالغرام يحتوي من المعلومات أضعاف ما تحتويه عقول كل العلماء مجتمعة .. وأصبح الطفل إبن العاشرة يستطيع أن يستحضر المعلومة بسرعة تفوق سرعة الشيخ وهو يعصر دماغة لإستحضار معلومة حفظها يوماً ما.

إن سرعة إستحضار المعلومة لم تعد ميزة اليوم، و تكديس المعلومات داخل العقل ليست مطلب، و عملية تجميع كل كتب مكتبة الإسكندرية لم تعد تتطلب سوى جهاز (USB) ليشمل كل ما فيها.
وهذا ليس تحقيراً لعقل الإنسان، لكن التقنية اليوم ألغت الحاجة إلى وجود تلك العقلية الموسوعة التي تستوعب شتى أنواع العلوم، فيخرج الشيخ في الإعلام ليتحدث في كل شيء بدءً من علم الفلك و إنتهاءً بالحيض و النفاس! .. لأن الناس حينها لن تنبهر بسِعة علم الشيخ و تكدس المعلومات في دماغه بل أنها ستعرض عنه وهي تتهامس : الأسئلة مُعدة سلفاً و الأجوبة جاهزة.

اليوم أصبحت المعلومة متوفرة في كل مكان، و الوصول إليها أصبح بسرعة الخاطر.
ونحن ما زلنا مبهورين بذلك الشيخ الذي يحفظ القرآن كاملاً و يحفظ ألاف الأحاديث و التفاسير و تفاسير التفاسير .. بل إننا لو قارنا هذا الإنسان بأي أداة تخزين أخرى سيكون مجرد نسخة رديئة بدائية وهذا من باب المديح.

إن القرآن مليء بأوامر التدبر و التفكر و التأمل و النظر { أفلا يتفكرون } ، { أفلا يعقلون } ، { أفلا يتدبرون } ، { قل سيروا في الأرض فأنظروا ... }
وفي نفس الوقت ليس في القرآن دعوة واحدة للحفظ وكأن الإنسان آلة ! و الآية الوحيدة التي جاء فيها الحفظ بهذا المنطلق كانت من باب الذم { مثل الذين حُمِلوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً بئس القوم الذين كذبوا بأيات الله و الله لا يهدي القوم الظالمين }
رغم هذا فإن الواقع ليس فيه إلا { أفلا يحفظون } .. جمعيات تحفيظ في كل مكان ثم لا يخرج شخصً يستطيع أن يُضيف شيئاً جديد إلى مجتمعه إلا إستئثاره بالتصفيق الأعمى.
كل الشيوخ و العلماء يحفظون ويحفظون معلومات بالية عفى عليها الزمن ( بإستثناء ) الآيات و الأحاديث التي وإن حفظوها إلا أننا لا نجدهم يُطبقون ما يحفظونه على أرض الواقع، كأنهم حَمّالة عِلم لا أكثر وزنهم اليوم أخف من (USB)


ختامً ،،،

إن الفرق بين الإنسان و الآلة أن مهمة الآلة تخزين و حفظ ملايين المعلومات دون أن تفقه منها شيئاً، بينما الإنسان هو من يستطيع أن يُبدع و يبتكر و يتفكر إستناداً على تلك المعلومات .
فإذا وجد هذا .. وإلا فشكرا للجميع دون قدسية لأي لقب لا وزن له عندي