أرحــــمــــونــــا



حياة الإنسان رحلة طويلة تبدأ منذ الولادة ، ثم عندما تحين لحظة الوفاة يقول واصفاً الزمن الذي قضاه في الحياة " قد لبثت يوماً أو بعض يوم ! " ، لأن الإنسان يشعر بقيمة الحياة أكثر شيء عندما يستشعر بقرب الوفاة ، ولأنه إنسان فلا يستشعر بقيمة حياته وهو صحيح لأنه يعيشها لاهياً عنها .
تبدأ الرحلة منذ لحظة الولادة لتنتهي باللحد ، وما بين اللحظتين مجموعة ضخمة من التجارب و الأحاسيس و المشاعر ، وسواءً كانت تلك المشاعر و الأحاسيس من داخله بناءً على تجاربه في هذه الحياة أو عايشها من خلال تجارب الأخرين حوله ، في كل الحالات تلك المشاعر " الشخصية و الإجتماعية " هي التي ترسم ملامح شخصية الإنسان الفرد .
ولا يُمكن للإنسان أن ينآى بنفسه عن الخوض في تجارب الحياة طلباً للسلامة ، كما ولا يُمكنه أن يتجرد من أحاسيسه و مشاعره ، لأن الإنسان بلا تجارب أو أحاسيس ليس أكثر من آلـة " يُولد فيعيش ليموت " !

وبما أن الإنسان كائن إجتماعي لأبعد الحدود ، فهو يُؤثر و يتأثر بالمجتمع في كل مرحلة من مراحلة حياته ، في المجتمع السليم الذي يتمتع أفراده بالحرية غالباً ما يعيش الإنسان حياته بشكل سليم " يُولد ، يعيش ، يُحب ، يكره ، يعترض ، يصرخ ، يُحاسب ..... إلخ " ثم يموت وحينها قد يستفيد غيره من تجاربه وقد لا يستفيد ، لا يهم ! المهم أنه قد عاش بشكل طبيعي " عاش الحياة " و لايهم بعد الموت هل سيذهب إلى جهنم أم إلى النعيم فذلك أمراً متروكاً بين الإنسان وخالقه ، الله سيُحاسبه أو يُعذبه وليس المجتمع ، و الإنسان هو الذي يحدد طريقه بعد الموت ، بنفسه وليس بوصايا المجتمع ، وهو أيضاً الذي يُحدد طريقة حياته بناءً على رغباته لا على رغبات المجتمع .
أما في المجتمع " الغير طبيعي " حيث يولد في جواً من التسلط و الإستبداد ، ستتلاشى كل تلك التجارب و الأحاسيس من حياته ولن يبقى أمامه سوى الخوف كإحساساً وحيد مسيطراً بالكلية عليه ! .. يُولد في بيئة الخوف ليعيش خائفً ثم يموت من الخوف ! .. يخاف حتى مما سيأتي بعد الموت أن يُلقى في جهنم وبئس المصير !
يُمكن القول أن الإنسان تحت الإستبداد لا شعور يتملكه إلا الخوف وبين الخوف و الخوف يخاف حتى ينقضي العمر فيشعر بالخوف مما ينتظره بعد الموت .
إن أحد الأدوات التي يستخدمها الإستبداد هي تشويه صورة الله في عقلية الأفراد ، حين يُربط غضب الرب بغضب المستبد ، فيعيش الفرد في خوف أن لا يخاف فيُلقى به سبعين خريفاً في نار جهنم !
وطيلة حياة هذا الفرد في مجتمعه سيُواجه أصنافً من الخوف " من النظام ، من السياسة ، من المجتمع ، من الدين ، من المسئول " يخاف حتى من تجربة شيء جديد ، ويخاف من أن يشعر بأي إحساس أخر خِلاف الخوف " يخاف أن لا يخاف " .
أنا لا أبالغ في وصف الخوف في ظل الإستبداد ، بل هذا طبيعي جداً لأن الذي يُحاسب هنا هو المجتمع و السُلطة وليس القانون ، المجتمع هو الذي يُحدد للإنسان الطرق التي يمشي بها لأن لا مجال للإرادة الحرة .

[[ دائماً المجتمع الذي يرزح تحت الإستبداد هو مجتمع مُغلق ، ومجتمع مثل هذا من الطبيعي أن تُحيط به الجُدران من كل إتجاه فهو يحتاجها للإلتصاق بها وللمشي بمحاذاتها ]]

والمجتمع العربي و لله الحمد ، دائماً و أبداً لم و لن يبتعد عن المشي جنب الحيط ، لدرجة أن جلود المواطنين طُبِعت على الجدران ، ثم و زيادة في إخلاص الشعب فقد إنتقل من " جنب " الحيط إلى الإستقرار " داخل " الحيط ، وبعد هذا ما زال المواطن العربي ملعونً في نظر الأنظمة ! .. هذه الأنظمة باتت تعرف جيداً أنها تحكم مجموعة من الخائفون ، لأنها أساسً لم تتفرغ إلا لصناعة الخوف حتى أصبح الخوف طبعاً أصيلاً من طِباع المجتمع بسبب الإعتياد .

ثم ملت الأنظمة من هذه المجتمعات التي لا يُزل فيها قدم مواطن ، ولا يُخطيء هنا أحداً حتى يُحاسب .. الكل يمشي في طريقه " نفسي نفسي " ، وهذا الخنوع في الحقيقة قد نزع عن الأنظمة المستبدة أسمى أدوارها الذي هو " البطش " .
ومن هنا تم إستحداث أسلوبً جديد للحساب و العقاب ، أسلوبً تضمن به الأنظمة أداء دورها الذي لا تُجيد سواه " البطش " ، و فكرة هذا الأسلوب قائمة على مراقبة النيات و النبش فيما تُخفي الصدور .
والحساب على النيات و الخبايا يعتمد على التخمين و الشك و الظن ، ودائماً و أبداً هذا الأسلوب " يودي في ستين داهية " دون الحاجة إلى إرتكاب فعل !
هنا برزت الحاجة إلى إستحداث نوعً جديداً من " رجال الدين " الذين يُستطيعون تأدية هذا الدور بكل جدارة ، فأسهل طريقة لمحاسبة النوايا هي محاسبة العِباد بالنيابة عن الله ، ولا يُمكن أن ينوب عن الله إلا رجل دين ينظر إلى الجميع أنهم أقرب للرذيلة ، وأن حب المعصية تسري في دماء العِباد .

يأتي الإبداع في هذا الأسلوب أنه لا يعتمد سوى على سؤ الظن المُسبق ، وبهذا تضمن الأنظمة المستبدة ممارسة مقداراً من البطش يُشبع غرورها ، فطالماً الذي يُخمن نيته سيئة فالمجتمع كله حينها منحل فاسق يستحق العقاب .
لماذا يمشي الإنسان جنب الحيط ؟ .. ربما يريد أن يزني بجدار جاره ! أو أن يتلصص على محارم غيره ، أو أن هنالك حشيشاً يـُريد أن يخفيه ! .. وقبل أن يرتكب أي فِعل سيُحاسب حتى لا يرتكبه فيغضب الله !.
أسلوب سهل بسيط " مُهلك " لم تنتبه له أي دولة سوى الدول العربية ، لأن كل دول العالم تركت هذا الدور و لم تخوض فيه لإيمانهم بأن الله وحده الذي يطلع على ما تخفي الصدور ، بينما هنا فما تُخفي الصدور من إختصاص أجهزة الدولة !
-----
ثم يموت الإنسان في المجتمع الغير طبيعي وهو خائف جداً من أن يُشوى في نار جهنم ، ليكتشف بعد الموت أنه للتو قد ترك جهنم خلفه وأرتاح للأبد .

0 التعليقات :

إرسال تعليق