ثـــورة الـشــــك


( الشك هو التردد بين النقيضين بلا ترجيح لأحدهما على الأخر عند الشاك ) ... عبد القاهر الجرجاني

كبداية ،،،
هل هنالك أحداث تـُستحدث في التاريخ من العدم !
حسناً كل الأحداث قد حدثت منذ القِدم و إنتهت ، و ما نعيشه اليوم هو تكراراً لنفس تلك الأحداث ، الإختلاف فقط في الكيفية و الأسلوب .

و كما حدث في الماضي و على فترات متكررة في التاريخ يحدث الآن ، أنه و كل فترة زمنية معينة تتغير الملامح الثقافية للمجتمعات ، و طالما جيلنا سيخلفه جيلاً أخر إذاً ستتبدل الملامح الثقافية تِباعاً ، لأن الأبناء لن يـُقنعهم أن يتبعوا نهج الأباء ، فلكل زمن إحتياجاته .

أيضاً و أثناء كل تغيير في الملامح الثقافية للمجتمع ستتبدل أراء و معتقدات و أصناف متعددة من المفاهيم ، ليندثر الفـِكر الجامد تمامً ، فالتغيير لن يقف أمام التخلف أبداً ، و ينتعش الفـِكر الذي يحاكي هذا التغيير .

و نحن اليوم نعيش هذه الحالة ، نشهد حولنا تغيراً ثقافياً يقتلع السائد من جذوره إن صح التعبير ، و لن يتوقف الأمر عند هذا الحد بل سيستمر بإستمرار الإنسان على وجه الأرض .

وعلى الخطاب الديني أن يُـساير هذا التحول الثقافي ، أن يغير نهجه المعتاد في النهر و الزجر و النظر إلى " العقل " أنه باب يؤدي حتماً إلى الكفر و الإلحاد ، إما هذا أو سيقول العقل كلمته في الأخير و يندثر التخلف .
لم تعد عبارات مثل ( من تمنطق قد تزندق ) تـُجدي اليوم ، فذلك خطابً لن يقدم أي جواب لأسئلة السائلين ، و لن يوقف بحث الباحثين عن الحقيقة .

إن المؤمن يسأل ، و المشكك يسأل ، و الكافر يسأل .. و الكل ليست له غاية إلا أن يـُمنطِق أولاً لكي يعتقد ، أما أن يعتقد بناءً على جهل فذلك الزمان قد ولى .

صحيح هنالك من لا يريد أن يدخل في دوامة البحث عن الحق و يكتفي بالإيمان الأعمى طلباً للراحة ، فرحلة البحث أبداً ليست سهلة ، رحلة مرهقة مؤلمة ، لكنها في نفس الوقت ممتعة و متعتها في أنها تـُضيف للإنسان شخصية محددة تُميزه عن البقية ، تعطيه دافعاً ليشعر بقيمته و من أجل هذا يتحمل الصِعاب .

فراحة التبعية أشد مرارة من عناء الإستقلال !

--- -

على ماذا يحتوي العقل ؟
إن العقل يحتوي على مجموعة من الأضداد ، من المتناقضات .. و في داخله الخير والشر ، الكفر و الإيمان ، فيه الفكرة و نقيضها .
و من كل هذه التناقضات يُولد الوعي ، فإن حذفنا عُنصراً ثم أكتفينا بآخر سيختفي الوعي ! ، أحد تلك الأضداد التي يحتويها العقل هما ( الشك و اليقين )

--- -

هل الإنسان الذي يشك هو مضطرب أم إنه إنسان طبيعي ؟
هذا سؤال لا يُمكن الإجابة عليه من بعيد ، فيجب أولاً أن نتقرب من هذا الإنسان ، ثم نحكم .

* إن كان قد أصدر قراراً مسبقاً داخل عقله بالقبول أو الرفض ثم بدء في الشك ، سيكون فشكه حينها مجرد عبث فكري ، لأن الشك لا يستقيم بالتقرير المسبق .
كمثال : من ينفي وجود الله أولاً ثم يقول أنه يشك في وجوده فهذا إنسان غير سوي ، لأنه لا خيار ثالث أمامه فهو إما أن يشك أو ينفي ، غير هذا فليس أكثر من عبث فكري .

* إن كان مصدر شكه خارج حريته الذاتية ، فهذا ليس شاكً إنما تبعية فكرية لا أكثر ، فالشك لا يأتي إلا لمن يسعى فعلاً للبحث عن الحقيقة بكل حيادية ، و الأهم أن لا يلتفت إلى من يدعي إمتلاك الحقيقة .
للتوضيح : صحيح أن الشك شعوراً ذاتي ولا يُمكن أن يُجبرك أحداً عليه " في الظاهر " لكن هنالك من يُجبر الآخر على الدخول في الشك بأساليب عديدة ، منها إخفاء أجزاء من الحقيقة عنه و عرض أجزاءً أخرى عليه بهدف زرع الشك فيه ، حينها من يستجيب لهذه الخدعة لا يكون شاكً إنما إنسان مخدوع أو غير واعي بمعنى أصح .

* من يبني شكه على جهل فهو إنسان جاهل ، فالشك أبداً لا يتولد عن جهل إنما هو حالة تنم عن عقل واعي لديه المقدرة على التفكير بعمق و تدبر ، و من لا يستطيع البحث و التفنيد فليكتفي بالقناعة العمياء .

لذلك فمن يريد أن يشك عليه أولاً أن يبحث بعمق و يتفحص بتأني ، ثم يشك بحثاً عن الحقيقة .

إذاً ما يُحدد طبيعة الشك هو الإنسان الشاك نفسه ، فيكون الشك إضطراباً عندما يكون الهدف هو مجرد الشك ، و يكون شعوراً سوياً عندما تكون الغاية هي الوصول إلى الحقيقة .
وسواءً كان الشك إضطراباً أم كان بحثاً عن الحقيقة ففي جميع الحالات نجد أن الشك دائماً ما يـدخل الإنسان في جحيم نفسي و فكري .
بل إن الذي يشك لمجرد الشك " الشك العبثي " فهذا حياته أهناء من الذي يشك بحثاً عن الحقيقة ، لأن الإنسان العبثي في شكه لن يكون جاداً إنما لاهياً ، أما من يسعى إلى الحقيقة فسيبحث عنها بين أطنان من الأطروحات و الفلسفات و الأراء ، و قد يصل و قد لا يصل لكنه لن يموت إلا ككنز معرفي و إن لم يصل إلى الحقيقة .

يمكن القول من باب التشبيه و تقريب الصورة : أن الشك بالنسبة للعقل الباحث عن اليقين كالمختبر بالنسبة لعالم الكيمياء ، فعالم الكيمياء يخلط أكثر من تركيبة بأكثر من طريقة حتى يصل إلى التركيبة التي يطمئن إليها ، كذلك العقل الباحث عن اليقين يتعامل مع جميع الأطروحات أمامه بحيادية و يُفندها و يختبرها ثم يصل إلى النتيجة التي يطمئن إليها ، مع الإنتباه إلى أن النتيجة التي يرضاها ليس شرطاً أن تكون هي الحقيقة !

--- -

ما الفرق بين الشك في الماديات " المحسوسات " و الشك في الغيب ؟
كوجهة نظر لا أكثر ، أن الشك في " الماديات / المحسوسات " من حولنا غالباً ما يضر ، و أقصد هنا كمثال " الزوجة الأصدقاء الأبناء ، الشك في النوايا و الأفعال " .
بالإضافة إلى أن الشك في " الماديات / المحسوسات " في الغالب هو لا يتولد بحثاً عن حقيقة إنما لتفنيذ حقيقة مُتوهمة ، بمعنى أن الزوج حينما يشك في زوجته فهو لا يبحث عن حقيقة إنما يُحاول أن ينفي أو يُؤكد شكوكه تجاهها ، و هذا يقودنا إلى أن الغالب في الشك بالماديات يتولد بناءً على مجموعة شكوك ، لهذا يكون ضاراً في الغالب .

أما الشك في الغيب فأراه في الغالب يبني لا يهدم ، أنه يضيف و لا يأخذ ، وأقصد بالغيب هنا " الله ، العقيدة ، الأنبياء ، الملائكة ... إلخ " و الشك فيما نؤمن به من الدين أو من العلم .
إن هذا النوع من الشكوك " الشك في الغيب " غالباً هو يتولد من أجل البحث عن الحقيقة ، و عملية البحث هذه في حد ذاتها تطور الإنسان سواءً وصل أو لم يصل .

وحديثي هنا أفرده لموضوع الشك في ما هو غيب ، لأن الشك في الماديات يحتاج إلى موضوع مستقل لا أفهم فيه أساساً .

--- -

كيف يخلق الله في الإنسان عقلاً يشك فيه ؟
أحد الدلائل التي تقودنا إلى عظمة الله و عدله هي مسألة الشك ! ، فلولا الشك لآمن الجميع به ، حينها سيكون إيماننا إجباراً لا يد لنا فيه وليس لنا حق الإختيار ، و هذا إستبداد غير أن الله حاشاه أن يكون مستبداً.
و توصف عملية محاربة الشك هنا من قبل المتدينين أنها محاولة منهم للإستبداد بإسم الله ، فمبداء أنه طالما الله لم يخلق جميع الناس مؤمنين و هو العليم ، إذاً الأولى بالمخلوق أن يدع غيره يُقرر بحرية كفلها الله له !
فإن إتضحت الحقائق أمام الإنسان الشاك  ثم كابر فهذا مكابر ، و مرده إلى الله .


----------   ----------


إننا نشهد اليوم تغييراً في المشهد الثقافي ، تغييراً طرأت عليه العديد من المستجدات و برزت فيه روح الثورة و الإنعتاق عن كل ما هو سائد ، و في هذه المعمعة كان للشك دوراً محورياً .

يمكن " مجازاً " القول أننا نعيش ( ثورة شك ) في المجتمع ، و علينا أن نستوعب هذه الثورة بالحكمة و الوعي ، و أن نحاكي الثقافة المـتغيرة بأسلوب متجدد ، و أن نترك الخطاب التقليدي الذي يكفـر و يزندق من يشك ، و علينا أن نكف عن إستعداء النظام على هذه الثورة !

فهذا الأسلوب لن يوصلنا إلى نتيجة بل سيجعل الشك يتفاقم في النفوس ، و ربما سيصنع منه شكً عبثي فوضوي ينشاء فقط عِنادا في الإستبداد ، و رفضاً للغة التهديد التي ترفضه .

إن مسألة البكاء على المقدسات و الثوابت أبداً لن تـثني من يشك عن شكه ، و لم يعد اليوم بإمكاننا العودة إلى زمن الإنغلاق ، خصوصاً و نحن في عصر العولمة حيث المعلومة فيه ترد أسرع من الخاطر و الكل يدلي بدلوه بلا حسيب أو رقيب ، بل إن الرقابة لم تعد تنفع إن لم تكن ذاتيه ، و معلوم أن الناس ليسوا كأسنان المشط سواسية .

قد انفرط العقد و هذه حقيقة علينا تقبلها بوعي ، أما محاولة لملمة حباته فهي غير مجدية ، لأن الأراء قد تناثرت في كل إتجاه .

إن الأجدى و الأهم من لملمة حبات العقد أن يجدد الخطاب الديني أسلوبه ، أن ينفتح على جميع الأراء ، أن يتقبل الحقيقة التي تؤلمه " بأنه لم يعد الخطاب المـتسيد في هذه الفترة " ، و لولا وعد الله بأن يحفظ كـتابه لقلت أن الإيمان سيندثر بأسلوبنا الديني الرجعي .

لكني آمل أن تندثر العقلية الدينية التقليدية لكي يبقى الإسلام دائماً بروح أكثر وعياً وتجديداً و مرونة ، و أكثر تقبلاً للرأي الأخر المخالف ، و أن يعي المتدين أن الله لم يخلق الجميع للإيمان ، أن الله هو من زرع في الإنسان صفة الشك فمن باب أولى إن كان من إعتراض أن نعترض على الله و العياذ بالله !

أو إن الأسهل و الأجدى أن نتقبل طبيعة الإنسان بكفرها و إيمانها ، فنحن لسنا أوصياء على بعضنا البعض ، إنما جل ما كلفنا الله به أن نتتاصح فيما بيننا و نتحاور بدون إدعاء حق . 




كلمة أخيرة لمن يشك ،،،

أن اليقين يتم الوصول إليه بطرق عديدة ، وليس فقط الشك ، و علينا الإنتباه إلى أنه ليس كل الأراء و الحقائق و القناعات يمكن إخضاعها للشك .
فمثلاً " ديكارت " يرى أن الطريقة الأمثل و الخطوة الأهم لكي نصل إلى اليقين هي الشك ! "
و الحقيقة أن طرق الوصول إلى اليقين ليس بينها خطوة أولى و أخيرة أو أفضل و أسواء .
الشك أسلوب تحدده طبيعة و رغبة الإنسان ، و الموضوع الذي يدور حوله الشك ، فقد يلجاء الإنسان إلى الشك بحثاً عن الحقيقة أمام الإيمان بالملائكة مثلاً ، و قد يلجأ الإنسان إلى مجرد الإطلاع بحثاً عن الإيمان بالله !

إذا الشك ما هو إلا أسلوب واحد ضمن العديد من الأساليب ، و علينا أن نتعامل معه على هذا الأساس لا أكثر ، لا أن نقدسه كما يفعل البعض .
لأن القول بأن الشك هو الأسلوب الأمثل فهذا في حد ذاته يقين ! .. فكيف يوصف الشك باليقين !



و الله أعلم .

هناك 3 تعليقات :

  1. تدوينة جميلة.. ولعلي أؤيدك تأييدا تامّا في أننا -أي مجتمعاتنا الإسلامية- في حاجة ماسة إلى ثورة تهدم الخطاب الديني السائد هدماً، وتعيد بناءه على قواعد جديدة من التقبّل للآخر، وعدم الاستهانة بالعقل. فالملاحظ وللأسف إنعدام تام في التوازن بين العقل والنّص (النقل). فأكثر الخطباء والمتصدرين باسم الدين هم أناس قدّسوا النص حد الغلو. وأهملوا العقل حدّ الجهل. والإسلام دين العقل والنقل. وما أكثر الآيات التي تأمر بالتدبر والتفكر والتعقل ولكن ليت قومي يعلمون! إن كثيراً من الثوابت -عندهم- إنما ثبتتها أحادية التكرار عبر التاريخ، وإلا فالثابت التغيير والتجديد!
    إلا أنني لم أفهم هذه العبارة في مقالك. لعلّك أن تزيدها توضيحاً، وهي قولك أن "كل الأحداث قد حدثت منذ القِدم و إنتهت"!
    ثم أعرّج على الشّك محور مقالك: فالشكّ ليس مشكلة ولن يكون مشكلة طالما أنه يهدف بصدق إلى الحقيقة. لكن تبقى إشكاليته عندما يتحول إلى صورة شبه مرضية.. شكّ لأجل الشكّ نفسه. وبعض الناس تستهويهم تلك الحالة الضبابية. هذا النوع من الشكّ عبثي!
    وقد ذكرتَ أن "ديكارت" قال بأن اليقين طريقه الشك وهذا صحيح، ولكن لا تنس أنه أيضا قد ثبت أشياء ومنحها الحصانة من الشكّ، كتعاملاته الأخلاقية مثلاً!
    أما كلامي عن اللا أدرية بالأمس، فما أردت قوله أنهم طائفة يشكون.. فقط يشكون. فالأدري لا يكون أدريا حقّا إلا بالشك في وجوده ذاته، في كينونته، ويتساءل إن كان وجوده مجرّد حلم أم واقعاً ولا يدري إجابه لتساؤلاته! لذلك كانت القاعدة لديكارت: "أنا أفكر إذا أنا موجود"! بمثابة المخالفة لهم صراحة.

    ردحذف
  2. أول اليقين شك .. تمنيت لو ان تم تعريف المصطلحات حتى تكون الصورة واضحه اكثر .. تحياتي

    ردحذف
  3. أول اليقين شك هذا رأي و ليس حقيقة ! ، فالوصول إلى اليقين ليس شرطاً أن يبدأ بالشك

    ردحذف