ثقافة الرجل الواحد



إن الإنسان يعتبر نفسه محور الكون ومركز هذا الوجود ولا يـُمكن بأي حال أن يتخلص من هذا الشعور . فشعوره هنا شعوراً غائراً في النفس ، مستمداً من الثقافات القديمة التي تعاقبت على الفكر الإنساني حتى إستقرت فيه ، وسيورثها بدوره إلى الأجيال اللاحقة .
ويومياً أرى تأكيداً على هذا الإعتقاد من خلال ثمان ساعات طوال أبداء فيها الدوام من الساعة الثامنة وحتى الثالثة عصراً ، خلال هذه الفترة أنا لا أعمل شيئاً سوى تنفيذ قرارات سعادة البيه المدير ، تلك القرارات التي تأتي من كل حذب وصوب بلا أدنى علم مني ولا مشاركة في إتخاذها ، رغم أنني المنفذ لها من حالتها العقلية كإلهام تجلى في عقل المدير إلى حالتها الواقعية حتى ترى النور .
ولمن يعتقد أن مثل هذا المدير هو حالة فردية شاذة في المجتمع فالينظر حوله ليرى أنها حالة سائدة في مجمتع يـُمجد الرجل الواحد ويـُقدسه أيما تقديس ، فالمدير المتسلط أحادي الرأي و الرؤى هو بنفسه مجرد إلهاماً لرجلاً أعلى منه قرر ورأى أنه الأنسب لهذا المنصب ، ليستمر الوضع على هذا المنوال صعوداً حتى الوصول إلى معالي الوزير الذي بدوره لا يخرج عن كونه حالة من حالات التجلي التي أنارت عقل الحاكم فقرر أن يـُطبقها على أرض الواقع ! .
وفي الواقع نحن مجتمع كما أسلفت يـُمجد الرجل الواحد ، نـُحمله أخطائنا ويحمل أوزارنا ويـُحقق أحلامنا ، يتحدث بصوتنا ولا نستسيغ الحياة بدونه ، مجتمعاً لا يـُؤمن بالعمل الجماعي ولا مكان فيه للتشاور في الأمر كما أوصى الله بهذا نبيه .
فالأب هو " رب الأسرة " الذي لا ينطق عن الهوى وأي قرار يتخذه يـُنفذ بلا جدال وإلا سيـُوصف الأبناء بالعقوق إن هم خالفوه ، طبعاً لا مكان في الأسرة للتشاور وإن وجد فلا يعدوا عن كونه إتيكيت لا يحل ولا يربط فالأمر أولاً وأخيراً للأب و إن كان هذا الأب طائشاً .
والأسرة في أي مجتمع هي اللبنة الأساسية فإذا ماكانت هذه اللبنة تعتمد على أحادية الرأي فمن الطبيعي أن يكون كل البناء على خطاء ، بالإضافة إلى أن حالة الأحادية في الرأي داخل الأسرة هي ثقافة موروثة من الدين والعادات و التقاليد تتشبع بها الأسرة ثم تـُنتج للمجتمع أفراداً يـُؤمنون فعلاً بأنهم مركز الكون ومحور الوجود ، ليـُصبح هذا الفرد فيما بعد مسئولاً يرى أنه أعلى البشر عقلاً وأن المنصب الذي تحصل عليه تقديراً من الله على عقليته التي ساهم بها في بناء الوجود ، أو قد تتطور الحالة لديه ويـُصبح وزيراً حيث يدخل بعد ذلك في حالات تأمل طويلة تـُنتج قرارات أحادية دائماً هي في نظره الحق المبين وإن جرت البلاد إلى الهاوية.
أو ربما يخرج الفرد من أسرته ليتجه إلى العلم الشرعي فيتدرج به الحال حتى يـُصبح داعية أو مفكراً إسلامياً أو حتى مفتي البلاد الأعظم ، فتأتي القرارات مـُغلفة بغلاف ديني يصعب إختراقها أو نقدها وننسى أنه في الأساس رأي أحادي لرجل تربى على هذا النهج وليس رأي الدين ! .
وينطبق الوضع على جميع المناصب في البلاد ، لكن وللحقيقة فإن الأسرة ليست هي أس البلاء في أحادية الرأي إنما هي تقوم بتأسيس الإنسان على هذا المنهاج معتمدة على ثقافة موروثة كطينة في التأسيس ، فالأمر يعود أولاً وأخيراً إلى الثقافة التي هي مجموعة أراء وإعتقادات وتجارب بشرية مـُتناقلة من جيل إلى جيل ، و نحن أخذنا من الموروث الثقافي ما يتماشى فقط مع عاداتنا وتقاليدنا ممتنعين عما يـُـخالفها وإن كان هو الصواب .
ثقافتنا في هذا الجانب ركزت على وجوب وجود رجل واحد يؤول إليه الأمر دائماً تنحدر منه كل الأراء و الأفعال و الصفات .
* يوسف عليه السلام هو نصف الجمال ومنه وزع الله الجمال على وجوه البشر .
* داوود عليه السلام هو صاحب المزامير وإليه تعود جميع أصوات البشر .
* أدم عليه السلام هو أبو البشر ومنه ننحدر جميعاً .
قد نتفق حول هذه المعلومات أو قد نختلف لكنها موجودة في ثقافتنا وتـُؤثر علينا حتى الآن ، فنحن نبحث دائماً وبناءً على هذه الثقافة عن ذلك الرجل وإن لم نجده فنصنعه على أعيننا ، مغرمون بذلك العالم الرباني العارف والمتمكن والملم بجميع العلوم الذي نلتف حوله في دوائر لاحصر لها نستمد منه العلم وننهل من بحره الامنتهي وعندما لم نجده في هذا العصر رحنا وأخترعنا منصب المفتي العام كتعويض وإثبات أن الرجل الواحد دينياً موجود .
مهووسون دوماً وفي كل مجال بإيجاده ، في الفن لابد وأن نبحث عن فنان العرب الذي يـُطربنا في كل ألوان الغناء . في التمثيل نبحث عن الزعيم الذي يتزعم الفن بجدارة . في النقد لدينا شيخ النقاد . في الميكانيكا وعالم الورش لدينا شيخ الورش . في عالم العطور ، في العقار ، في الجزارة ، في الحدادة ، في النجارة ... إلخ .
في كل مجال إخترعنا رجلاً واحد نـُحمله أمالنا ونؤول إليه في كل أمورنا ، لدينا شيخ القبيلة الذي يتحكم بكل قبيلته والذي له القول الأول والأخير في كل أمور قبيلته .
ولا ننسى كبير العائلة الذي يـُمثل دور شيخ القبيلة بشكل أصغر ، وهكذا نستمر في رحلة بحث عن الرجل الواحد الذي نختبيء جميعاً خلفه ، راسمين له هالة من التعظيم و الإجلال قد لا يستحقها .

فأين المفر ؟
متى نـُدرك أن الله خلق الإنسان لا ليـُقاد ويسير خلف رجلاً واحداً لاغياً بذلك عقله وفكره مـُنقاداً بإرادته خلفه ؟ ، وأن المجتمع الناضج هو المجتمع " المؤسساتي " الذي يعمل الكل فيه كخلية واحدة متكاملة الرئيس فيها والمرؤوس تـُفرق بينهم المهام و الوظائف لا المكانة و المنزلة والإنتماء القبلي ، وأن الجميع خادماً للمجتمع .
إن هذه الثقافة تجعل من المجتمع هدفاً سهلاً ، فيكفي حينها أن تضرب الرأس ليتداعا الجسد ، فالكل هنا مربوط بالرأس ، الذي إن ضـُرب أو سقط يسحب خلفه الجميع ، حتى وإن إستبدلنا الرأس بأخر يبقى الشرخ في الجسد قائماً لا تـُمحى آثاره .
ولا مكان هنا لحصر العاهات التي أنتجتها هذه الثقافة فرؤية الجميع إلى الملك أو الحاكم أنه الكل في الكل وأن البلاد بدونه لن تسير هي أحد مضار هذه الثقافة ولا أدل من ذلك إلا رؤية الجموع التي هي على إستعداد للتنازل عن كل حقوقها إن ظهر الحاكم في الشاشة مبتسماً .
إننا أقرب للطبيعة الحيوانية منها إلى الطبيعة البشرية حيث الأسد هو الذكر الوحيد الذي تختبيء خلفه قبيلة من النساء ! .
وبما أننا دهاة في إبتكار الفوضى راح الرجل الواحد وإبتكر " مسخاً " ليـُباهي به ، أتخيل الأمر كالتالي :
أن المسئول الأوحد أحادي الرأي والخلية عندنا عندما إكتشف أننا في القرن الواحد و العشرين وعندما رأى الغربي يسير في الشارع بصحبة كلب أو قطة ، جاء إلينا وأخترع مخلوقه المسخ الذي هو في الواقع مجرد كائن مهمته تنفيذ قراراته الأحادية ولكن بشكل مـُغاير ، بشكل أكثر تطوراً ذلك المخلوق هو أو هي " اللجان " لجان خلف لجان ، لجاناً لا مهام لها سوى تنفيذ قرارة معاليه أو سموه أو فضيلته أو سعادته .
وهاهو يمشي في الشارع ماسكاً بسلسلة طرفها الأول في يده و طرفها الثاني مربوط حول رقبة " أخطبوط " وبه يتباهى بأنه رجل واحد متطور
ولا حل للخروج من هذا المعضلة إلا أن يـُطلقنا هذا الرجل الواحد أونـُـطلق هذه الثقافة ، أو أن يـُقدم مديري الفاضل إستقالته .
ويجب أن أكتفي بهذا الحد فمعالية يصيح في الجميع لحضور الإجتماع الذي سيتم فيه إستعراض تجلياته العقلية وما حققه خلال فترة إمتطائه ظهر الإدارة

فقط

0 التعليقات :

إرسال تعليق