أخطأ عـُـمر الفاروق .. وأصبنا نحن



نحن إن أردنا أن نُحاكِم عمر الفاروق ونحكم عليه، بمفاهيمنا، بمقاييسنا، بمعاييرنا، بقضائنا النزيه، فحتماً سينتهي به المطاف مذنباً، مُخطِئاً في كل شئون خلافته، مُخطئاً أخطاءً لا تُغتفر. هذا لأن الشرف والعزة والكرامة بمقاييس اليوم مجرد دروشة وضعف وأبواباً للهزيمة.


**********


قد أخطأت يا "عمر" حين عشت مع الرعية، بين الرعية، حين كنت مثلهم ترتدي ملابساً تشبه ملابسهم وتأكل طعاماً يشبه طعامهم، صحيح أن هذا النهج قد مكنك من تلمس حاجات الناس والإستماع لمطالبهم وحمل الدقيق لإطعام أطفالهم، بل وأن تدعوا الله ألا يحاسبك على تعثر بغالهم!.

لكن الأولى بالحاكم يا "عمر" أن يترفع عن كل هذا، الأولى به ألا يختلط أبداً بالرعاع من العامة، أن يبتعد عن دروبهم قدر المستطاع، أن ينظر لهم كجراثيم لا يصح الإقتراب منها بحال طمعاً في الصحة والسلامة.

الأولى بمن كانت له حاجة من الرعية ألا يطلبها من الحاكم، ولا السادة الوزراء أو مدراء الإدارات أو حتى رؤساء الأقسام، إنما يكتفي بالدعاء أن يجنبه الله شر الوشاية والإعتقال، فالحاجة في هذا الزمان شراً والمطالبة بها فتنة!.

الأولى بالحاكم إن وصلت إليه حاجات الناس أن يأمر فوراً بتشكيل ألف لجنة، عن كل لجنةٍ منها لِجانٌ منبثقة، ثم لِجانٌ تنوب عن اللِجان المنبثقة مهمتها إخبار كل صاحب حاجة أن حاجته قيد الدراسة، ثم لِجانٌ تراقب بشدة أعمال كل اللجان وترفع تقاريراً دورية للجانٍ مختصة بعرض كل التقارير على جلالة الحاكم. وبهذا النهج تبقى هيبة الحاكم مصانة لا تضيع رغم ضياع كل الحقوق وذهاب المطالب أدراج الرياح، بهذا النهج تظل الرعية متأملة خيراً في حاكمها البعيد عن كل الشبهات بدلالة أنه دوماً يستجيب لكل المطالب بتشكيل ألف ألف لجنة ولجنة.


**********


كذلك قد أخطأت يا "عمر" حين لم تتحصن بالحرس والعسكر وفرق الأشاوس الخاصة، أخطأت حين لم تعين رجالاً كأجساد البغال يحيطون بك لحمايتك من الرعية، وأخطأت حين لم ترتدي سترة مضادة للرصاص، ولم تركب سيارة مضادة للصواريخ، ولم تعين لكل مواطن مُخبراً وجلاد.

فالأولى بالحاكم أن يهرب من الموت قدر المستطاع، فحياة الحاكم يا "عمر" أولى أولويات الوطن، وكل الخطط الإستراتيجية تدور حول الحفاظ على آمنه وسلامته وصحته، فهو الوطن يا "عمر" والوطن هو، وهو الذي إذا ما اشتكى فيه عضواً تداعى له كامل الوطن بالسهر والدعاء بطول العمر.

ثم إن الحاكم في زماننا يا "عمر" لا يتحصن ويبني حوله الحواجز المنيعة خوفاً من شراً مجهول قد يضمره أحد أفراد الرعية، بل هنالك أسباباً أخرى أكثر منطقية، فربما أحد أفراد الرعية مُصاباً بالزكام فتنتقل العدوى منه إلى الحاكم في حال الملامسة أو القرب الشديد، وحينها، حين يُصاب جلالته بالرشح ستتعطل البلاد وأمور العباد، من هنا نشأ الحذر من الرعية، وباتت الحيطة من هي الغاية.


**********


أخطأت يا "عمر" حين لم تنتهج العنف والقمع والإستبداد والقتل على النية، فكل هذه الأدوات ليست إلا دعائم تسند الكرسي، لا أكثر! .. أخطأت حين لم تأمر بهتك عرض أو إغتصاب أرض، أو سحل فرداً من بين الجموع كي تتعظ البقية، فالخوف، خوف الرعية ورعبهم وترهيبهم هو الضامن لإستمرارية الحُكم، ولو فعلت يا "عمر" كما يفعل الحاكم اليوم، فما كان لسكين "أبو لؤلؤة المجوسي" سبيلاً إليك، ولا حتى صواريخه وطائراته، بل ولا حتى دعائه عليك بالهلاك.


**********


أخطأت يا "عمر" حين ظننت بأن الجهاد وإرسال الجيوش وإعداد العُدد هو السبيل الأنسب والأضمن لفرض الهيبة عند بقية الدول .. أين أنت عن معاهدات السلام، وسلام الشجعان، والتطبيق مقابل السلام؟!، أين أنت عن مثل هذه الحلول السلمية الموادعة التي لم تفرض لنا هيبة؟!، أين إحترامك للمواثيق وإلتزامك بتقسيمات "سايس بيكو"؟!.

إن الجهاد يا أيها الفاروق هو جهاد النفس، وأن يطيع الإبن أباه، ويدور الأب في كل الأزقة لتأمين قوت يوم أبنائه، هذا هو الجهاد الأسمى، أما القتال والسيوف والخيول، وشراء الأسلحة من مصانع الأمريكان والروس فلا هدف منه إلا تأمين ظل الحاكم، أدام الله ظله.


**********


أخطأت يا "عمر" حين عينت على جيوشك (خالد بن الوليد، وأبو عبيد الثقفي، ولفيف من أصحاب الحـِنكة و الخبرة العسكرية، وأصحاب الآراء المستقلة والشخصيات الفريدة) .. فالأولى بالحاكم يا "عمر" أن لا يعين غير أصحاب الكروش، الذين يقضون فترات الصيف في أوروبا، والشتاء في شرق أسيا، ومن هناك يتابعون آمن الوطن و أمانه، من هناك يأمرون مصانعهم العسكرية بالبدء فوراً في صناعة المكرونة والشيبس وصابون الغسيل، فحياة البذخ التي يعيشها الجنرالات والألوية تستنزف كامل الميزانية العسكرية مما يتطلب منهم البحث عن مصادر دخل مساندة.

الأولى بالحاكم يا "عمر" ألا يعين على الجيش إلا من لا يملك رأياً وليست له شخصية ولا حتى ملامحاً محددة، إن أعلى رتبة عسكرية في جيوشنا العربية يا "عمر" أخف وزناً من حذاء "خالد بن الوليد" فضلاً عن سيفه، وهؤلاء تحديداً من يضمنون للحاكم أن يكون الواحد الأحد، لا شريك له.


**********


أخطأت يا "عمر" بل هذه أكبر أخطائك، أن تُعين على القضاء "علي بن أبي طالب" !.

كيف بالله يتم تعيين إنساناً يتلمس العدل على القضاء؟!، كيف بمن يخاف الله أن يحكم بين الناس؟!، هل يحق للتقي أن يكون قاضياً؟!.

إن من شروط تولي القضاء يا "عمر" أن يكون الإنسان متفتح الذهن "فهلوي" فيقبل الرشوة ويجيد التلاعب بأوراق القضايا، وأن يحابي الكبير على حساب الصغير، وإن لزم الأمر فلا بأس أن يزور لنفسه بضع أوراق ليستولي على أرض هذا وجزءً من ميراث ذاك.

إن القضاء اليوم منصباً عظيم، يفتح أمام صاحبه مجالات أرحب للفساد والإفساد، لهذا فقد أخطأت يا "عمر" حين وليت "علي بن أبي طالب" في هذا المنصب المُهم، فالقاعدة التي تعلمناها في زماننا أن نشر العدل وتطبيقه من دلالات ضعف الحكم.


**********


أخطأت يا "عمر" حين لم تُورِث الحكم لأبنائك، ففي زماننا يولد للحاكم حاكِماً، وللزعيم زعيماً مثله، في زماننا يولد الحاكم والزعامة في جيناته، فهو إذاً الأجدر والأقدر والأجدى بالحكم، لا لشيء إلا لأن أبيه في إحدى الليالي الشاعرية أنجبه.

إن أبناء حُكام اليوم يا "عمر" كالنمل، يتكاثرون فيأكلون الأخضر واليابس، والأقدر فيهم على البطش هو الأجدر بالحكم، لهذا يُعين إبن الحاكم حاكماً وإن لم يطلب أبيه هذا الأمر صراحةً، فالمسألة باتت مسألة عقيدة وإيمان، أن نسل الزعيم كل زعماء، حتى الزاني فيهم والقاتل.

إن الجلوس على كرسي الحكم في عرفنا يا "عمر" يجب ما قبله.


**********


أخطأت يا "عمر" عندما قلت بأننا قومٌ أعزنا الله بالإسلام فإن إبتغينا العزة بغيره أذلنا الله، والخطأ هنا أن هذه المقولة ليست صحيحة بالمطلق، كون إسلامنا اليوم ما عاد إسلاماً واحد، فهنالك إسلاماً ضد الإسلام الذي تقصده، وهنالك إسلاماً نهى إسلامك عن اعتناقه، وهنا رهبانية ابتدعناها، وأصنام نحتناها لنطوف حولها تقرباً لله، وهنا أولياءً يستلمون رواتبهم آخر الشهر من الدولة، ودعاة ينطلقون إحتساباً لتكفير الجموع.

حدد أولاً يا "عمر" طبيعة الإسلام الذي تقصده، هل تقصد إسلام سحق الجماجم وبتر الأطراف والتنكيل بكل معارض حتى وإن كانت معارضته سراً وفي الخفاء؟!.

هل تقصد هذا الإسلام الذي يرى كل فعل وقول هو حراماً بالضرورة، وأن الإنسان عاصياً مذنباً بالفطرة؟!.

هل تقصد إسلام تتبع عورات الناس بغرض تقويم سلوكهم، والتجسس عليهم لنهيهم عن المنكر، وملاحقتهم في الأزقة والطرقات على الصغائر؟!.

أم تقصد هذا الإسلام الجديد والذي يجيز خلوة الفتاة بصديقها طالما ليس في الأمر إيلاج؟!، هذا الإسلام الذي لا يرى شيوخه أي غضاضة بأن تخرج الفتاة للشارع المكتظ بالمارة وهي بقميص النوم، فإن تحرش بها أحد الشباب يُعاقب بالسجن لأنه سمح لنفسه الأمارة بالسوء أن تُفتن؟!، هل تقصد هذا الإسلام مثلاً؟، الإسلام الذي حابى الغرب حتى أجاز إشتهاء الرجل للرجل والمرأة للمرأة تأييداً ودعماً للمثليين؟!.

أي إسلام تقصد يا "عمر"؟ .. هذا الإسلام الذي يعتبر صلاة الشيعي خلف السني كالكفر أو أشد، أم الإسلام الذي يعتبر أن من أبسط حقوق المسلم أن يرتد؟! .. عن أي إسلام تحدثت يا "عمر"؟.
فالإسلام الذي أعزك به الله بات غريباً اليوم، بل من المستحسن ألا نتحدث عنه فضلاً عن السعي لتطبيقه، فكل المعاهدات الدولية لا تقبل بأي حال أن يتم تطبيق الإسلام الذي قصدته، كل المواثيق الأممية اليوم تصنف إسلامك وإسلام صاحبيك في خانة الإرهاب. ونحن يا "عمر" لزاماً عليناً أن نحترم المعاهدات والمواثيق، ففيهما شريعة اليوم.


******************************


تعلم يا "عمر" من واقعنا الذي نعيشه كل يوم، كيف نحيا على الكفاف، بلا كرامة، بلا حقوق، بلا أحلام .. تعلم كيف يكون المهم لديك، بل الأهم، أن تحيا فقط وأن ترضى بأي حياةٍ والسلام، أي حياةٍ تحافظ فيها فقط على حققك في هدر الأكسجين.

تعلم كيف أن القانون لا يحمي المغفلين، مع التنويه أن الجميع يصنفون مغفلين بإستثناء المفسدين وأصحاب المناصب الرفيعة والفضيلة ولفيفاً من أصحاب المعالي والنيافة وكبار رجالات الصحافة .. القانون لا يحمي المغفلين، والمغفل هو تحديداً الذي يلتزم بالقانون!.

تعلم كيف تجلب الإحترام إلى دولتك، وذلك بأن تركع أنت وتُركِع الشعب كله أمام جميع شعوب الأرض، وأن تدعوا أمام أي نازلة ومصيبة إلى عقد المفاوضات السلمية، وأن تدعوا في نفس الوقت إلى إستهلاك المال العام في شراء أسلحة وهمية، ليكون لديك أعظم جيشاً من ورق.

تعلم كيف يخافك الرعية بأن تصلب فرداً من الشعب في مكانٍ عام .. وتُقيم لك تمثالاً مهيب في نفس المكان.

تعلم يا "عمر" أن الدعوة لا تنتشر بالعدل والمعاملة الحسنة ومراقبة الله في السر والعلن ومحاسبة الكبير قبل الصغير، لأنه في واقعنا اليوم تكفي قليلاً من المنشورات والأشرطة الدينية، وجزى الله المحسنين إذا جلبوا معهم كتيباً يتحدث عن الإسلام باللغة الأسبانية، مع ضرورة صرف مبلغ الإنتداب مقدماً، وحجز فندق خمس نجوم شامل الإفطار والمساج، لأن الدعوة لله اليوم باتت وظيفة مربحة.

تعلم منا فـ والله إننا برجالنا ونسائنا وشيوخنا، بالرضع والمساكين والفقراء منا، بوجهائنا ومغفلينا، علمائنا والجهلاء فينا، وبكل حدودنا الجغرافية وملامحنا المنبسطة، لم نعد نساوي في عُرف الأمم إلا الغثاء.

تعلم فإنك لو تعلمت هذا كله أو بعضه، لما بنى الفرس لقاتلك ضريحاً، لو تعلمت لبنى الجميع لك تمثالاً من ذهب يُطاف حوله إلى اليوم، كعادتنا دائماً أمام كل طاغية، كعادتنا دائماً حين ننصاع لمن ينشر الظلم ونقول لمن ينتشر العدل في الأرض قد أخطأت.

0 التعليقات :

إرسال تعليق