أسامة .. أخر الشهداء



كثيراً ما يـُنبهني الضمير أنني سوداوي في نظرتي للمجتمع وقد حاولت أن أرى ألواناً أخرى تموج هنا أو هناك لكنني لا أرى سوى السواد ! ، وكيف لا أكون سوداوياً وأنا أرى هذا الوطن العربي يتلحف بالسواد من رأسه حتى قدميه ، بل وفي كل يوم يـُـجدد طلاء السواد .
أرى جهلاً منتشراً ، ظـُلماً متحكماً ، تخلفاً حضارياً . ثلاث عوامل إنتشرت فينا هي كفيلة بأن تخنق عقلية أي مجتمع لتجعله مجرد هائماً بين الأمم مستجذياً الكرامة من هنا وهناك ولاكرامة في الإستجداء .
ثم يأتي هذا الضمير الدعي وينصحني بالبحث عن بقية الألوان ! ،كيف بالله أرى بقية الألوان في مجمتعات قد توقفت عن اللحاق بالحضارة وسائت فيها الأخلاق وفسدت الضمائر ثم سادت الأنانية ، هو إنحطاط بكل ما للكلمة من معنى فهل للإنحطاط لوناً غير السواد ؟ .
إن مجتمعاً يـُـحارب الإبداع ويـُعظم الأشخاص بل ويـُعظمهم حد التقديس ، هو مجتمعاً جاف متيبس لن تـُنبت فيه نبتة حياة ، وسيتهرب منه السحاب ، بلا أدنى شك .
إنني والله أترحم على ذلك الزمن الجميل زمن الجاهلية الأولى عندما كانت الأصنام من تمر ومن حجر فإذا ما جاع العابد أكل معبوده أو إذا ما برد هشمه وسد به الثغرات في الغرفة ، أما زماننا فالأصنام فيه لا تـُـفيد لا تـُـسمن من جوع ولا تقي من برد ، نظل لها عاكفين متحملين سياطها وجورها وجبروتها ، ثم نستمر في السجود لها و الركوع بكل ذل وهوان وجوع وفقر ، ورغم هذا تقديسنا التام لها إلا أننا لا نريد منها أن تلقي علينا بكسرة خبز أو تقينا لهيب التخلف ، إنما فقط نعبدها لكي نراها في نعيم لا يـُـكدر صفوها كادر ، وإن أخذت أموالنا وضربت ظهرونا !
أغلقنا على أنفسنا كل منافذ الحضارة ثم إنغلقنا على ذواتنا لتتيتم أمالنا وتتشرد كرامتنا ، فقط لنظل لتلك الأصنام عاكفين ، في الوقت الذي ترفل هي في النعيم وتغرف من أقواتنا و أموالنا ماتشاء بلا حساب أو رقيب ، وحـُق لهم فالعيب ليس فيهم إنما فينا ، فالغبي فقط من يرى أناساً تركع له وتـُعظم فيه ثم لا يتكبر ويتجبر ويمتطي ظهورهم كأنهم جواريه .
يأتينا بمظهر الحاكم العادل ، الملك الرحيم ، الرئيس المناضل ، الأخ القائد . يأتينا بمظهر العالم التقي ، الشيخ الجليل ، الزاهد الورع . يأتينا بمظهر المناضل الأبي ، المجاهد الرعديد ، الفارس المـُـهاب . وكيفما أتانا ، بأي شكل وبأي لون و بأي وجه لا نسأل ولا نستفسر ، فقط نـُسارع بالركوع له و السجود ، حتى قد ألفنا الخنوع .
ودائماً هذا الصنم هو رمز الكمال و الإجلال في أعيننا ، فلا يجوز أن نرى فيه نقصاً أو عيباً ، لا يصح أن نقول أنه قد يـُخطيء ، بل ونلعن أنفسنا وأبنائنا وأبائنا إن قالوا أنهم كالبشر يـُخطئون ! .
قبل أربعين أو خمسين عام كان هنالك شاب من صعيد مصر " سربوت سكرجي عربجي " ، تجوز فتاة من بريطانيا ورضيت أن تعيش معه في مصر ، فعاملها بكل إحتقار " يضربها يشتمها يغتصبها كأنها حيوان لا إنسان " وبعد سنين من التعذيب إستطاعت أن تقنعه بزيارة أهلها في بريطانيا ، هناك شكت أهلها فلم يستطيعوا الصبر وأعماهم الغضب لينهالوا عليه بالضرب حتى مات ولم يـُـشفى غليلهم فراحوا يـُـمثلون بجثته.
وصل الخبر إلى مصر فغضبت مصر كلها وتوعدت بالويل و الثبور ، والقصة طويلة ، خلاصتها أن مصر طالبت بإعادة جثة هذا المجاهد النبيل ! وما إن وصلت الجثة حتى إستقبلوها إستقبال الملوك و الرؤساء ، وبكته المساجد والكنائس ، كل هذا لأن " الأخر " هو الذي قتله ، ولم يتسائل أحد عن ماضيه الأسود العفن ! .
فقط لأن الأخر قتله بات هو الشهيد المفغور له الطاهر العفيف الذي لم يرتكب أي حقارة !
وهذا صدام الذي أذاق الأمة ويلات غبائه ، حرق شعبه ، قتل الملايين ، شرد ملايين ، ثم عندما قتله " الأخر " ، فوراً غفرنا له كل ماضيه الذي يئن بالسواد ، وبات في ليلة وضحاها شيخ أهل الجنة المغفور له بصك إلاهي ! .
ثم جائت أخيراً حادثة مقتل أسامة بن لادن هذه الحادثة التي ألجمت ضميري أن لا لون هنا سوى السواد ، نسينا كل ماضيه وأنه لم يـُـقدم للأمة سوى الكوارث وأنه عندما لم يُـشبعه منظر الدماء في الغرب جاء يبحث عنها هنا ، فقط لأن الأخر قتله أصبح في العليين مع الأنبياء و الأولياء في جنة النعيم .

صحيح أن " الأخر " أحقر من كل هؤلاء وأنه دموي لأبعد الحدود ، صحيح أن " الأخر " ليس سوى باحث عن ما يخدم مصلحته ، وإن كان الثمن إبادة أمة .
لكن هنالك من هو أشد ضرراً منه ، إنه نحن ، نحن الذين عبدنا الأصنام وقدمنا لهم حريتنا وكرامتنا كقربان ، فكيف نرجوا من الأخر أن ينصفنا ونحن نتمرغ في الذل و الهوان بإرادتنا ؟ .
نحن الذين نزعم أن لا معصوم من الخطاء والكمال سوى الأنبياء ، لكن الواقع أننا نـُخالف زعمنا بعصمة الأنبياء ، فكثيرون في نظرنا لا يـُخطئون ومن الكفر القول بأنهم بشراً ناقصون ، سواءً كان حاكماً أو عالماً أو مجاهداً أو حتى مثقفاً أو أديباً .
كأننا نعشق أن نـُذل ونـُمجد كل صغير .ونـُعظمه .ونعطيه منزلة أعلى من باقي البشر ، وسيعتلي تلك المنزلة حتى لو داس على رؤوسنا .

قد أوضح المفكر السعودي " إبراهيم البليهي " ان العالم له مفاتيح ويجب ان نحسن استخدامها ، معتبرا ان الغرب تقدم عندما تخلص من تقديس المرجعيات ، وعندما اعمل الفكر الفلسفي المبني على النقد . وبأن هذا هو الوقود الذي يحرك العقل الاوروبي اليوم ، فكلما مال الى الركود جاء العقل النقدي ليحركه .

أتمنى فعلاً أن نركل كل تلك الأصنام وننتبه إلى البناء ، أتمنى أن نـُعلن أن أسامة أخر الشهداء ولا قـِديس بعده ، لنلتفت لحاضرنا ، لننتبه لأبنائنا حتى لا يستمروا على هذا الخنوع ، قد هرمنا من الإنحناء والبحث عن المزيد من الأصنام نظل لها راكعين .

أتمنى !!

0 التعليقات :

إرسال تعليق