الهروب إلى الماضي


الماضي ذكرى.. والحاضر واقع.. والمستقبل مجهول.
وطبيعة الإنسان أن يخاف من المستقبل؛ لأنه في مجهول. غير أن التعلق بالماضي بشدة غالبا لا يأتي إلا إن كان الواقع مزريا، وفي هذه الحال فإن الأمر لا يعدو كونه محاولة للهروب من الحاضر، للبحث بين ثنايا التاريخ عن قيمة مُتوهَمة يُطمِئن بها الإنسان نفسه أنه على قيد الحياة ثم لن يطمئن!؛ لأن الحاضر فقط هو ما يُضيف إلى الإنسان قيمة فعلية.
إن سر تفاخرنا اليوم بمآثر الأجداد، يكمن في أنهم أضافوا لحاضرهم ذلك الجديد الذي يتناسب مع واقعهم، ولو أنهم هاموا بسلفهم وتغنوا بماضيهم لما تركوا لنا اليوم ما يستحق أن نتفاخر به.. وحالنا اليوم يُنبيء في الغالب بأن من سيخلفنا لن يجد لديه ماضيا يتفاخر به؛ لأن ماضيه الذي هو حاضرنا لا شيء فيه يُورّث، وأحد الأسباب هنا أننا هائمون بماضينا جدا حتى أصبحنا مُجرد حلقة وصل بين الماضي والمستقبل ولا جديد.
من طبيعة الحياة أنها كتيار متدفق على الدوام، تيار لا يسكن ولا يتباطأ عند مرحلة معينة، ووحده المجتمع الذي يسمح لنفسه بالانجراف مع تيار الحياة بكل ما يحتويه من ثقافات وعادات وتقاليد دون خوف، هو من سيترك للمستقبل أثرا يستحق الإشادة به.. أما المجتمع الذي يخشى الانجراف، فسيتخطاه التيار ويتركه مكانه كأن لم يكن، فالحياة ستستمر دون الالتفات إلى المتخلف عنها سواء كان المتخلف إنسانا أم مجتمعا كاملا.. والتاريخ مليء بأمم مرت فيه دون أن تُضيف لواقعها شيئا يُذكر، فاستخسر التاريخ حينها أن يكتب عنهم شيئا، ليُصبحوا اليوم كأن لم يكونوا، على الرغم من أنهم في حاضرهم ربما كان لهم ثِقل إلا أنهم بالنسبة للتاريخ ليسوا أكثر من ثقل ميت.
هتلر قاد ألمانيا إلى حرب عالمية أنهكتها وتكالبت أغلب الأمم عليها ودخلت بسببه في فتنة شديدة حتى خسرت أغلب مواردها المادية والبشرية، ثم وفي سنين معدودة تعافت ألمانيا من تلك المأساة وحشدت كل طاقاتها للبناء والتعمير، بينما نحن ما نزال بعد ألف وأربعمئة عام نُحمِّل معاوية ـ رضي الله عنه - أغلب اللوم ونضع على عاتقة معظم أوزار حاضرنا.. نحن هنا نُحاكِم معاوية على ما نحن فيه تهربا من تحمل مسؤولية واقعنا كاملة.
وعلى الجانب الآخر، نرى في الماضي عمر بن عبدالعزيز، كماضٍ مُشرِق ، نُحكِمه في واقعنا.. نحن أمام عينة عمر التاريخية نبحث عن مساحة نمارس فيها حقنا الطبيعي من الشهيق والزفير، هذا الحق الذي لم نعد نملكه في الحاضر، والحقيقة أن تغنينا بأمجاد ماضٍ بائد لن يجعلنا نمتلك حق الاستنشاق، إنما نتوهم فقط أننا "أحياء ".
صحيح أن الماضي جزء من الحاضر بوصفه مُكونا رئيسا له، فالحاضر ليس إلا وليد تراكمات الماضي، ولا مجال أبدا للانسلاخ عنه، لكن من غير المنطقي أن يكون الماضي متحكما في الحاضر وفاعلا فيه بالشكل الذي نشهده .
إن المجتمع الطبيعي هو الذي يلجأ إلى الماضي فقط للإسهام في إثراء الواقع، أما المجتمع غير الطبيعي، فهو المجتمع الذي يحتكم إلى الأموات أو يُحاكمهم في كل أمور حاضره.. ونسل الأموات "أشباح ".
قد يعتقد البعض أني أبالغ في تقبيح ماضويتنا، حسنا.. إن الأموات يتحكمون بنا بشكل كبير جدا لدرجة أن هنا معتقدات قائمة على أفعال الأموات، ومذاهب سائرة على خطوات الأجداد، لا حياد ولا انحراف عما فعله السابقون: "إنا وجدنا آباءنا على أُمةٍ وإنا على آثارهم مُقتدون"، دون أن ننتبه إلى حقيقة أن أولئك السلف لو كانوا على نهجنا فعلا لأبقوا على الجاهلية الأولى !
بعد كل ما سبق، يُمكن القول: إن الجزء الأكبر من الماضوية التي نعاني منها اليوم ليست أكثر من لعبة سياسية تلعبها السلطات ككل، فكثير من رجال الدين والإعلام يُبحرون بعيدا عن الواقع، ويغرقون في الوهم.. فلم يعد مسموحا لأحد أن يكون فاعلا في حاضر مجتمعه؛ لأن بعض الأنظمة تخشى أن يلتف الجمهور حول من يُثري الواقع.
الأمر أشبه بالصراخ واستعراض العضلات الذي يُمارس في مجالات الرياضة والفن، فالكل في تلك المجالات يتحلى بأريحية نقدية كاملة؛ لأن الصراخ هناك هو صراخ في فضاءات شِبه تخيلية تخلق في المجتمع حرية زائفة لا أكثر.
كذلك الأمر عند الاحتكام إلى الماضي؛ لأنه أيضا فضاء شِبه تخيلي لا حياة فيه، وتلك السلطات لا تُمانع في ذم أو تقديس من عفى عليه الزمن لكنها تُمانع عند الانتباه إلى المفسدين الذين يعيثون في الحاضر الفساد !


[ الهوية هي ما نُورِث لا ما نَرِث، ما نخترع لا ما نتذكر.. الهوية هي المِرآة التي يجب أن نكسرها كُلما أعجبتنا الصورة ] .. محمود درويش

0 التعليقات :

إرسال تعليق