انعكاسنا في المرآة

لنتوقف قليلاً لكي نتأمل انعكاسنا في المِرآة، ماذا سنرى؟ .. مجتمعا متحررا أم منغلقا أم منفتحا؟ ماذا سنرى بالضبط؟ أم إننا نخاف النظر في المرآة تجنباً لرؤية الحقيقة؟ وما هي الحقيقة التي نخشى رؤيتها؟ أم أنه ليس هنالك ما نخشاه، لكننا فقط لا نهتم بالنظر إلى المرآة اعتقاداً بأننا قادرون على الوصول إلى طبيعة المجتمع "شفهياً" بأن يصف بعضنا لبعضنا الآخر طبيعة المجتمع كما يعتقدها، فيأتي ذلك البعض الآخر بوصف مغاير، ثم يدعي كل طرف أن الحقيقة لديه وأن الآخر يجهل طبيعة المجتمع.
ولا أدعي أنني قادر على رؤية انعكاسنا في المرآة، لكن ومن خلال نظرة تلصص إلى حال المجتمعات الأخرى يُمكِن القول إن المجتمع الطبيعي هو المجتمع الذي إن نظر في المرآة فسيرى مجموعة انعكسات مختلفة متضادة في كل تفاصيلها لكنها في المجمل ستُعبِر عنه.. الأمر أشبه بلوحة رسام، تكون اللوحة جميلة عندما يضع الرسام في كل جزء تفاصيل وألواناً مختلفة، وتكون بلا معنى إذا ما طلاها بلون واحد ليس فيه أي تفاصيل، كانت مجرد ورقة بيضاء فجعلها خضراء دون أن يرسم عليها شيئاً!
إن كان ما يضفي الجمال على لوحة متزاحمة الألوان هو التناسق، فإن ما يضفي الجمال على مجتمع متزاحم الثقافات هو التعايش، وأي مجتمع لا تتعدد وتتزاحم فيه الثقافات لن توجد في قاموسه كلمة تعايش من الأساس، لعدم الحاجة إلى تنسيق لوحة من لون واحد.
إن جزءاً كبيراً من مشكلتنا أن كل طرف يُريد أن يقنع الطرف الآخر بأن المجتمع لو نظر في المرآة رأى انعكاساً واحداً بعينه، ومن هنا تبدأ محاولات إقصاء الطرف الآخر على اعتبار أنه "ليبرالي" لا يُمثل طبيعة المجتمع أو "إسلامي" أيضاً لا يُمثل طبيعة المجتمع (كمثال)، برغم أن المجتمع يجب أن يتكون من كل الاتجاهات لأن الاختلاف والتضاد هنا سيعرف المجتمع على مفاهيم عدة كالتعايش والتسامح والتكامل.
ويمكن القول إن غياب الاختلاف سيجعل من التشابه داءً، ومع الوقت سيتطور داء التشابه إلى خلاف لينتهي ـ في الأخير ـ إلى صراع.. وفي المثل: "الاختلاف لا يُفسِد للود قضية"، فإن لم يوجد الاختلاف، فمن الطبيعي أن يختفي الود تِباعاً، وبلا ود فإن كل القضايا فاسدة!
الأمر نفسه ينطبق حتى على اللبنة الأولى في المجتع "العائلة"؛ فلو أن أفراد العائلة كلهم يرتدون الزي نفسه ويحملون الأفكار نفسها والطبائع نفسها، لساد جو من الكآبة ككآبة أن يتحدث المرء إلى نفسه في المرآة. الزوج والزوجة إذا ما كانا متشابهين فغالباً ما يلجآن إلى الطلاق العاطفي لأن تشابههما في كل شيء أو فرض تشابه متوهم هنا سيلغي مفهوم التكامل تماما.
والأمر يتكرر حتى على مستوى الإنسان الفرد؛ فعقله ـ على سبيل المثال ـ يتكون من مجموعة من الأضداد من الفكرة ونقيضها والصحيح والخاطئ، ثم ومن خلال تلك الأضداد تولد المعرفة وتتكون المعاني، فإذا ما حذفنا عنصراً اكتفاء بآخر فستتلاشى قدرة العقل على الإبداع.
إن الاختلاف سُنة من سنن الله في الوجود كله، ولو أراد الله استثناء الإنسان والمجتمع الإنساني من هذه السُنة لما خلقنا من الأساس .. نحن إذن بهذا النهج نريد أن نسير عكس الوجود، فطبيعي إذن ألا ننجح ولن ننجح أبداً، لكن عدم النجاح لا يمنع من تكرار المحاولة، هذا التكرار جعلنا نتخذ من النهي القرآني: (لا إكراه في الدين)، نهجاً نسير عليه ونُعممه ليس على الدين فقط إنما على كل شؤوننا.
نمارس عملية إكراه بعضنا بعضا على أن نكون نُسخا متشابهة في كل شيء، ثم يأتي من يأتي بشيء مختلف لنعاديه معاداتنا للشيطان الرجيم اعتقاداً بأن في تشابهنا توحيد صف على الرغم من صعوبة توحيد صف كل شحناته متشابهة!
ومن أجل كل ما سبق، يحق لنا أن نستغرب إذا وجدنا شخصاً يتحدث في الإعلام برأي مستقل حول قضية ما حتى وإن كانت "حفل زواجه"، فقد تعودنا على ترديد عبارة: "شعوري شعور أي مواطن"!
عموماً.. إن من أهم نتائج إصرارنا على أن يكون انعكاسنا في المرآة عبارة عن لون واحد هو "غياب الحوار"؛ هذا الغياب الذي يُؤكد على أننا في خلاف فعلي، خلاف طرأ كنتيجة منطقية عند تلاشي الاختلاف، لتُستبدل حينها لغة الحوار بتراشق اتهامات لا هدف منه إلا إغاظة كل طرف للآخر.
لكن وبعيداً عن نقائصنا، إن الواقع اليوم يشهد أننا في النهاية مجتمع طبيعي، بدلالة أننا نشهد تغيراً في المشهد الثقافي والفكري، تغيراً طرأت عليه العديد من المستجدات وبرزت فيه روح الانعتاق، نعيش مرحلة "العلاج" حيث يؤمن الكثيرون اليوم بأن "المختلف" في هذا الوطن لم يأت بدين جديد، بل لم يقل بأن صلاة الفجر ثلاث ركعات، وما عدا ذلك ففي الأمر سعة!
رسالة أخيرة.. إن في الجسد جراثيم مهتمها أن تقاوم العلاج للحفاظ على المرض وتطويره!.. إليها نقول: ستسمر الحياة.

0 التعليقات :

إرسال تعليق